الإسبانية: فعالية المشاركة في مواجهة الشعبوية والعدمية
محمد إنفي
تستحق الانتخابات الإسبانية، منا نحن المغاربة، أن نهتم بها ونقرأ نتائجها ونحللها
لنستخلص منها ما يمكن من الدروس التي قد تفيدنا في تقوية وتمنيع ديمقراطيتنا الفتية
وتساعدنا على تجويد ممارستنا السياسية.
من دون شك أن الحدث لم يمر دون أن يثير الاهتمام في بلادنا عند المتتبعين والمهتمين.
ومن دون شك، أيضا، أن هذا الاهتمام قد تبلور، عند البعض، في قراءات محددة، إما جزئية
أو شاملة. وتلعب الصحافة، بشقيها الورقي والإليكتروني، في هذا الباب، دورا أساسيا. ولا
أقصد، هنا، القصاصات الإخبارية، وإنما أقصد القراءات التحليلية.
لا أزعم أنني قادر على الاطلاع على كل القراءات التي تمت فعليا من هذا المنظور أو ذاك
للانتخابات الإسبانية في صحافتنا المغربية. لكن النزر اليسير من القراءات الذي اطلعت
عليها، يكفي لإدراك أهمية هذه الانتخابات، ليس فقط بالنسبة لجارتنا الشمالية، بل وأيضا
بالنسبة لبلادنا.
وسوف أكتفي بالإشارة إلى أربع مقالات تحليلية، نشرت ما بين 30 أبريل و8 ماي 2019.
فالمقال الأول – المنشور بتاريخ 30 أبريل في موقع جماعة العدل والإحسان-
يحمل عنوان “الانتخابات الإسبانية: دلالات وتحديات”؛ وهو للسيد محمد
منار. أما المقالات الثلاث الأخرى، فقد نشرت تباعا بجريدة “الاتحاد
الاشتراكي”، أيام 1و3 و8 ماي. وهي على التوالي:”…فوز الاشتراكيين
انتصار للمغرب” لعبد الحميد جماهري، مدير النشر والتحرير في يومية
“الاتحاد الاشتراكي”؛ “ما يهمنا من دروس الفوز الاشتراكي في إسبانيا” (افتتاحية
جريدة “الاتحاد الاشتراكي”) و”انتصار الوردة” للأستاذ عبد السلام المساوي.
وإذا كانت المقالات الأربع تتقاطع في تحليلها وفي بعض استنتاجاتها، فإنها، مع ذلك، تتمايز
من حيث نقطة الارتكاز. فالمقال الأول قد ركز على الدلالات العامة لنتائج الانتخابات
الإسبانية، وكذا على التحديات المطروحة أمام الطبقة السياسية، بيسارها ويمينها؛ بينما
مقالات جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، قد انصب اهتمامها أساسا على “الفوز الاشتراكي” في
علاقة مع مصالح المغرب، من جهة؛ ومن جهة أخرى، في علاقة مع الإمكانية التي يتيحها
هذا الفوز لبناء الفكرة الاشتراكية الجديدة في المنطقة المتوسطية.
ومن السمات البارزة للانتخابات الإسبانية الأخيرة والتي سجلتها كل التقارير الإعلامية
والمقالات التحليلية، هي نسبة المشاركة. وهذا هو الدرس الأساسي، بالنسبة لي شخصيا، من
هذه الانتخابات. فحسب الأرقام المعلنة، فإن هذه النسبة (ما يقارب ستة وسبعين في المائة)
كانت مرتفعة جدا، مقارنة مع انتخابات 2016. وهذا الارتفاع في نسبة المشاركة، هو ما
أعطى لهذه الانتخابات قيمتها السياسية الحقيقية، بحيث جعلت التنافس يكون شرسا وحقيقيا
وأعطت خارطة سياسية واضحة وواقعية، وإن كانت تعبر عن تشرذم سياسي (جدَّ على
إسبانيا في العشرية الأخيرة)، قد يرغم البلاد على اللجوء إلى انتخابات أخرى، في حال
فشل الحزب الاشتراكي في تشكيل الحكومة الجديدة.
فبفضل المشاركة المكثفة الواعية، تمكن الناخبون والناخبات الإسبان من فرز مشهد سياسي
واقعي، يعبر بوضوح عن التوجهات السياسية المختلفة السائدة في المجتمع وفي الرأي العام
الإسبانيين. وبمعنى آخر، فقد جعلت المشاركة المكثفة الخارطة السياسية تعكس حقيقة كل
تنظيم سياسي وما يمثله في الرأي العام الإسباني. فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار،
تخلخلت المواقع بفعل المشاركة المكثفة، رغم أنها لم تضمن للبلاد الاستقرار السياسي الذي
كان يميز إسبانيا خلال المدة التي سادت فيها الثنائية القطبية الممثلة بالحزبين التقليدين:
الحزب الاشتراكي العمالي والحزب الشعبي.
لقد تراجع بشكل كبير اليمين التقليدي المتمثل في الحزب الشعبي؛ بينما اليمين القومي
المتطرف، القائم على العنصرية ومعاداة المهاجرين والمناهض لحقوق المرأة والمساواة بين
الجنسين، قد نجح في اختراق المشهد السياسي، وبقوة، بحيث دخل البرلمان بـ 24 مقعدا،
بعد أكثر من أربعين عاما على رحيل الجنرال فرانكو.
أما اليسار التقليدي المتمثل في الحزب الاشتراكي العمالي بقيادة بيدرو سانشيز، رئيس
الوزراء الحالي، فقد تصدر المشهد السياسي بحصوله على 123 مقعدا من أصل 350
(أغلبية نسبية)؛ مما يعني أنه بعيد عن الأغلبية المطلقة، لكنه حقق تقدما بالمقارنة مع
الانتخابات التشريعية السابقة؛ بينما تراجع اليسار الراديكالي (والأصح تحالف اليسار بقيادة
حركة “بوديموس”).
ولنا، نحن المغاربة، في الانتخابات الإسبانية دروسا وعضات بالنسبة لديمقراطيتنا الفتية.
وأهم هذه الدروس، في رأيي المتواضع، هو فضيلة المشاركة وأهميتها في مواجهة
عنصرين خطيرين على السياسة وعلى الديمقراطية، وبالتالي على الاستقرار السياسي؛
وهما الشعبوية والعدمية.
نعرف أن نسبة المشاركة عندنا متدنية. ولهذا الأمر أسباب متعددة؛ أهمها تمييع الدولة
للمشهد السياسي من خلال خلق تعددية حزبية مصطنعة؛ وذلك عبر خلق حزب إداري أو
دولتي بمناسبة كل استحقاق انتخابي، منذ الاستقلال إلى عهد قريب. وقد صاحب ذلك
مسلسل من التزوير والتلاعب بإرادة المواطنين.
ومن تبعات هذا التمييع، أصبحت لنا أحزاب تستثمر في الهشاشة وتُشجع على العزوف
الانتخابي لتستفرد بالمشهد السياسي عن طريق الرشوة الانتخابية المباشرة أو تلك التي
تختبئ وراء عملية الإحسان أو العمل الجمعوي. وقد سبق لي أن خضت في هذا الموضوع
في عدة مقالات؛ أحيل على سبيل المثال، لا الحصر، على مقال بعنوان ” العزوف
والمقاطعة والرشوة الانتخابية، الثالوث الأخطر على البناء الديمقراطي” (“تطوان بلوس”
بتاريخ 28 شتنبر 2016؛ يمكن قراءة الموضوع في محرك البحث “مغرس” في نفس
التاريخ).
وإذا ما أردنا أن نفهم من هي الفئات التي لا تشارك في التصويت، فيمكن تقسيمها إلى
صنفين: صنف لا مبالي بحيث لا يهتم حتى بتسجيل نفسه في اللوائح الانتخابية؛ وهي فئة
ليست بالقليلة؛ وصنف آخر مقاطع للانتخابات إما بقرار شخصي وإما بقرار جماعي
(جمعيات وأحزاب سياسية). ويتكون الصنفان معا، في الأغلب، من الشباب والفئات
المنتمية إلى الطبقة الوسطى.
ويقدم هؤلاء خدمة ثمينة، مجانا، إلى أصحاب الرشوة الانتخابية من تجار الدين وتجار
الانتخابات. فكلما تدنت نسبة المشاركة، كلما تمكن هؤلاء من التحكم في المشهد الانتخابي
من خلال تحويله إلى “سوق”، لكل منهما فيه زبائنه “الخُلَّص”.
خلاصة القول، فإذا ما أردنا أن نستخلص درسا أو عبرة من الانتخابات الإسبانية، تفيد
حياتنا السياسية ومشهدنا الانتخابي، فلنضع نصب أعيننا إشكالية العزوف الانتخابي ولنبحث
عن السبل والوسائل الكفيلة بإعادة الثقة إلى المواطن في السياسة وفي المؤسسات التمثيلية.
صحيح أن كل الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية…لا تساعد
في التحفيز على المشاركة المكثفة. لكن، علينا أن نعلم جميعا أن المشاركة هي المفتاح
للوصول إلى تغيير هذه الشروط. أما الاكتفاء بالنقد والانتقاد للأوضاع، أو التعبير عن
الامتعاض من هذه الأوضاع، ثم الاستسلام لليأس ولجاذبية النزعة السلبية…فهو العبث
بعينه.
ويمكن تصنيف أصحاب هذا الموقف في خانة العدمية المدمرة للذات والمحبطة للطموحات
والمشجعة للجمود وسيادة الأمر الواقع بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية.
وعلى هؤلاء أن يعلموا أنهم يساهمون، بوعي أو بدونه، في إضعاف المؤسسات التمثيلية
بسبب النخب غير الكفأة التي يفرزها الفساد الانتخابي المستفيد من العزوف؛ والواقع الحالي
يغني عن التفصيل. كما عليهم أن يعلموا أنهم يتحملون، بسبب موقفهم السلبي، المسؤولية
في تأييد، بل واستشراء الفساد الانتخابي؛ وبالتالي، تكريس النكوص على كل المستويات.
عن موقع : فاس نيوز ميديا