بقلم : الدكتور عبد الجبار شكري
في البداية أود أن أشير إلى أن مفهوم التحرش الجنسي ، فيه الكثير من الغموض من الناحية الأخلاقية والقانونية ، ويتناقض مع المرجعية العلمية السيكولوجية والسوسيولوجية ، بحيث ينظر إلى أي مبادرة من جنس إلى الجنس الآخر للدخول في علاقة عاطفية أوجنسية ، على أنها تحرش جنسي و سلوك لا إنساني ولا أخلاقي ولا قانوني .
إن مفهوم التحرش الجنسي بهذا المعنى ، هو مفهوم مغلوط فالتحرش الجنسي ليس معناه أن أي مبادرة من طرف شخص نحو الجنس الآخر ، لتأسيس علاقة عاطفية أو جنسية معه ، تدخل في باب التحرش الجنسي، فعندما يقبل الآخر في الدخول في هذه العلاقة ، فلا يعد تحرشا جنسيا . أما عندما لا يقبل الطرف الآخر ، ولكنه لا يتعرض للإكراه ومضايقة الآخر الذي بادر إلى طرح العلاقة فلا يعد ذلك تحرشا جنسيا . لهذا فإذا اعتبرنا أن كل مبادرة عاطفية أو جنسية نحو الجنس الآخر تعد تحرشا جنسيا فلن تتأسس أية علاقة عاطفية بين الجنسين يمكنها أن تؤدي إلى الزواج وتكوين أسرة ، خصوصا إذا تحولت إدانتها إدانة قانونية يعاقب عليها القانون بالسجن .سيتحول الخوف إذن عند الناس من الإدانة الأخلاقية والقانونية، إلى فوبيا نفسية واجتماعية مرضية ، من الإقدام على أي مبادرة عاطفية تتوجه إلى تكوين أسرة .
إن الأسرة لا يمكن أن تتأسس إلا بارتباط الجنسين فيما بينهما امرأة ورجل ، وهذا الارتباط إما أن يتم برغبتهما وإرادتهما أو بدون رغبتهما و إرادتهما . ولكن هذا الارتباط الأنطولوجي النفسي/الجنسي والاجتماعي ، بين الجنسين ، لا يمكن أن يقوم بانغلاقه على ذاته في حالة استهلاكه ، واستثمار خصوصيته البرجماتية النفسية والاجتماعية ، إلا بمبادرة أحد هذين الثنائيين ، اتجاه أحدهما، كما يثبت ذلك القانونين السيكولوجي و السوسيولوجي .
إن المبادرة بالارتباط تنسج خيوط تأسيس انطولوجيا جديدة تأخذ في الكينونة الإنسانية والاجتماعية هوية ودلالة الأسرة . يصبح لها تجاور أنطولوجي في عوالم مشتركة ، تتفاعل فيما بينها لتنصهر في الهوية المركبة والموحدة للمجتمع . إن الرغبة في الارتباط ، تؤسس في نفس الوقت الرغبة في معرفة الآخر قبل الدخول في أي إجراءات قانونية رسمية ، إن المبادرة ضرورية في هذه الحالة لمعرفة الآخر ، وبدونها لايمكن اختراق عوالم الآخر النفسية والاجتماعية ، إن هذه المعرفة ، ستعطي الفرصة لأحد الثنائيين في الاستمرار في مشروع نسج العلاقة الزوجية ، أو التوقف والانسحاب ، دون الوقوع في الندم من النتائج السلبية للارتباط ، وحماية الأنا من الدخول في متاهات مرهقة ليست لديه القدرة على تحملها، وتعمل على زعزعة توازنه في علاقاته التدبيرية بالأنساق الأخرى للجهاز النفسي .
إن هذه المبادرة اتجاه الآخر ضرورية لمعرفة الآخر ، حتى وإن كان النقاش السائد بين علماء النفس وعلماء الاجتماع والفلاسفة في إمكانية معرفة الآخر . فبالنسبة لجان بول سارتر يرى أن معرفة الآخر ، مستحيلة في حالة ما إذا احتفظ الآخر بكينونته الإنسانية ، التي هي الوعي والحرية والإرادة ، وفي هذه الحالة ، لاتتم معرفة الآخر ، إلا بسلبه لهذه الكينونة ، وتحويله إلى مجرد شيء كباقي الأشياء الأخرى . في حين يرى موريس مرلوبونتي ، أنه لا يمكن سلب الغير منه كينونته الإنسانية ، بل يمكن الاحتفاظ بها و معرفته من داخل هذه الكينونة وذلك من خلال التواصل معه ، ومشاركته مشاركة وجدانية . من هنا تأخذ المبادرة العاطفية اتجاه الجنس الآخر شرعيتها في الوجود أولا من أجل اقتراح مشروع العلاقة ، وثانيا من أجل معرفة الآخر .
لكن كيف تتحول المبادرة إلى تحرش جنسي بين الرجل والمرأة عندما تكون هناك مبادرة من جنس إلى الجنس الآخر، و نجد أن هذا الأخير قد رفض هذه العلاقة ، ولا ينسحب الطرف الآخر المبادر ، ويمارس عليه مجموعة من الضغوط والا كراهات والمضايقات نكون آنذاك في عمق التحرش الجنسي . بمعنى أن هذه المبادرة لا تتحول إلى تحرش جنسي إلا عندما يرفض الجنس الآخر الدخول في هذه العلاقة العاطفية ، ويتعرض لمضايقات الآخر ولانتقامه من أجل أن يرضخ للدخول في العلاقة معه . وهذا هو التحرش الجنسي ، الذي يجب إدانته إنسانيا وأخلاقيا وقانونيا .
و من المعروف تقليديا أن الرجل هو الذي يبادر المرأة و هو الذي يتحرش بها جنسيا ، هل هذا يعني أن المرأة لاتبادر الرجل ولا تتحرش به جنسيا ، للدخول معه في علاقة عاطفية وجنسية ؟
منذ القديم كان الجنسين معا من الذكر والأنثى ، يتناوبان معا على المبادرة العاطفية وعلى التحرش الجنسي اتجاه بعضهما البعض ، وكمثال على ذلك تحرش امرأة العزيز بيوسف عليه السلام، كما ورد ذلك في القرآن الكريم . إلا أن شكل وطبيعة المبادرة تختلف بين الرجل والمرأة . ذلك أن المبادرة عند الرجل نحو المرأة تكون لفظية صريحة ، في حين أن المبادرة عند المرأة نحو الرجل في الغالب ما تكون غير لفظية وغير صريحة، وتتم بطريقة غير مباشرة ، لكن في حالة عدم الاستجابة تنتقل المبادرة للإعلان الصريح عن ذاتها .
بالنسبة للرجل في المجتمع المغربي ، تكون المبادرة العاطفية نحو المرأة صريحة ومعلنة، تتم بالتعبير الجسدي واللفظي المباشر ، نحو المرأة التي يرغب فيها ، أو أنه يحيل الأمر إلى وسائط متعددين ، إذا كان الأمر لا يسمح له بالاتصال . وصراحة هذه المبادرة وعلانيتها التي يمارسها الرجل تأخذ شرعيتها من المجتمع المغربي ، ففي التقاليد والعادات المغربية فمن المفروض أن الرجل هو الذي يخطب المرأة من أجل الزواج وتكوين أسرة . وبالتالي فهو الذي يجب أن يبدأ بالمبادرة في تأسيس مشروع العلاقة .
أما بالنسبة للمرأة في المجتمع المغربي ، فالمجتمع يدين أخلاقيا وقيميا ، المبادرة الصريحة للمرأة اتجاه الرجل ، فهي تدل بالنسبة إليه على وجود شبقية جنسية لديها قد لاتجعلها تتحكم في رغباتها وشهواتها ، وتصون نفسها في حالة الزواج ، كما أنها تدل بالنسبة للمجتمع على وقاحة المرأة وعدم الحياء ، في التعبير عن رغباتها وشهواتها مما يدل على أنها مرت بتجارب عاطفية وجنسي متعددة جعلتها جريئة ووقحة في التعبير من خلال هذه المبادرة العاطفية والجنسية نحو الرجل. وهذه الإكراهات الاجتماعية لا تلغي مبادرة المرأة في كل حالات ، بل هي تلغي فقط التصريح بها ، ولكن نجد المرأة تعبر عن مبادرتها للتعبير عن رغبتها في الرجل الذي تريده بطريقة خفية ، وغير لفظية وغير مباشرة . وتصل بها المبادرة إلى درجة التحرش الجنسي بالرجل بشكل غير صريح أو بشكل صريح .
تتحرش المرأة بالرجل جنسيا إما بشكل غير صريح أو بشكل صريح ، وذلك من خلال ما يلي :
أولا ، تتحرش المرأة بالرجل جنسيا من خلال إظهار مفاتنها الجسدية بواسطة التأثيث الاستيطيقي للجسد بواسطة اللباس والماكياج ، للرجل الذي ترغب فيه ، كلما كانت هناك فرصة الاجتماع به ، وفي حالة رفضه تصفه بأبشع الصفات التي لا تدخل في صفات الرجولة والفحولة الذكورية . وتنسج حوله إشاعات كثيرة تضر به . وتقوم بإشاعتها في معارفه ، ولا تكف عن ذلك حتى يخضع لها الرجل في تحقيق ما ترغب فيه .
ثانيا ، تتحرش المرأة جنسيا بالرجل الذي ترغب فيه ، من خلال مطالبته بإنجاز عمل معقد ومستمر يخصها ، حتى تخلق فرص للالتقاء به ، وأثناء اللقاء تبدأ معركة الهجوم العاطفي الجنساني بالمغازلة بالعيون ، والحركات الجسدية ذات الإيحاءات الجنسية ، والتعابير الرمزية ذات الإيحاءات العاطفية والجنسية الشبقية . لكن في حالة رفضه تثور عليه ، وتمارس عليه العنف النفسي ، وتخلق له مضايقات ومشاكل لا تتوقف عنها ، حتى يخضع للأمر الواقع .
ثالثا ، أصبحت المرأة تعلن صراحة باللفظ ، بمبادرتها العاطفية والجنسية للرجل الذي ترغب فيه ، وتطلب منه الدخول معها في علاقة عاطفية/ جنسية ، لكن في حالة رفضه ، تنتقل إلى درجة التحرش به جنسيا ، وذلك بإكراهه على القبول من خلال خلق مشاكل له ومضايقته باستمرار حتى يقبل بما تطلبه منه .
هناك مجموعة من الأسباب الذي تدفع بالمرأة إلى المبادرة العاطفية والجنسية بشكل صريح نحو الرجل الذي ترغب فيه ، والتي تصل أحيانا إلى درجة التحرش الجنسي
لقد أصبحت المرأة المغربية في المجتمع المغربي المعاصر ، في الكثير من الأحيان ، تتخلى عن المبادرة الغير الصريحة والغير المباشرة ، وتعلن مبادرتها بشكل صريح ومباشر ، نحو الرجل الذي ترغب فيه ، دون أن تتعرض للموانع السيكولوجية للأنا الأنثوي ، ودون أن تتعرض كذلك للموانع الاجتماعية للهوية الأنثوية المغربية ، وقد تصل بها أحيانا إلى درجة ممارسة التحرش الجنسي على الرجل . إن هذه المبادرة ، وأحيانا التحرش الجنسي ، ترجع إلى مجموعة من الأسباب النفسية والاجتماعية .
ففيما يتعلق بالأسباب النفسية التي تدفع المرأة إلى التحرش الجنسي بالرجل بشكل صريح ترجع إلى ما يلي :
أولا ، توفر بعض النساء على قدرة جنسانية/ نفسية قوية ، تفوق أحيانا الجنسانية/ النفسية للرجل ، تتحول عندهن إلى طاقة سيكولوجية ، تدفع بهن إلى البحث باستمرار عن موضوعهن بشكل مباشر و صريح ، وفي حالة وجوده تتشبثن به ولا تستطعن ولا تقبلن التخلي عنه .
ثانيا ، الشعور بالدونية والمهانة لبعض النساء- من طرف الرجال – ذوات الطبع والمزاج المتمردين ، فيسعيين إلى فرض أناهن الأنثوي ، وإثبات هويتهن الأنثوية ، كأمر واقع متمرد ، على السلطة والهيمنة الجنسانية للأنا الذكوري، على جنسا نيتهن ، وذلك من خلال مساواة أناهن الأنثوي مع الأنا الذكوري ، فيما يملكانه معا وهي الجنسانية الشبقية ، بشهواتها ورغباتها الشبقية ، التي لا يمكن إشباعها إلا من خلال الاختراق والهجوم والإثارة الشبقية اللذية للجنسانية الذكورية . وهنا تكمن فائدة ونفعية المبادرة أو التحرش الجنسي للمرأة بالرجل الذي ترغب فيه .
ثالثا ، إن بعض النساء السلطويات تريد أن تهيمن على الأنا الذكوري واستصغار فحولته الذكورية ، وذلك بقلب جميع الأدوار ، وتبني الأدوار الذكورية ، لإلغاء سلطته وهيمنته الذكورية ، بما في ذلك المبادرة العاطفية والجنسانية .
أما بالنسبة للأسباب الاجتماعية للتحرش الجنسي للمرأة بالرجل ، فترجع إلى مجموعة من الأسباب وهي كالتالي :
أولا ، تغير نظام القيم عند الهوية الأنثوية ، بحيث أصبحت هذه الهوية تؤمن بالمساواة مع الهوية الذكورية في الحصول على نفس الحقوق فيما يشتركان في ملكيته ، وهي الإشباع الجنسي ، والحصول على الرعشة الجنسية ، من هنا أصبحت الهوية الأنثوية تتساوى في المبادر العاطفية وفي التحرش الجنسي مع الهوية الذكورية .
ثانيا لقد أبانت المرأة عن كفاءة متماثلة لكفاءة الرجل ، بل تفوقها أحيانا في جميع المجالات ومن هنا لم يعد للتميز الجنسي بين الرجل والمرأة أي مبرر لوجوده واستمراره ، بما في ذلك التمييز الجنسي في المبادرة والتحرش الجنسي .
ثالثا ، نضال الجمعيات النسائية من أجل تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في جميع الحقوق بما فيها حق المتعة الجنسية وحق المبادرة الأنثوية التي تصل في بعض الأحيان إلى درجة التحرش الجنسي، في تأسيس علاقة عاطفية وجنسية .
رابعا ، تأخر سن الزواج في المجتمع المغربي ، والخوف من شبح العنوسة ، يدفع بالمرأة ، إلى ضرورة عدم انتظار مبادرة الرجل ، فتقوم هي بالمبادرة والتحرش الجنسي ، حتى تخرج ذاتها من شبح العنوسة .
عن موقع : فاس نيوز ميديا