العنف في المعيش اليومي عند المغاربة
الدكتور عبد الجبار شكري
أستاذ باحث في علم الاجتماع وعلم النفس
باحث مشارك في مختبر الأبحاث والدراسات
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة
يمكن تعريف العنف من ناحيتين سيكولوجية وسوسيولوجية ، فالعنف من الناحية السيكولوجية هو إشباع لرغبات عدوانية مكبوتة في اللاشعور ، فعندما تزداد الشحنات النفسية لهذه المكبوتات تتجه نحو الأنا مطالبة إياه بإشباعها ، لكن الأنا لا يستطيع أن يشبعها بشكل فعلي ، نتيجة عدم مشروعيتها في الواقع ونتيجة عدم مطابقتها لضوابط الأنا الأعلى ، فيتجه الأنا إلى مواضيع استيهامية تتشابه مع المواضيع الواقعية للمكبوتات العدوانية ، فيحقق لها الإشباع الاستيهامي .
أما التعريف السوسيولوجي للعنف فهو ممارسة الإلغاء والإقصاء ، نتيجة وجود توتر اجتماعي يكون نتيجة اصطدام بين مصالح طبقية مختلفة في جميع المجالات أو يكون نتيجة اصطدام بين مرجعيات فكرية أو دينية أو مذهبية أو عقائدية أو إيديولوجية ، فيشكل الآخر كينونة غريبة وأجنبية على الذات الجماعية ، يسكن هذا الآخر في الجماعة على نحو غريب على حد تعبير “جوليا كريستيفا” يقتسم معها نفس الفضاءات النفسية والاجتماعية ، ويقتسم معها عوالم مشتركة ، لكن في هذا الاقتسام والمشاركة يحدث الاحتكاك والتصادم بين الذوات، فيحضر العنف كوسيلة لإنهاء التوتر والاصطدام من أجل الاحتواء وممارسة الهيمنة والوصاية .
هناك نوعين من العنف : العنف المازوشي والعنف السادي . فالعنف المازوشي هو العنف الموجه نحو الذات الفردية أو نحو الذات الجماعية ، وفيه تتلذذ الذات بنوعيها بتعذيب نفسها . أما العنف السادي فهو الموجه إلى الآخر كذات فردية أو ذات جماعية فتتلذذ الذات العنيفة بممارسة العنف اتجاهه .
ويكشف التاريخ البشري عن وجود عدة أنواع من العنف قديم بقدم البشرية ذاتها ، ويذهب في هذا الصدد ” إيريك فروم ” أنه كانت هناك شعائر وممارسات تشكل أنواعا من العنف لدى الشعوب القديمة ، الغاية من هذه الممارسات العنيفة التدميرية هو تجسيد الرغبة في تأكيد حياة الجماعة وهويتها ووحدتها . بل أحيانا نجد نوعا من العنف المقنن ، حيث يرى في هذا الصدد “تولرا فارنييه” أنه يمكن لهذا العنف أن يأخذ شكل مشاجرات أوحروب أو مواجهات مسلحة ، وكل هذه الأشكال لا تبدو أنها مجرد انفجار فوضوي وعشوائي للعنف بل كل هذه الظواهر هي ظواهر مقننة مثل باقي الظواهر الاجتماعية الأخرى. ويميز ” فارنييه ” بين نوعين من العنف الاجتماعي :
– العنف الاجتماعي الداخلي ويكون مؤطرا ضمن قواعد من خلاله يكون خاضعا لمجموعة من الطرق والتقنيات . وهذا النوع من العنف يتخذ كل الأساليب المشروعة والغير المشروعة في ممارسته .
– العنف الاجتماعي الخارجي وتشكله الحروب بين الدول والشعوب وهو العنف الأكثر شراسة ، تستعمل فيه هو أيضا كل الأساليب والوسائل ، ويباح فيها كل شيء إلى درجة يصعب فيها تصديق ما يحدث .
إن كلا العنفين حاضران معا في قلب التاريخ الإنساني ، وهو تجسيد للمنظومات الرمزية ، كنظام القيم والعقائد والأساطير والدين والمصالح المادية ، وهو محاولة للخروج من توتر واصطدام هذه الأنظمة فيما بينها .
في هذا الإطار لايمكن الحديث عن شرعية العنف إلا بالنسبة لمن يمارسونه ونجد في هذا الإطار نوعين من الشرعية الممارسة للعنف :
أولا الشرعية الاجتماعية للعنف وهي التي تعطي للبعض حق ممارسة العنف على الأشخاص الخارجين عن نظام القيم والتقاليد والأعراف السائدة في المجتمع ، وذلك من أجل الحفاظ على استقرار المجتمع وعلى نظامه ، ومن هنا نجد أن الجماعة حسب ” رالف لينتون” تسعى إلى اتخاذ إجراءات عنيفة متعدد لتسوية مشكلة الخروج عن نظام المجتمع قبل أن يستفحل الأمر ، وهذه الإجراءات العنيفة هي التي تحد من وجود الإساءات العلنية القليلة داخل المجتمع ، وهي تختلف من مجتمع إلى آخر وتتم حسب موقف المجتمع اتجاه تلك الإساءة المرتكبة .
ثانيا الشرعية السياسية وهي التي تعطي الحق للدولة ورجالاتها من ممارسة العنف على الأشخاص الخارجين عن القانون ويرى ” ماكس فيبر ” أن أي تجمع سياسي لا يرقى إلى مستوى الدولة إلا إذا مارس حق ممارسة العنف اتجاه الأشخاص الخارجين عن القانون ، وإذا لم تقم الدولة بذلك فقد تسود الفوضى والاضطراب .
هناك ثلاثة أنواع من العنف :
أولا- العنف المادي وهو يشمل الضرب والجرح وتكسير الأشياء بمختلف أنواعها. وهو موجه لأفراد الأسرة ، كما أنه موجه لمرافق مؤسسات الدولة أولتجهيزاتها ، أولمكونات بنيتها التحتية، كما أن هذا الشكل من العنف لملكيات المواطنين.
ثانيا- العنف المعنوي وهو يشمل السب والقذف والإهانة بمختلف أنواعها. وهو أيضا موجه لأفراد الأسرة أوللمواطنين.
ثالثا- العنف الصامت والغير المباشر وهو يشمل العنصرية و المقاطعة ورفض الحوار مع الغير والتعامل معه في المعيش
هناك مجموعة من الأسباب السيكولوجية والسوسيولوجية أدت إلى تزايد وانتشار العنف في مجتمعنا المغربي ، وهذه الأسباب هي كالتالي :
بالنسبة للأسباب السيكولوجية المنتجة للعنف ، نجد ما يلي :
أولا- أن الشخص الذي يمارس العنف هو معوق نفسيا نتيجة تعرضه لمثيرات خارجية ، قامت بزعزعة التوازن النفسي للجهاز النفسي ، وأربكت العلاقات الوظيفية داخل أنساق الجهاز النفسي ، أي العلاقة الوظيفية السيكولوجية بين اللاشعور والأنا والأنا الأعلى ، المثمتلة في في الوظائف السيكولوجية : التالية كالكبت ، أوالتقمص أوالتوحد أوالإسقاط أو التسامي أو التعالي أو آليات منطق التبرير .
ثانيا – إن شخصية المعنف تعاني من بعض الأمراض النفسية ، التي تصاحبها حالات العنف ، كالبارانويا الفصامية أو الهذيانات أو الهلاوس البصرية ، التي يشعر فيها الشخص المريض أنه معرض لعنف خارجي ، فيكون رده في حالة الأزمة النفسية المرضية بعنف آخر مضاد .
ثالثا – إن العنيف هو في الأصل ضحية للعنف ، بحيث يمارس عليه العنف داخل الأسرة أوداخل المدرسة ، وهذا العنف يخلق لديه عدوانية مدمرة اتجاه العالم الخارجي ، يكون الموضوع الوحيد لهذا العنف هو الانتقام .
رابعا- وفي حالة أخرى يكون عنف وسيلة لحماية الأنا من هجوم مفاجئ من كل الذين يمارسون السلطة والهيمنة والوصاية في فضاءات الشخص المختلفة .
أما بالنسبة للأسباب السوسيولوجية المولدة للعنف في المعيش اليومي ، نجد ما يلي :
أولا أن الشخص العنيف يدمن على العنف ويألفه في معيشه اليومي نتيجة وجوده باستمرار في فضاءات اجتماعية يشكل العنف جزءا من مكوناتها الأساسية والبركماتية لتحقيق أهداف معينة ، كفضاء الأسرة أو فضاء الشارع .
ثانيا أن الشخص العنيف تلقى أيضا تنشئة اجتماعية عنيفة وسيلتها الوحيدة في تنميط السلوكات هو العنف بمختلف أشكاله.
هناك مجموعة من الانعكاسات السلبية نفسية واجتماعية وهي كالتالي :
فيما يخص الانعكاسات النفسية السلبية ، نجد ما يلي :
أولا – نجد أن العنف يخلق لدى الناس إعاقة نفسية غالبا ما تدمر المناعة السيكولوجية لجهازه النفسي ، تجعله ضعيفا في مواجهة شدائد المعيش اليومي والعلائقي .
ثانيا- من بين الانعكاسات السلبية للعنف على الشخص نجد أن العنف يتحول إلى نموذج وأداة فعالة في وعي الشخص السيكولوجي ليتكيف به مع الواقع وللحصول على ما يرغب فيه وفي هذه الحالة يقوم الشخص بإعادة إنتاج نفس أساليب العنف التي تعرض إليها .
أما بالنسبة للانعكاسات الاجتماعية السلبية على الشخص نجد ما يلي :
أولا – فالعنف الممارس في فضاءات الناس الاجتماعية يخلق لدى الناس ما أسميه بالفوبيا الاجتماعية ، بحيث يخاف الشخص من كل ما يحيط به من الناس ويفقد الثقة في كل من يحضر في فضاءا ته الاجتماعية .
ثانيا – يمارس الشخص نفس التنشئة الاجتماعية العنيفة على أطفاله وعلى من هم تحت مسؤوليته التي مورست عليه ، في كل الفضاءات الاجتماعية التي ينشط فيها .
ثالثا – إن العنف الممارس على الشخص يخلق لديه ما أسميه
التبلد العاطفي الاجتماعي، بحيث يكون سلبيا في النضال من أجل مصالح الناس ، ويفقد
تماما بالإحساس بما أسميه الغيرية الاجتماعية الإيثارية والمضحية والمتطوعة فتتكون
لديه نرجسية اجتماعية لا يدافع فيها إلا عن مصالحه الطبقية .
يمكن
الحد من هذه السلوكات العنيفة عن طريق تنشئة اجتماعية سليمة ، وعن طريق التسامح
والتعاون والتفاهم والتواصل ، كما يمكن الحد منها بواسطة تأطير المواطنين من طرف
المجتمع المدني.