تظهر لقطات سجلتها كاميرات المراقبة سيارة بيضاء تدخل أحد أزقة بغداد ببطء؛ يهرع رجل يرتدي ملابس بيضاء نحو مقعد السائق، ويتوقف برهة، ثم يركض باتجاه دراجة نارية يقودها رجل ثان.
تتابع السيارة البيضاء تحركها ببطء في الزقاق.
داخل السيارة تارة فارس، أكثر نجمات وسائل التواصل الاجتماعية العراقية إثارة للجدل، تصارع الموت بعد إطلاق النار عليها.
عادت “عيوش” إلى مدينتها بغداد صباح يوم 27 سبتمبر/أيلول، بعد رحلة قصيرة إلى تركيا، وقرابة الثالثة بعد ظهر ذاك اليوم، وبينما كانت تهم بتشغيل سيارتها، تلقت مكالمة من رقم محمول لا تعرفه. “هاللو عيوش، الحمد لله على السلامة، أنا تارة، شلون كانت سفرتك؟ نلتقي اليوم؟”.
لم تبرح تفاصيل تلك المكالمة ذاكرة عيوش أبدا.
ذاع صيت عيوش في العراق لأنها من أوائل الشابات اللاتي عملن “دي جي”، وكانت تمزج الموسيقى الغربية بالأغاني المحلية، كما تعمل في مجال تنسيق الحفلات. أما سبب شهرة تارة فارس فمختلف؛ إذ حصلت على نحو 2.7 مليون متابع لها على موقع انستغرام الذي تستعرض عليه أزياءها المتنوعة، والوشوم التي تنقشها على جسدها، فضلا عن أساليب التجميل المحتلفة التي تبنتها، وكثيرا ما نشرت فيديوهات قصيرة عن أسفارها وصور صفحات من كتب قرأتها، فضلا عن مواقف طريفة مرت بها.
خالطت عيوش وتارة نفس الأوساط حتى غدتا أكثر من مجرد معارف، لكن دون أن تصل علاقتهما للصداقة الوطيدة، وكان من المقرر أن تلتقيا في ذلك اليوم بحي المنصور ببغداد حيث يوجد مكتب عيوش، للاتفاق على تفاصيل حفل ترويجي لنوع من العدسات اللاصقة.
وبعد ساعتين من اتصال تارة، عاودت عيوش الاتصال بها للاتفاق على مكان اللقاء، ولكن، لم يجبها أحد.
حاولت الاتصال بها مجددا في نحو الخامسة والنصف مساء، وإذ بشاب يرد صارخا: “تارة فارس أطلقت عليها النار. تارة فارس أطلقت عليها النار”.
لا شعوريا، فتحت عيوش حسابها على فيسبوك ووجدت منشورا تلو الآخر يتحدث عن مقتل تارة، ورأت صورة انستغرام حديثة لتارة وهي ترتدي فستان جينز يكشف أحد كتفيها على خلفية وردية نشرها كثيرون.
تقول عيوش، 37 عاما، واسمها الحقيقي عائشة قصي: “صدمت. انقلبت الدنيا. أصابني خوف وتوجهت فورا للبيت”. وصلت أخبار مقتل تارة لأسرة عيوش التي خافت أن تلقى ابنتهم ذات المصير لأنها معروفة أيضا في البلد.
وسرعان ما انتشر الخبر.
كان الإعلامي ساري حسام، 22 عاما، برفقة أصدقائه بمقهى هادئ يلعبون الورق كعادة كثير من الشباب العراقي يوم الخميس، وصدم أيضا لخبر مقتلها خاصة وأنه كان قد أجرى مقابلة مصورة مع تارة قبل أشهر، وتحديدا في أبريل/نيسان 2018.
انتشر الخبر كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي لحظة أصبح مقتل تارة حديث الجميع في ذاك المقهى. لم يصدق ساري الخبر فحاول الاتصال برقم هاتفها المحمول ليسمع رسالتها المسجلة، وكانت مقطعا من أغنية “ووكينغ أون ووتر” للمغني إمينيم.
أما مجد، وقد آثر عدم الكشف عن اسمه الحقيقي، وهو أحد المصورين الذين التقطوا صورا لتارة، فاعتقد بداية أن الأمر لا يعدو أنه فرقعة دعائية؛ كمحاولة جريئة من تارة لجذب مزيد من الانتباه إليها.
ولكن الأمر لم يكن كذلك.
تارة فارس، من هي؟
ما إن انتشر خبر مقتل تارة فارس حتى تحولت وسائل التواصل الاجتماعي في العراق إلى ساحة حرب؛ فقد كان موتها مثار جدل كما كانت حياتها. ولم يكد جسدها يوارى الثرى إلا وانتشرت تعليقات هجومية ونعتها البعض بـ”العاهرة”. ولكن كان هناك أيضا من دافع عنها بشدة، فمثلا كتب أحد مستخدمي فيسبوك: “ربما كانت متحررة، وربما كانت تمثل ظاهرة شبابية سلبية، ولكن قبل أي شيء هي إنسانة عراقية”.
قد لا يعتبر ما كانت تنشره تارة على انستغرام مثار جدل ألبتة في كثير من بقاع العالم؛ كان سينظر إليها على أنها شابة تعكس ذوقها في تنسيق الملابس وأسلوب حياتها. أما في العراق، فوشم الجسد وحده يعد مثار استهجان لدى كثيرين.
بدأت تارة بوشم صغير على أصابع يديها مصورا هلالا وسهما، ثم امتد على شكل زهرة على ذراعها، كما وشمت عبارة أسفل عنقها تقول “ما يهزك ريح”، وكلمة “علي” على كتفها الأيسر، وأظهرت أحدث صور لها وشما لوجه امرأة، ورأس أسد على امتداد معصمها.
ظهرت تارة في أغلب صورها ترتدي ملابس عادية: تي-شيرت بسيط، بنطالا فضفاضا، بنطالا قصيرا (شورت)، أو بنطال جينز، أو قمصانا طويلة، وتغير شعرها باستمرار طولا وقصرا وتغير لونه بين حين وآخر. لكن صورا أخرى، التقطت لها قبل وقت قصير من موتها، ظهرت فيها وهي ترتدي ملابس داخلية سوداء أو “بودي سوت” بلون الجسم أو صدريات أنيقة مع حلي زينت صدرها أو سترة لا ترتدي شيئا تحتها.
كانت تلك الصور كاشفة، وبالنسبة لكثير من العراقيين كان الكشف “أكثر مما يحتمل”، فضلا عن الوشم الذي نال نصيبا كبيرا من الانتقادات.
يقول المصور مجد (وهذا اسم مستعار) عن تارة إنها “كانت مختلفة؛ مختلفة بطريقتها ومختلفة بملابسها. باقي العارضات العراقيات متزمَتات .. أو بالأحرى ليست العارضة كذلك، بل إن أهلها أو مجتمعها هو الذي يجبرها على أن تكون كذلك. فمثلا من الصعب علي جدا إقناع عارضة أن تلبس قميصا يكشف أحد كتفيها”.
أما تارة فلم تعبأ بأي شيء، وارتدت ما شاءت من ثياب.
كان محتوى تدويناتها خفيفا، أو حتى “تافها” في نظر البعض، كانت تسرد فيها أنشطتها اليومية من تناول الطعام في غرفتها، والذهاب إلى صالة الألعاب أو المطاعم مع الأصدقاء، فضلا عن السفر والموضة.
وشأنها شأن كثير من شباب وشابات العراق لم تكن تخف آراءها السياسية، بالأخص في بداية ظهورها، حين كانت شهرتها أقل، ولم تكن أبدا ناشطة بل شابة عراقية تعبر عما كان يجول بخاطرها دون تردد.
بدا العراق صيف عام 2015 على صفيح ساخن؛ حيث اندفعت الحشود في الشوارع مطالبين بإصلاحات سياسية، ومحتجين على تكرار انقطاع الكهرباء ونقص الخدمات الأساسية، وعجت ساحة التحرير بالمحتجين الذين أحاطوا بنصب الحرية.
يومها، قتل شاب من بين المحتجين، وعلقت تارة في قائلة: “الشرطة العراقية والجيش العراق أطلقوا النار على المتظاهرين (..) ليش هالشي؟ هذه أول مرة نشوف الكل متكاتفين بمكان واحد.. سني وشيعي وكردي كلهم ينشدون النشيد الوطني العراقي (..) يعني حلوة؟ شاب بعمر الورد يروح شهيد”.
أغسطس/آب 2015: مظاهرات في ساحة التحرير
وفي مناسبات أخرى انتقدت الفساد والسياسيين الفاسدين، أما في آخر سنتين من حياتها فانصب تركيزها على التشجيع على الحرية الفردية.
“يا ناس خذوا حريتكم، عيشوا يومكم، عيشوا الحياة التي تريدونها، عيشوا خياراتكم، واللي يرضى يرضى، واللي ما يرضى ما يرضى”.
لم تكن الوحيدة في العراق التي ذاعت شهرتها إلى هذا الحد على انستغرام، فمن بين من اشتهرن على وسائل التواصل، مطربة، وشاعرة، وملكة جمال سابقة أصبحت مقدمة تلفزيونية.
لكن تارة تميزت بجرأتها التي وصلت إلى درجة الاستفزاز، وكانت صادمة لكثيرين فقد كانت تسب وتدخن وتنشر ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.
لم تكن تارة دائما هكذا، بل صنعت نفسها على هذا النحو.
كانت تارة شخصا مختلفا تماما عندما كانت مراهقة؛ ويبدو ذلك من إحدى صورها القديمة التي تعود غالبا لعام 2012، وتظهر فيها وهي تقف بغرفة ترتدي ثوب زفاف أبيض، وتضع مساحيق تجميل كثيفة وقد رفعت شعرها للأعلى وزينته بتاج براق، وغطت صدرها بسلسلة ذهب ضخمة – ربما كانت هدية عريسها.
بدت تارة عروسا عادية، لم تختلف صورتها تلك عن صور زفاف كثيرات في بغداد؛ حينها لم تكن قد تجاوزت السادسة عشرة، وقد أجبرت على الزواج من رجل أرادها أن تترك المدرسة.
وبعد سنوات أصبحت خلالها مشهورة، قصت تارة على موقع سناب تشات كم كان زواجها حزينا، وفي الفيديو الذي سجلته وكانت ترتدي جاكيتا مموها وتضع رموشا صناعية كثيفة، تحدثت عن حياة قصيرة بائسة قضتها مع زوجها السابق؛ إذ انتهى فصل زواجها برحيل زوجها ومعه وليدهما باتجاه الشمال، ويقال إنه سافر إلى تركيا. وغدت تارة دون طفلها.
وقالت عن زوجها السابق إنه “وضيع ومنحط” فقد كان يضربها؛ وفي إحدى المرات زارها والداها دون موعد وشاهدا علامات ضرب على جسدها فأرجعاها معهما ومن حينها لم تطأ شقة الزوج مرة أخرى. أمضت فترة حملها في منزل والديها، وما إن ولد الطفل حتى أخذه والده منها.
“كنت طفلة عمري 17 عاما. طبوا علينا وأخذوا ابني، شو كان فيني أعمل؟” هكذا روت لاحقا ما جرى في مقابلة على يوتيوب.
ولم تر ابنها بعد ذلك اليوم أبدا.
النجمة في الكفن
عند وصولها إلى مستشفى الشيخ زايد على بعد أربعة كيلومترات من موقع الجريمة كانت تارة قد توفيت، حسبما روت ممرضة خلال مقابلة تلفزيونية. ثلاث رصاصات أنهت حياتها؛ واحدة في الرأس، وواحدة في العنق، وأخرى في الصدر، ونقل تلفزيون الحرة أن الأطباء حاولوا إنعاشها دون جدوى.
وتداول الإعلام العراقي بيانات لوزارتي الداخلية والصحة أكدت إطلاق الرصاص على تارة فارس، 22 عاما، بحي كامب سارة في العاصمة بغداد، وأرداها هذا قتيلة.
في اليوم التالي، نشر مكتب رئيس الوزراء آنئذ، حيدر العبادي، تغريدة جاء فيها أنه وجه أوامره إلى الأجهزة الأمنية بمباشرة التحقيق فورا والوصول إلى ملابسات الحادث في غضون 48 ساعة، متعهدا بالتحقيق في جرائم قتل أخرى. فقد أشارت تقارير إعلامية إلى أن تارة كانت ثالث شابة معروفة تقتل في بغداد في غضون شهرين؛ فقد قتلت اثنتان أخريان في نفس التوقيت بعد ظهر الخميس.
كانت رفيف الياسري تعمل في عيادة “باربي كلينيك” لعمليات التجميل، كما كانت تقدم خدمات طبية بالمجان لمن يحتاج مساعدة وغير قادر على الدفع، كذلك كانت رشا حسن تدير مركز تجميل، وكانتا في الثلاثينيات من عمرهما، وقضتا نحبهما في ذات الشهر: أغسطس/آب.
قبر رفيف الياسري، مقبرة النجف – بغداد
صرحت وزارة الداخلية بأن رفيف الياسري ماتت “بسبب تعاطي جرعة زائدة من المخدرات”، أما رشا حسن فمن جراء مشاكل في القلب. ولكن غياب حكم حاسم بهذا الخصوص فتح المجال للتشكيك بما ذكر خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي.
تتساءل الناشطة مريم المندلاوي، ٢٤ عاما: “رفيف كانت طبيبة، هل يعقل أن تموت بجرعة زائدة؟”، وشكك مثلها كثيرون في تلك الأسباب التي ساقتها السلطات. وفي أجواء الهلع تلك، وضع الناس وفاة تارة والمرأتين الأخريين في سياق واحد رغم عدم وجود دليل قطعي على ذلك.
بدأ الناس يتحدثون عن استهداف “المتحررات” والنساء المؤثرات على وسائل التواصل الاجتماعي، وسارعت مواقع إخبارية حول العالم لتغطية مقتل تارة والحديث عن وجود صلات محتملة بحوادث قتل أخرى.
وكان العراق قد شهد حوادث قتل كان ضحاياها من الناشطين سواء أكانوا رجالا أم نساء – شغلت وسائل الإعلام المحلية. ففي مدينة البصرة أطلق الرصاص على المحامي جبار كريم البهادلي أواخر يوليو/تموز، وكان معروفا بالدفاع عن المحتجين، وقبل يومين من مقتل تارة، قتلت الناشطة سعاد العلي، 46 عاما، بالرصاص، على مقربة من سيارتها بالبصرة بجنوب العراق، وكانت ممن شاركوا في احتجاجات البصرة على نقص الخدمات الأساسية من مياه شرب ومرافق أخرى، وعلى انتشار البطالة.
سعاد العلي
أما مقتل تارة فكان مختلفا؛ كان مخططا بعناية: في وضح النهار، في حي آمن ببغداد، وفي شارع مراقب بالكاميرات.
تقول فاتن خليل حطاب الناشطة من البصرة والبالغة 25 عاما: “عندما قتلت سعاد بكيت، وكناشطين خفنا أن يلقى نشطاء آخرون المصير ذاته. أما الحكومة فحاولت تهدئة الأمور وأشارت إلى احتمال أن يكون طليقها وراء مقتلها، كمحاولة لامتصاص الخوف”.
“حاولنا إقناع أنفسنا بتلك الرواية. ولكن لم تمض أيام حتى قتلت تارة فارس، وكان موتها الشرارة التي نشرت الخوف في نفوس النساء؛ فمستحيل أن يكون موت تارة صدفة، ومستحيل أن يكون موت رفيف، أخصائية التجميل التي قتلت في بغداد في ظروف غامضة، صدفة، ومستحيل أن يكون مقتل امرأة أخرى بعد أسبوع تعمل أيضا في التجميل في بغداد، هي رشا حسن، في ظروف غامضة أيضا، صدفة”.
ورغم إشارة رئيس الوزراء السابق لوجود صلة بين تلك الحوادث، استبعدت تصريحات رسمية وجود شبهة جنائية تحيط بكل الوفيات.
وبعد أكثر من أسبوع على مقتل تارة، صرح وزير الداخلية السابق قاسم الأعرجي بأن تارة فارس “قتلت على أيدي جماعات متطرفة معروفة لدينا، والجهود مبذولة لإلقاء القبض (على الجناة) وعرضهم أمام الشعب العراقي لينالوا جزاءهم العادل”، ملمحا إلى سرعة حل القضية.
وخلال مقابلة تلفزيونية في 11 أكتوبر/تشرين الأول قال الوزير إن هناك “معلومات مؤكدة” تشير إلى أن “مجموعة متطرفة مدربة” قتلت تارة، دون أن يسمي تلك المجموعة ولكنه أضاف أن نفس المجموعة قتلت الممثل العراقي الواعد كرار نوشي صيف عام 2017.
وأوضح أن الكاميرات رصدت الدراجة التي استقلها قاتل تارة.
كرار نوشي
وفور مقتل تارة، كانت عيوش من بين من ألقي القبض عليهم، وأرسلت إلى سجن النساء في بغداد.
أثبتت التحقيقات براءة عيوش وأطلقت السلطات سراحها.
“أنتِ التالية!”
دب الخوف في نفوس من عرف تارة فور مقتلها، إذ خشوا أن تكون قد قُتلت بسبب أسلوب حياتها، وتحدث بعض الشابات، اللاتي اخترن أسلوب حياة مختلفا، عن تلقيهن تهديدات بالقتل.
ونقل تلفزيون العربية عن ملكة الجمال السابقة شيماء قاسم قولها إنها تعرضت للتهديد على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد أيام من جريمة قتل تارة ظهرت في بث مباشر على الإنترنت وهي تبكي في منزلها في عمان بالأردن وتقول: “لست خائفة ولكن روحي سئمت”. وقالت إنها شعرت بغصة لكم التعليقات التي هللت لموت تارة، لذا قررت الابتعاد عن صفحات التواصل الاجتماعي فترة.
وقالت: “لهالدرجة حياة الناس صارت رخيصة؟ صحيح نحن شخصيات معروفة ولكننا لسنا عاهرات كما يقولون”.
شيماء قاسم
كما عبرت شابة أخرى معروفة هي دموع تحسين، وهي التي فازت عام 2018 باللقب في النسخة العربية لبرنامج “ذا فويس” للمواهب، عن صدمتها وغضبها. وقالت في مقطع على وسائل التواصل الاجتماعي: “فقدت الأمل في هذا البلد. هل هذا هو العراق الذي كان الجميع يحلم باسمه؟”
دموع تحسين
شيماء ودموع من جيل تارة، جميعن من بنات العشرينيات اللاتي نشأن في وقت شهد فيه العراق عنفا متزايدا. كانت تارة في السابعة من العمر عام 2003 حين سقطت بغداد في أيدي القوات الأمريكية والبريطانية.
وفي مقابلة على يوتيوب قبل أشهر من موتها قالت تارة “كان عنا حرب، ما زلت أذكر أصوات الحرب وطلقات الرصاص”. وعام 2006، اندلعت حرب طائفية قتل فيها آلاف المدنيين.
تقول “لبنى”، وقد آثرت إخفاء اسمها الحقيقي، وهي محاضرة شابة في إحدى جامعات بغداد: “في فترة ما بعد الحرب، كان هدف النساء الوحيد حماية أنفسهن من العنف الدائر بسبب الفوضى المجتمعية”.
وتضيف: “حاولت النساء مواصلة الحياة مع من تبقى من أفراد أسرهن بعد أن فقدن أزواجا وأبناء وتعين على الكثيرات ترك منازلهن والنزوح لأماكن أخرى”.
ويتذكر الإعلامي ساري حسام: “كانت أحياء بغداد مدمرة، والموت والكآبة في كل مكان”.
2003: غارة على بغداد
أول مرة التقى ساري بتارة كانت عام 2014 خلال مسابقة “ملك وملكة الأناقة” التي جمعت كثيرا من المتطوعين في جمعيات المجتمع المدني الناشئ. كانت تارة واحدة من بين المتطوعين، في قرابة الثامنة عشرة من عمرها، وكانت قد تركت المدرسة، وانفصلت عن زوجها، ورزقت بطفلها الوحيد الذي أُخذ منها.
يتذكر ساري كيف كانت تارة “منطوية وقليلة الثقة بنفسها”، لكنها سرعان ما تغيرت وأصبحت شخصا لا يخشى الحياة.
(صورة لساري حسام أثناء مقابلة أجراها مع تاره)
في العام نفسه، عام 2014، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية “الخلافة” في العراق وانتشرت أخبار ما ارتكبه أفراد التنظيم من فظائع وقطع رؤوس، لذا، وحتى في المناطق التي لم يكن التنظيم يسيطر عليها، زادت خشية النساء من التعبير عن أنفسهن والحياة بحرية.
في ذلك العام، تركت “لبنى” بغداد لأنها لم تستطع القيام بما تريد من أشياء حتى البسيط منها كارتداء الملابس التي تحبها، وبعد أربع سنوات، عادت إلى العاصمة وكان ذلك قبل شهر واحد من موت تارة.
تارة نفسها قررت العيش في أربيل، في المنطقة الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي شمال العراق، حيث اعتبرت أكثر أمنا من بغداد، وتجاسرت على المجازفة والتعبير عن نفسها، ما دفع الناس إلى انتقادها على الدوام. قالوا عنها “عاهرة”، كما قيل إن من عمل معها من مصورين وصحفيين، مثلا، قد جلب العار على أسرته، ورغم ذلك مضت في طريقها.
وبعد موت تارة، كما كان الحال في الفترة التي سبقت مقتلها، تلقت نساء أغلبهن من الفنانات والناشطات، رسائل تهديد، بعضهن تسلم الرسالة ذاتها: “أنت التالية. ستقتلين الخميس المقبل”.
عم الخوف النفوس، ما حدا ببعض الأسر إلى دفع بناتها، وأبنائها أحيانا، إلى ترك البلاد حتى تهدأ الأوضاع، في حين بقي البعض داخل البلد، وآثر التواري عن الحياة العامة.
تصف فاتن خليل الحطاب نفسها كناشطة نسوية، وتقول إنها أصبحت معروفة في العراق بعد مقابلة تلفزيونية تصدت فيها لزواج القاصرات.
قررت فاتن ترك العراق عقب موت تارة وهي الآن تسعى إلى الحصول على اللجوء في تركيا، وتقول إنها تلقت تهديدات بالقتل على حسابها على انستغرام، كان فحواها إن الدور آت عليها.
فاتن خليل
كما فرت شابة أخرى، آثرت إخفاء اسمها ومجال عملها والاكتفاء بالقول إنه أحد المجالات الفنية، بعد أن تلقت رسالة تهديد قبل موت تارة بفترة قصيرة وقررت الرحيل إلى أربيل ووقف كافة حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي. وسبق ذلك تعليقات عدائية تلقتها من قبيل “ما تفعلينه حرام”، ورأى والداها أن من الأفضل لها أن تترك المدينة حتى تستقر الأوضاع، ولم يكن ذلك سهلا عليها.
تقول إن بغداد “مدينة متعبة ومؤذية، ولكني أحبها رغم ذلك ولا أعرف كيف أشرح ذلك”.
تعتقد هناء ادوار، وهي ناشطة عراقية في السبعينيات من عمرها، أن شيئا قد تغير بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق صيف 2017، وبدأت البلاد تعود إلى طبيعتها وتجرأت نساء أكثر على المشاركة في الحياة العامة.
ولكن بعض الجماعات، التي لم تسمها، لم يعجبها ذلك إذ يريدون أن تلزم المرأة البيت.وتتذكر: “بعد تصفية وجود داعش عادت الحياة لتأخذ طابعا مدنيا في البلد. لن أنسى في حياتي الألعاب النارية التي لونت مرة أخرى سماء الكثير من مدن العراق عشية العام الجديد. خرج الرجال والنساء والأطفال إلى الشوارع وعم شعور بالانفراج والتحول”.
وتشير الناشطة للعدد المتزايد من النساء اللاتي شاركن في الانتخابات البرلمانية في مايو/أيار 2018، وكانت أول انتخابات بعد سقوط تنظيم الدولة الإسلامية، وقد شاركن رغم المضايقات والإساءات من قبل رجال لم يعجبهم الوجوه الواثقة “والهيئات اللطيفة” للمرشحات على اللافتات الانتخابية.
وتقول هناء إنه تم تسريب فيديوهات ذات محتوى جنسي زعم أنها لمرشحات لترهيبهن و”لينسحبن طوعا” من العمل السياسي. ولكن رغم ذلك، كان أكثر من ربع البرلمان من النساء، أي أنها تفوق نسبة النساء بالكونغرس الأمريكي.
وتضيف هناء ادوار أن النساء عدن إلى الحياة المدنية وشاركن في أنشطة عدة “كالتظاهر، والمطالبة بالقضاء على الفساد، إلى جانب افتتاح معارض فنية”.
ولكن لبنى، التي تعمل في التدريس الجامعي، تقول إن المجتمع “ليس مستعدا بعد لقبول ذلك”، رغم أنها لاحظت عند عودتها إلى بغداد أن الأمور تغيرت وأصبحت النساء أكثر ظهورا في المجال العام. وتقول إن المرأة “فرضت وجودها من خلال عملها” وأن الجمعيات غير الحكومية “أدت دورا كبيرا في إعادة النساء للحياة العامة”.
وتعكس ملابس النساء الوضع العام والضغوط المفروضة على النساء على نحو كبير؛ ففي حي المنصور بوسط بغداد تقول لبنى إنها تستطيع أن ترتدي تي شيرت وبنطال جينز، أما في مدينة الصدر فتلبس قميصا طويلا وسروالا فضفاضا وتتلفح بعباية. وفي السليمانية بكردستان العراق تشعر كأنها في إسطنبول إذ لا يلقي أحد بالا لما تلبسه النساء. تقول لبنى: “ما جرى مؤخرا من جرائم قتل يظهر أن النساء لعبن دورا أكبر مما يتقبله المجتمع وأن المجتمع يخشاهن”.
المستقبل
مضت ستة أشهر ولم يمثل بعد قتلة تارة أمام العدالة، ويبدو اليوم أن الناس قد نسوا الحادثة بعد أن تصدرت في وقتها عناوين أخبار العراق.
وحتى بالنسبة لأشد المتأثرين بموتها، مضت الحياة في طريقها كما تمضي دائما، فالعراق اعتاد اجتياز صعاب جمة. ويصف الإعلامي الشاب ساري ذلك قائلا: “نحن العراقيين تخطينا أمورا أصعب بكثير من هذا الحادث، ولكننا تعلمنا أن نخرج منها وأن ننظر دائما للمستقبل”.
(الصورة لرجل يزور قبر تاره)
ما أكثر حوادث القتل التي قُيدت ضد مجهول في العراق، واليوم لم يكشف بعد عن قاتل تارة فارس، ولكن تعددت النظريات حول مقتلها ومن كان وراء ذلك.
تقول هناء ادوار إنه “جرت محاكمة شابين موقوفين بتهمة قتل تارة وأفرج عنهما لعدم توفر أدلة ضدهما، وهما صديقاها المقربان” – ولم نستطع التحقق من ذلك.
وتضيف: “مثل أغلب الجرائم عندنا أغلقت ملفاتها وسجلت الدعاوى ضد مجهول! نشعر بالحزن والأسى الشديدين والغضب إزاء الانفلات الأمني وضياع حقوق المواطنين”.
أما حسين علاوي، المحاضر بالأمن الوطني بجامعة النهرين ببغداد، فيقول إن القضية “معقدة”، وربما يفسر توقيت الجريمة السبب في عدم كشف ملابساتها؛ ويوضح أنها قتلت “في فترة انتقالية بين حكومة وأخرى”.
وبعد شهر من مقتل تارة، وافق البرلمان العراقي على تعيين وزراء جدد ولكن ظلت وزارات الداخلية والدفاع والعدل شاغرة.
وحتى هذه اللحظة مازال رئيس الوزراء عادل عبد المهدي يتولى شؤون وزارة الداخلية وقد صرح: “سنمضي بحصر السلاح بيد الدولة فقط (..) وسنعمل على إنهاء الفوضى الأمنية”.
وهناك شخص واحد فقط من السلطات مخول بالتعليق على قضية مقتل تارة هو اللواء سعد معن، ولم يعلق على القضية. يقول حسين علاوي: “تعودنا ألا يكشف جهاز الأمن عن نتائج التحقيقات الجارية (..) فإما أن القاتل لم يُعرف بعد، أو أنهم لا يريدون الكشف عنه بسبب عدم اكتمال الأدلة”.
وتضيف هناء ادور إن هناك ضغوطا تمارس على وزارة الداخلية: “هناك أسرار رهيبة وراء عمليات القتل تلك”، والتي تصف مرتكبيها بـ “الأشباح”.
وبينما تبذل جهود لتحسين الوضع الأمني، مازال هناك ضحايا لعمليات القتل والاستهداف من الرجال والنساء.
2018: إحدى دوريات الشرطة الفدرالية في بغداد
فبعد قتل تارة، استهدف مراهق في 12 أكتوبر/تشرين الأول للاشتباه في أنه مثلي؛ وفي 2 فبراير/شباط 2019، أي بعد أربعة أشهر من مقتل تارة، أردى مسلح مجهول الروائي العراقي علاء مجذوب، 51 عاما، قتيلا في كربلاء جنوبي بغداد.
ورغم انعدام الأمن فمازال الناس يزاولون حياتهم اليومية المعتادة، وتقول لبنى، المحاضرة الشابة: “محال التجميل فتحت أبوابها كما جرت العادة، والحياة عادت طبيعية، والناس يذهبون لمراكز التسوق وإلى الحفلات”، بل لاحظت أن “المشهد الثقافي انتعش مجددا في بغداد” وغدت تشارك في منتديات اجتماعية وأندية نسوية.
ولكن البعض تغيرت دفة حياته تماما، مثل فاتن خليل التي تقول: “رغم أنني لم ألتق تارة ولم أكن من متابعيها لكنها غيرت حياتي بشكل أوآخر”.
وتتذكر: “شاركت تارة مرة مقطعا للقاء تلفزيوني لي تحدثتُ فيه عنزواج القاصرات وكتبت لي ‘فدوة لقلبها’. كما أني كتبت مدافعة عنها مرة واحدة فقطبعد التنمر الذي تعرضت له عند زيارتها للبصرة للمشاركة في مهرجان”.
مازالت فاتن في انتظار البت في طلب لجوئها في تركيا، وهي تعمل حاليا على مشروع صغير خاص بها إذ تبيع الملابس التركية للعراقيين عبر الإنترنت إلى أن يتسنى لها الحصول على وظيفة ثابتة.
ورغم صعوبة الحياة فهي غير نادمة على ترك العراق، إذ تقول إنها شعرت “أن الدولة غير قادرة على حماية مواطنيها؛ فالدولة لا تحمي إلا الأسماء الكبيرة، أما نحن فمجرد أصوات انتخابية بنظرهم”.
وتقول عبر واتساب وهي في طريقها إلى إجراء مقابلة عمل: “يمكنني من هنا التعبير عن رأيي بحرية، وحين كنت هناك كان عليّ التفكير في كل كلمة قبل أن أنطقها. تعرضت للتهديد رغم أني لم أنتقد أي جماعة سياسية أو دينية”.
“لا أريد أن ألقى مصرعي في العراق ولا أريد أن يكتب الناس عني تعليقات سيئة كالتي يكتبونها عن تارة”.
وتقول معلقة على الدمار الذي أحدثته الحرب: “لم نولد ونتربى في بيئة صحية، رأينا قتلا وتفجيرات وداعش تقطع الرؤوس والناس يشردون”.
وتضيف فاتن بغداد مثل قنبلة موقوتة، قد تبدو هادئة وطبيعية إلى أن تعيده أزمة كبيرة إلى حالة التوتر. هكذا اعتدنا عليه”.
عن موقع : فاس نيوز ميديا