البذخ والترف عند الحكام العرب
الدكتور عبد الجبار شكري
أستاذ باحث في علم الاجتماع وعلم النفس
باحث مشارك في مختبر الأبحاث والدراسات
بكلية الآداب والعلوم بالجديدة
في بداية الأمر أو أن أشير ليس هناك من الناس في الوجود من لا يريد أن يكون ثريا ويعيش حياة البذخ والرفاهية ، وهذه تطلعات مشروعة في حالة إذا أخذت طريقا شرعيا لتحقيقها ، لكن يبدو الأمر شاذا جدا عندما يتخذ صاحبها طريقا غير مشروع، لأن الأمر فيه مساسا بحقوق الآخرين، وهذا ماحدث للزعماء العرب فعندما أتوا إلى السلطة لم يكن يملكون شيئا وكانوا مثلهم مثل الكثير من الناس في مستوى اقتصادي عادي ، وعندما وصلوا إلى السلطة أخذوا يجنحون إلى حياة البذخ والرفاهية ولم يكن ليستطيعوا ذلك في بداية مشوارهم في السلطة ولهذا أخذوا يكدسون الأموال ويسلبونها من شعوبهم بطرق غير شرعية وأحيانا يشرعون السلب والنهب لأموال الشعب باسم القانون من أجل ضمان طقوس ممارسة حياة البذخ أمام شعوبهم وأمام أنظار العالم لايستحيون من ذلك ويدعون في نفس الوقت أنهم أكثر وطنية من أي كان وأنهم في خدمة شعوبهم والحفاظ على مصالح الشعب الكبرى في حين أنهم أتوا إلى السلطة خدمة لمصالحهم والواقع العربي يثبت ذلك في كثير من الأنظمة العربية، فهؤلاء الزعماء لم يأتوا إلى السلطة عن طريق الديمقراطية و عن طريق صناديق الاقتراع بل نجد هم كلهم قد اغتصبوا السلطة من شعوبهم إما بواسطة انقلابات عسكرية أو بواسطة انتخابات مزورة والمغتصب للسلطة قد أتى من أجل السلطة ذاتها لأنها تشكل جوهر وجوده في علاقته بذاته وفي علاقته بالعالم ولم يأت أصلا للقضاء على الظلم وإنصاف الشعب وتعويضه عن محنته في النظام السياسي السابق وتحسين وضعيته المعيشية ، والاغتصاب يعني أخذ شيء بالقوة أو بالنصب والاحتيال زمن منا يكون أمر جنوح الزعيم العربي إلى حياة البذخ رغبة شبقية إلى درجة أنه لا يتصور أنه حاكم وزعيم إلا بحياة البذخ والترف، وفي هذا الإطار نجد مجموعة من الأسباب النفسية والاجتماعية وراء هذه الرغبة الشبقية في السلطة والمال.
فالبنسبة للأسباب النفسية التي تدفع الحاكم إلى الامتلاك المزيد من السلطة والمال نجد ما يلي:
أولا نجد أن كل الزعماء العرب مهووسين بحب السلطة والمال إلى درجة العشق الجنوني، وهذا العشق الجنوني يجعل ” أنا ” الحاكم يتوحد كليا بهما إلى درجة الاستغراق الأنطولوجي، فلا توجد السلطة والمال خارج ذاته بل هما يوجدان في جوهر ذاته. ولا تنتهي ملكية السلطة والمال إلا بموت الحاكم فليس في سيرورة وجوده التقاعد المهني عن ممارسة السلطة وامتلاك المال والنموذج في كل ذلك حكام كل من تونس ومصر واليمن وليبيا ففي الوقت الذي يعلن فيه الشعب كله عن مطالبته لحكامه بالرحيل فهم يصرون على الاستمرار في السلطة وتشبثهم بها من أجل استمرار في حياة البذخ، لأنه من الناحية الديمقراطية لم تعد لهم شرعية للاستمرار في الحكم على شعوبهم مادامت شعوبهم أعلنت بشكل صريح على رحيلهم فهذا الإعلان من الناحية القانونية والديمقراطية هو استفتاء شعبي على استمرار الحاكم أو عدمه في اللحظة التي تتفاقم فيها الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، فعند وجود هذا الاستفتاء التلقائي على الحاكم أن يسلم مقاليد السلطة إلى شعبه بشكل ديمقراطي.
ثانيا إن كل الحكام العرب يعيشون في استغراق كلى واحتوائي في سيكولوجية جنون العظمة فكيف يمكن للحاكم أن يكون مثله مثل باقي الناس في الثروة وهو يملك سلطة مطلقة في هذه الحالة فالذي يوازي هذه السلطة المطلقة هي حياة البذخ فلا بد أن يتميز عن الشعب بهذه بحياة .
ثالثا فالحاكم بالرغم من كونه يملك هذه السلطة المطلقة وحياة البذخ هذه، فهو لم ينس في يوم من الأيام أنه كان مغتصبا للسلطة والمال من شعبه وفي هذه الحالة فهو يعيش ” فوبيا المصير” وبار ونايا الاضطهاد الشيء الذي يجعله يعيش وعيا شقيا في كل لحظات وجوده فهو ينتظر في أي لحظة أن يتعرض للاغتصاب السياسي والاقتصادي الذي مارسهما على الشعب.
أما الأسباب الاجتماعية المؤدية بالحاكم إلى الميل إلى حياة البذخ نجد ما يلي:
أولا نجد أن أغلب الحكام العرب ينحدرون من عامة الشعب ومن أسر عادية فعندما امتلكوا السلطة أخذوا يعوضون تلك الحياة السابقة قبل السلطة بحياة البذخ لكي يشعروا أنهم فوق الجميع وجد نموذج على ذلك فصدام حسين عندما كان طفلا و نتيجة لفقره كان دائما يرتدي حذاءا باليا ممزقا وعندما امتلك السلطة أخذ يشتري أغلى وأرفع الأحذية ويجمعها دون الحاجة إلى ارتدائها، ليعوض بذلك حرمانه الطفو لي.
ثانيا أن الوضع الاجتماعي والسياسي يدفع بالحاكم إلى مراكمة الثروات من أجل حياة البذخ أثناء وجوده في السلطة أو بعد السلطة لأنه يعرف أن مصيره سينتهي في لحظة ما وهذا ما يفسر وجود أغلب أموال الحكام العرب في البنوك الأجنبية.
ثالثا إن الحكام العرب مهووسون بالتفاخر الاجتماعي بين بعضهم البعض ولهذا نجدهم يتنافسون مع بعضهم البعض من أجل امتلاك حياة البذخ والترف أكثر من الآخرين.
أن الهوس بامتلاك السلطة والمال من أجل حياة البذخ والترف على حساب أموال الشعب لها ارتباط قوي بشخصية الحاكم العربي يتميز بها عن باقي حكام العالم فسيرورة الزمن السيكولوجي والاجتماعي للحاكم كما قلت سابقا هي التي توجد لديه هذا العشق الجنوني لحياة البذخ والترف، فكما قلت سابقا أن ” جنون العظمة ” ” وبار انويا الاضطهاد” و ” فوبيا المجهول والمستقبل ” والسعي إلى إقصاء الماضي في سيرورة الحاضر ، هي التي تدفع بالحكام العرب إلى الرغبة الشبقية لحياة البذخ والترف . فشخصية الحاكم صنعها أولا الفضاء السيكولوجي والاجتماعي للشعوب العربية، الذي يعطي شرعية لاستبداد الحاكم ولحياة البذخ والترف وثانيا عدوى الاستبداد وحب السلطة والمال التي كانت تنتقل من حاكم عربي إلى آخر، إن نفسية الحاكم هي المسؤولية على هذا الميل الجنوني لحياة البذخ والترف، بحيث نجد ” أنا ” الحاكم العربي تعيش نرجسية القدسية المطلقة للذات، ويعيش الحاكم العربي استيهامات تملك العالم وفي هذه الحالة في ظل هذه الاستيهامات تكون لـ ” أنا ” الحاكم شرعية تأثيث هذه القدسية بطقوس الاستبداد وحياة البذخ والاستبداد.
إن الأمر في نظري هونفسه عند كل من المرأة والرجل فحب السلطة والمال وحياة البذخ كلها تدخل في غرائز ” الإيروس ” للأنا حسب أدبيات التحليل النفسي ، هذه الغرائز الإيروسية لـ ” الأنا ” تسعى للحفاظ على أنطولوجيته السيكولوجية وتقاوم غرائز ” التناتوس ” التي من مهمتها الهدم وموت غرائز الأنا ، ومن هنا أقول أن المرأة تتساوى مع الرجل في حب السلطة وحياة البذخ فحب السلطة يعني تملك الوجود وطقوس ممارسة السلطة هي حياة البذخ والترف فكلاهما يدعمان ” الأنا ” في غرائزه الإيروسية مقاوما لغرائز التناتوس.
إذا رجعنا إلى نظرية ” عصبية الدولة ” عند ابن خلدون سنجد إجابة واضحة على هذا السؤال ، فابن خلدون يرى أن الحاكم العربي هو في الأصل منحدر من ثقافة البداوة التي تقوم على العصبية والشدة والحزم فعندما يمتلك السلطة والحكم فالدولة تكون قوية بهذه العصبية لكن عندما يطول حكم الدولة ويميل الحاكم لحياة البذخ والترف فإن عصبية الدولة تبدأ في الانهيار تدريجيا وفي انهيار العصبية تنهار معها قوة الدولة بفعل غياب الشدة والحزم والقوة عند الحاكم العربي وانتشار الفساد والخيانة.من هذا المنطلق أقول أن بذخ وترف الحاكم العربي له آثار على المجتمع نجملها فيما يلي :
أولا أن حياة البذخ والترف عند الحاكم العربي تكرس التفاوت الطبقي في المجتمع فالحاكم العربي لكي يعطي شرعية لحياة البذخ والترف يعمل على صنع نخبة من المجتمع مقربة إليه يسمح لها بالفساد السياسي و الاقتصادي من أجل الحصول على الثروة والمال لكي تتمكن هذه النخبة من العيش في حياة البذخ والترف.
ثانيا إن حياة البذخ والترف عند الحاكم العربي تنسيه في كثير مصالح الدولة ومصالح الشعب العليا وبالتالي التملص من التفكير فيها لأنها تتطلب منه الجهد في التفكير والوقت وهذا لا يتماشى مع حياة البذخ والترف التي يعيشها فيفوت تسيير البلاد لوزير الداخلية يجعل منه هذا التفويت الرجل القوي في البلاد مما يؤدي إلى الشطط في السلطة وانتشار الفساد وضياع حقوق الناس.
كما أن بذخ وترف الحاكم العربي يؤدي إلى تدني روحه الوطنية وهذا بدوره يؤدي إلى تدني الروح الوطنية عند الكثير من الناس، فلم يعد الكثير من الناس يشعر بمواطنة حقيقية لأنهم فاقدون لكثير من حقوق المواطنة حرية الرأي والتعبير، والحق في الشغل والحق في التغطية الصحية والحق في التعليم ذو جودة عالية، والحق في الأمن والمحافظة على الذات والخيرات، فالكثير من الناس فقدوا ثقتهم في الحاكم العربي المسؤول على مصالح العباد، لأن عدم تحمل هذا الحاكم العربي لواجبهم الوطني اتجاه مواطنيهم، بسبب حياة البذخ والترف جعل الناس لا يعطون قيمة لمسألة المواطنة لأنها تبقى في مستوى الشعارات والأقوال بدون أفعال. وهذا يجعل المواطن يتملص من روح المواطنة في أقواله وسلوكا ته مما يجعله أيضا لا يحترم رموزها. وهذا سيؤدي إلى اللامبالاة والتقاعس في خدمة الوطن.
و هذا الأمر يلاحظ عند جيل السنوات الأخير باستثناء حركات الشباب التي تطالب بالتغيير، والسبب يرجع إلى غياب تنشئة اجتماعية عند الآباء تربي في الأبناء روح المواطنة وحب الوطن واحترام رموز الوطن. وذلك يرجع إلى الآباء أنفسهم لأنهم فقدوا معنى المواطنة من جراء ضياع حقوقهم مع الحاكم العربي تغيب لديه مسؤولية المواطنة الحقة ، والحاكم العربي هو المسؤول عن تدني روح المواطنة وبالتالي عدم احترام رموز الوطن بسبب كونه لا يعمل على ضمان حقوق المواطنين ومن ثم فه لا يعمل على تكريس احترام رموز الوطن بإرادة حرة وحب، وفي هذه الحالة فهم لا يكرس واجب احترام الرموز الوطنية إلا بواسطة الإكراه.
وفي ذلك ترويج لبضاعة الوطنية الحقة التي يدعيها من أجل التمويه والتضليل لقضاء مصالحه من أحل ضمان استمرار حياة البذخ والترف التي يعيشها.
إن المواطن العربي لا ينظر عموما لترف الزعيم بأنه شيء غير عادي ويتقبلها وكأنها أمر مشروع
لأن الشعوب العربية بفعل الأمية والفقر وقهر الاستعمار أصبحت ترى في الحاكم العربي رمز تحررها من قهر الاستعمار وقهر الفقر والحاجة و ومن ثم كانت تتجاوز عن استبداده وبذخه وترفه وتبرره ، فكان المواطن العربي ينظر إلى بذخ وترف الحاكم العربي أنه ثمن ممارسة السلطة وتسيير الدولة ومن هنا كان المواطن العربي يعطي شرعية لحياة البذخ والترف التي يعيشها الحاكم العربي.
هناك مجموعة من آثار حياة البذخ والترف على شخصية الحاكم العربي منها ما يلي :
أولا – إن اللذة المعيش اليومي في حياة البذخ والترف تنسي الحاكم العربي هموم الشعب ومعاناته من الفقر والحاجة والحرمان.
ثانيا إن حياة البذخ والترف التي يعيشها الحاكم العربي يعرف أنه قد حصل عليها بواسطة سرقة أموال الشعب وبواسطة الفساد السياسي والاقتصادي، فلذة حياة البذخ والترف تؤدي إلى موت ضمير وتعمل على تأسيس نظام قيم فاسد ليست فيه قيمة للمسؤولية والواجب الأخلاقي وروح الوطنية الحقة.
ثالثا نتيجة لوعي الحاكم العربي بسرقة أموال الشعب فلكي لا يحاسب نفسه فهو يعمل ويشجع على انتشار الفساد بكل أشكاله ليعطي شرعية لفساده هو .
- إن المواصفات التي يجب أن يتميز بها الحاكم العربي هي كالتالي :
أولا أن يكون من الشعب وإليه وهذا لا يحدث إلا بضبط نبض هموم الشعب ومشاكله في المعيش اليومي.
ثانيا عليه ألا يسرق أموال الشعب ولا يأخذ في أجره إلا بقانون الدولة وأن لا يستثمر أمواله إلا بمنطق القانون والوضوح والشفافية.
ثالثا أن يكون ديمقراطيا وأن لا يكون مستبدا بالسلطة .
رابعا أن يعمل الحاكم العربي على تقوية و احترام رموز المواطنة وجعلها سلوكا يوميا عند المواطن، ويجعل كل مؤسسات الدولة ببلورة ممارسة تنشئة اجتماعية تسعى إلى تربية النشء على حب الوطن وعلى روح المواطنة والمسؤولية ومن جهة أخرى ضمان كل الحقوق للمواطنين من طرف كل مؤسسات الدولة من أجل أن يشعر الإنسان العربي بمواطنته الحقة.
خامسا هناك علاقة قوية بين احترام رموز الوطن والشعور بالانتماء إلى الوطن والافتخار بالمواطنة، لأنه ليست هناك مواطنة حقة إذا كان الحاكم العربي لا يحترم حقوق شعبه و وطنه فهو يهين وطنيته ويهين شعبه إذا لم يقم بواجباته نحو الشعب و الوطن ومن لم يقم بواجباته نحو الوطن لا يعد مواطنا صالحا .
سادسا لكل بلد رموزه الوطنية، وكل شخص ينتمي إلى وطن عليه أن يحترم رموز ذلك الوطن لكي يصبح معترفا به كمواطن. فل وشرط الانتماء إلى الوطن هو احترام هذه الرموز لأنها هي التي تعرف به في العالم، ومن باب المواطنة الحقة هو احترام الحاكم حقوق شعبه واحترام القوانين السائدة في الوطن
- التي تم إيجادها بواسطة الديمقراطية، وضمن ممارسة هذه القوانين واحترامها يتم احترام الرموز الوطنية واحترام الشعب.
- عن موقع : فاس نيوز ميديا