يجسد إيثري بنظرته الحادة هالة تمثل جسمه النحيف المكثف بقوة الأحزان و التفكير في قضايا الوطن. يمثل حقا واجهة ثورية من طراز الزمن القديم وحلم الكرامة الجديد. تعلم ايثري صغرا مواجهة إكراهات الحياة بكل ثبات ورزانة، علمته تجارب الحياة كيف يقف في الصفوف الأمامية لمواجهة فداحة العيش القاهر، و البحث عن خلق فجوات صغيرة للحرية.
هي الحياة التي أصبحت بالوطن تمثل أدوار الغول في الأسطورة المغربية القديمة، غول يزحف فسادا على الأخضر و اليابس من خيرات الوطن.إنه إيثري الذي ألف التعايش مع الثورة الظاهرية لحركات مد البحر العلوية، لكنه لم يألف جزر واقع الحياة السفلية ورجتها المدوية بالمفاجئات المستجدة والمطبات المميتة، ورث من البحر ثنائية الإيمان بالحياة الفانية والموت الخالد.
لم ينس قط دم تلك الفتاة الجريحة المنكوبة وسط البحر، تذكر حين تطوع وعاود الرجوع إليها في مرمى المياه العاتية لإنقاذها خطفا من تلك (الزودياك)العاطلة في وسط البحر جراء رصاص المياه الدولية. لم تستطع ذاكرته أن تتخلى عن دمعات تلك الفتاة التي فقدت حياتها بالهروب من أرض الوطن، لم ينس عندما حملته عهدة مذكرتها الخاصة وتوصيلها يدا بيد لأمها في ذلك الحي الهامشي الذي لا يصله الحمام الأبيض إلا في كفن الموت الخالد.
حين وصل إلى تلك النقطة الهامشية التي لا تبعد عن ذلك الحي غير النائي بالبعد عن دوشة حياة المدينة إلا برزمة كيلومترات عشرية. أول خطواته في ذلك الهامش المنسي، لاحظ ايثري أن الساكنة نكست الفرحة حدادا على موت شهيدة حياة الحريك. أحس بأن سيناريو كتابة تلك الرسالة قد مر بين أزقة هذا الحي البئيس، قرأ في العيون الحاضرة به الحزن على الموت المتكرر، لاحظ صور القهر الجماعي و الحكرة على أبناء حي الهامش. تخيل سماع كل زغاريد الأمهات وهي تبكي خروج نعش موت البحر، سمع صوت الرفض لرصاص الموت القاتل بسبب عوز مستقبل الوطن، سمع الشباب يردد أغنيتها المفضلة (زغردي يا أمي يا أم الثوار… بلادي حبلى بالأحرار… زغردي فالفجر دم ونار… زغردي تسمعك كل الأطيار… إفرحي يا أمي فأنا أمشي نحو الشمس بالإصرار.. بالإصرار…صوتي جميل وشعبي أنبأني بأكبر انتصار.. بأكبر انتصار…) .
لم تكن الأم إلا تلك المرأة المألومة التي تعرف عليها ايثري داخل المنزل دون تعيين من أحد و لا إشارة بينة، لم تكن إلا والدمع لا زال يسيح من عيون باكية على مصير ابنتها المفزع. حين اقترب ايثري منها ورغم عيونها المقفلتين ألما، أحست برائحة ابنتها حاضرة بالغرفة، أحست أن الحياة عادت إلى المنزل مرة ثانية جريحة، اشتمت حبر كتابة ابنتها بين أيدي ايثري وفتحت عينيها على مذكرة طفلتها الميتة. وقفت واحتضنت ايثري وبكت. حين وقفت، وقف كل النسوة بكاء مدويا وتعدادا لمحاسن شابة موت رصاص البحر.
صدم ايثري من مواقف الموت والحزن وهو الذي عايشها في حياته مرات عديدة، تذكر موت أمه صغرا وهو يبكي بجانب نعشها (وا أمي وا أمي … فيقي…) سالت دمعات موازية لحزن أسرة موت فتاة البحر، سالت دمعة حارقة على أحداث الماضي والحاضر بكل عناوين منازل الموت. لم تسلم مذكرة الشابة من ضم صدر الأم، لم تسلم من عويل مدوي في غرفة تزيد صغرا من كثرة حضور المعزين و العيون الباكية، لم تسلم من تقبيل حروف كتابة كتبت بدماء آخر ساعات الموت.
جلس ايثري في زاوية تم فسحها له من قبل نسوة المأتم، حينها آثرت الأم المكلومة في كبدها الوحيدة أن تضع راحتها على عيون بكائه المتناسل بالفيض المتدفق، آثرت على مسح دمعاته بمنديل بنتها الذي لم يفارقها منذ رحيلها المميت. حين مر ذلك المنديل على وجهه الحزين، تذكر رائحتها الأليمة بالجرح والدم سيلان من جسمها، تذكر أنينها ومعاودة ( سمحي لي يا لميمة …سمحيلي)، تذكرها حين حملها إلى داخل المستشفى وهي تشده شدا على جسمه من شدة الألم الداخلي الحارق. تذكرها حين أسعفها بأمل الإنقاذ من تلك (الزودياك ) المشؤومة وهي كانت تشد على مذكرتها الوفية بالبقاء معها مهما حدث ، تذكر تكرار سؤالها قبل أن يودعها، هل سأموت؟، هل سأموت؟، تذكر حين مدت مذكرتها إليه وهي تسأل عن اسمه، وحملته وصية إن هي ماتت أن يحمل تلك المذكرة إلى أمها، قائلة (ربي يرحم واليدك يا ايثري)…).
ذ/ محسن الأكرمين.
عن موقع : فاس نيوز ميديا