يبدو التساؤل عمن هم الحياينة تساؤلا مشروعا باعتبار أن هذه القبائل تشكل المجال المفضل أو المختار لمقاربة الإشكالية التي تهمنا، إشكالية التحولات الاجتماعية. لكن، في الوقت ذاته، ومنظورا إليه من زاوية أخرى، زاوية ابستمولوجية صرفة، يبدو و كأنه سؤال خاطئ، سؤال طرح بشكل سئ ما دام يقدم نفسه كتساؤل عن الأصل، سؤال حاليا أصبح متجاوزا، بل وحتى لو ألححنا في طرحه، فإننا لن نصل بالتأكيد إلى نتائج مضبوطة ومتفق عليها. وهي مسألة بديهية باعتبار التاريخ الكلي وربما الخصوصي لتجمعات المغرب وقبائله : تحركات وهجرات متتالية بفعل الحروب، المجاعــات والكوارث الطبيعية، الأوبئة …الخ.
لكن، وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو في الواقع طبيعية، سنحاول واعتمادا على الدراسات المتوفرة من جهة وعلى ما أفرزته الذاكرة الجماعية لرجال أو لسكان المنطقة أن نخرج بتصور عام قد يفيدنا تاريخيا على الأقل في تحديد بعض ملامح ظهور وتطور هذا التجمع القبلي الذي تمثله قبائل الحياينة، بطبيعة الحال من منظور هذه المرجعيات المكتوبة منها والشفوية. بل ويمكن أن نتقدم أكثر ونتساءل عن مدى إمكانية وجود أو تصور علاقة أو رابط بين المرجعيتين؟ ثم ألا يمكن اعتبار المرجعية المكتوبة مجرد طريقة فهم أو تأويل للمرجعية الشفوية / الأسطورة، التي نعتقد أنها المرجعية الأساس، المؤسسة للاجتهادات اللاحقة التي اتخذت صيغة معرفة تاريخية بحكم بنائها وطريقة تناولها لموضوعها.
تاريخ هذه القبائل إذن يتأرجح بين زمنين : زمن أسطوري، ذلك الذي بلوره المخيال الجماعي، وزمن تاريخي ذلك الذي نتلمسه من خلال الكتابة التاريخية قديمها وحديثها. كيف يظهر تاريخ هذه القبائل من خلال هذين الزمنين / المستويين؟ وقبل ذلك كيف تتحدد بلاد الحياينة جغرافيا
بلاد الحياينة : الإطار الجغرافي :
يمثل الحياينة جزءا من مقدمة الريف في الشمال الشرقي لمدينة فاس ما بين نهري سبو وورغة. و”مقدمة جبال الريف ليست سوى جانب أو مظهر جهوي للريف “.
وحدة البلاد هي قبل كل شئ عرقية سلالية : الحياينة عبارة عن كونفدرالية لثلاثة قبائل : اولاد عمران في الشمال، اولاد رياب في الجنوب واولاد عليان بين القبيلتين السابقتين. “هذه الكونفدرالية تمتد لتكون وحدة إدارية، وتمثل منطقة نفوذ قائد تيسة Tissa، دائرة تاونات، عمالة فاس”.(حسب التقسيم الإداري السابق – أما حاليا فالدائرة هي تيسة والعمالة هي تاونات.)
إن بلاد الحياينة، كوحدة على المستوى العرقي السلالي لا تظهر فريدة على مستوى الجغرافية الطبيعية : إنها لا تختلف بالمرة عن المناطق التي تمتد جهة الغرب والشرق. إن الأمر يتعلق أساسا بجزء شمال – جنوب في مقدمة الريف. ” يظهر في هذه المنطقة، المتجانسة بشكل واسع والتي تمثلها مقدمة الريف، أن الوحدات الجهوية تدين أكثر لتوزيع المجموعات البشرية أكثر منها لتقلبات الإطار الطبيعي “.
ألا يمكن أن يؤثر هذا التداخل المجالي، هذا التشابه على مستوى الجغرافية الطبيعية على مستوى ما هو اجتماعي وعلى مستوى ما هو ثقافي بشكل عام ( تقاليد، كيفية التعامل مع المجال وطريقة تنظيمه، تعبيرات و رموز ثقافية … الخ ) ؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فكيف نفسر ذلك ؟ ألا يمكن أن نجد له تبريرات تاريخية ؟ لنعد إذن إلى التاريخ.
بلاد الحياينة : الإطار التاريخي :
- الحياينة بين الحكاية والتقليد :
سنعتمد في هذا المستوى على روايتين تقدم كل بطريقتها الخاصة تصورا للأصل الحياني :
-الرواية الأولى : كان لرجل ثلاثة أبناء : رياب وعمران من نفس الأم، وعليان من أم ثانية، عندما توفي الرجل/الأب وزعت ممتلكاته ( أراضيه ) بين أبنائه الثلاثة : عمران انفرد بالجزء الشمالي الممتد حتى نهر ورغة، رياب شمال وادي ايناون، وعليان الأخ من الأب ستخصص له المنطقة الوسطى بين أخويه حتى لا يفكر في ترك الأسرة. وهنا نسجل حضور التفكير السلالي وانعكاس هذه العقلية السلالية على مستوى التعامل مع المجال. مع ذلك “فإن الإعتقاد في الإنتماء إلى نفس الجد، سواء كان أسطوريا أو واقعيا، يكون عامل تجانس ووحدة يغني ويدعم أفراد الجماعة”.
- وفي رواية ثانية : نجد أن الحياينة هم أصلا من الحجاز وأن موطنهم أو بلدهم الحالي كان فيما مضى لصنهاجة الشمش الذين يكونون حاليا جبالة شمال ورغة. نسجل هنا كذلك هذا الإنتقال من تنظيم قبلي إلى آخر، من الحياينة إلى جبالة. ونشير كذلك إلى التنوع الذي يطبع أو يغلف هذه التسمية الأخيرة : جبالة و كذلك الغموض الذي يكتنف هذه التسمية.
هاتان الروايتان تسجلان فيما بينهما تناقضا ملحوظا، الأولى يظهر أنها ربطت بشكل ضيق أصل هذه المجموعة السكنية بالمنطقة التي تحتلها. أما الثانية فقد ركزت على قدوم مجموعة من المهاجرين العرب وانغراسهم في بلاد صنهاجة. ومهما كانت الرواية الصحيحة أو الصائبة، فإن الزمن الأسطوري والزمن التاريخي – كما يقول الخطيي – يلتقيان بدون أن يختلطا… إنهما يتواجدان بدرجات مختلفة في نفس الوعي وبكيفية حميمية تجعل التحليل يضل الطريق أمام مثل هذا التركيب المتلاحم “. ” إن التاريخ يندس بين ثنايا الأسطورة، كما أن الأسلاف الذين تتحدث عنهم الأنساب ليسوا علامات مجردة أو شخصيات بدون كثافة تاريخية “.
-وفي الرواية الثالثة : هي في الواقع ليست رواية بل مثلا يدخل في إطار التراث الشعبي للمنطقة – مثل ذو نفحة أسطورية – ومن ثم يمكن أن نؤسس عليه رواية : “الحياينة احياونا واحياو اوليداتنا “.
هناك إذن متحدث ومتكلم مجهول. من هو هذا المجهول ؟ هل هو قبيلة بني ومود التي تحدث عنها الوزان ومارمول في حقبة سابقة خلال القرن 16؟ هل هي قبيلة صنهاجة استنادا على الرواية الثانية؟ كيف تمت عملية الإحياء هذه، هل هي إحياء للأرض أم احياء للساكنة ؟.
إذا كانت كل الإجابات التي قدمناها هنا تبقى ممكنة، فإن ما يمكن أن نسجله هنا هو طبيعة هذا التعايش أو التساكن بين ساكنة محلية وساكنة أخرى وافدة من جهة أخرى، وهذا ” الحوار ” الذي تم خلقه بين القبيلة ” العربية ” والمجتمع الزراعي الصنهاجي paysannerie SANHAJA، على خلاف جهات أخرى في المغرب حيث غالبا ما كان يتم إجلاء مجموعات وتعويضها بأخرى.
هكذا يخلص “لازاريف” إلى القول إن الحياينة يقدمون مثالا “لتمازج ثقافي ستستمر جذوره رغم ترددات التاريخ السياسي”. هذا وإن كنا غير مقتنعين بهذا الطرح أو هذا الفهم، لأن هناك أسئلة عديدة تفرض نفسها على هذا المستوى مثلا : ما هي طبيعة هذا الحوار الذي يتحدث عنه “لازاريف”؟ ما هي حيثياته؟ كيف انطلق؟ و من قام بافتتاحه وهل كان حوارا متكافئا…الخ؟.
الحياينة بين الكتابة التاريخية والتأويل :
لم يكن من الممكن الحديث عن ظهور قبائل الحياينة ما بين “سبو” و “ورغة” شمال فاس إلا مع ظهور كتاب “وصف افريقيا” لـ”لوزن” سنة 1550. لكن الوصف الذي يقدمه يتطابق مع رحلاته أو تواجده بالمغرب ما بين 1510- 1520.
خلال هذه الفترة، كانت بلاد الحياينة تنتمي لمنطقة أو إقليم الريف، وكانت محتلة من طرف قبائل “صنهاجة” ويظهر أن بني ومود القبيلة التي اختفت تحت هذا الإسم كانت ممتدة شمال “إيناون”، بجوار “بني ورياغل” و”بني إيدر”، و”صنهاجة مصباح” على ضفاف نهر ورغة في الشمال.
شرقا كانت محدودة بإقليم الحوز Chaus، بلاد البرابرة الزناتيين الذين قدموا من المشرق خلال القرن 12 هـ مع بني مرين مؤسسي الدولة المرينية والذين حلوا محل “صنهاجة” وتموضعوا في المناطق التي ما زالوا يحتلونها إلى الآن : “غياتة”، و” التسول ” و”بني يازغة” و”البرانس”.
بالموازات مع هذا الزحف للبرابرة الزناتيين على بلاد “صنهاجة”، هناك من يعتقد أن “بني ومود” كذلك تم تعويضهم بالحياينة. وبالرغم من أن هذا الفهم يمكن أن نجد له سندا من خلال الرواية المحلية/الثالثة التي سبق أن تعرضنا لها (الحياينة احياونا واحياو وليدات وليداتنا)، فإنه مع ذلك يظل غير مقنع لأننا لا نعلم كيف تمت عملية التعويض هذه : هل كانت طوعا أم كرها ؟ وفي أية ظروف.
جنوبا، بلاد الحياينة تنتمي، انطلاقا من ” إيناون ” لإقليم فاس حيث يشير ليون الإفريقي إلى مدينة ماركميد Marcaméde، على ضفاف نهر “إيناون” التي تم تدميرها ما بين 1411 و1412. والتي سيتم كراؤها لبعض الفاسيين وبعض الفلاحين. “نسجل في هذا الإطار –يقول لازاريف– هذه الإشارة الأولى لاحتلال أو تدخل مديني في الحياينة، هؤلاء الفلاحون Fermiers، من المحتمل أن يكونوا كما هو الشأن بالنسبة لأماكن أخرى قريبة من فاس، “عربا”. يتعلق الأمر بالهلاليين أو بني هلال القادمين مع بني مرين “.
إن الأوصاف التي قدمها كل من “ليون الإفريقي” و”مارمول” (زار المنطقة سنة 1540) تتيح تخيل ملامح البنية الإقتصادية Physionomie لبلاد صنهاجة : مجموعة من القرى (بنو ومود 25 قرية)، تمتاز بفلاحة غنية وبقطيع كثيف. سكانها ينتجون القمح والصوف والزيت (الذي يصنعون منه صابونا يبيعونه في فاس) وزراعة الكروم والزيتون. والأرض أكثر خصوبة لدرجة لا يمكن معها أن نجد أرضا غير محروثة “.
أما التبادل التجاري فكان يتم مع مدينة فاس، وهو تبادل جد نشيط، حيث نجد الحياينة تمثل ممرا أساسيا يربط بين فاس وباديس والتي مثلت مع سلا أحد المينائين الأساسيين لفاس. قريبا من هذا الممر تظهر بعض القرى حيث يقطن في إحداها “مائة من التجار اليهود”. ومن المحتمل أن الآثار المتبقية حاليا بجبل “صدينة” تمثل شاهدا على هذا “التحضر القروي”. وبالرغم من أن المنطقة كانت تؤدي الضرائب فإن ذلك لم يكن يعفيها من الخدمات العسكرية، حيث يبين مارمول أن “بني ومود” كانوا يقدمون “أربعة الاف مقاتل”.
تعبر هذه الإشارات، يقول لازاريف، عن حضارة أكثر ارتباطا بالأرض، متجذرة في الأرض، قروية Villageoise، والتي يظهر أنها زراعية بشكل عميق.
فجأة أو بشكل فجائي، سيتوقف التاريخ بالمرة عن الحديث عن صنهاجة ما بين “سبو” و”ورغة” عوض ذلك سيظهر تجمع جديد : الحياينة.
يعود تاريخ الإشارة الأكثر قدما والأكثر وضوحا حول حضور الحياينة وتمركزهم في المنطقة الحالية إلى سنة 1610 خلال حكم السلطان السعدي الشيخ بن المنصور. حيث يذكر الوفراني ما نصه : “… وكان الشيخ لما خرج في حجر بادس ونزل بلاد الريف ذهب علماء فاس وأعيانها كالفقيه القاضي أبي القاسم ابن النعيم والشريف الوجيه المنيف النزيه أبي اسحاق ابراهيم السقلي الحسني وغيرهما لملاقاته وتهنيته بالقدوم فلما بلغوه خرج بهم وأمر قبطان النصارى أن يضرب بأنفاضه ارهابا واظهارا لقوة النصارى الذين استصرخ بهم فضربها حتى اصطكت الاذان وارتجت الجبال ونزل القبطان من السفينة للسلام على الأعيان فلما رأوه مقبلا أمرهم الشيخ بالقيام له فقاموا له أجمعين وجازوه خيرا ما فعله بالشيخ من الاحسان والنصرة وسلم هو عليهم بنزع قلنسوته كعادة النصارى وأنكر الناس على أولئك الاعيان قيامهم للكافر وضربوا بعصا الذل والهوان من الملك الديان حتى انهم في رجوعهم لفاس تعرض لهم عرب الحياينة فسلبوهم وأخذوا ما معهم وجردوهم من ملابسهم جميعا ما عدا القاضي أبي القاسم بن أبي النعيم فإنه عرف بزي القضاء فاحترموه ….”.
يظهر إذن أن الحياينة كانو خلال هذه الفترة يحتلون مجالا على الطريق الرابط بين فاس وباديس ويبين الافراني في كتابه “نزهة الهادي” أن الطريق كانت تمر على واد ايناون. نعرف كذلك أنه كان ينظر اليهم باعتبارهم “عربا” (أي أنه ينبغي أن نميزهم عن برابرة صنهاجة).
في مكان آخر اعتمادا على ما كتبه مارمول، نعرف أن صنهاجة حوالي 1540، كانوا يحتلون دائما نفس الأماكن التي وصفها ليون الإفريقي، ومن بينهم ” بني ومود “. إنه إذن –يقول دائما لازاريف– ما بين 1540 – 1610، يتعين أو يجب تحديد فترة مجئ أو قدوم الحياينة. والحال أنه خلال هذه المدة الفاصلة بين السنتين، يمكن أن نموضع كذلك حدثا أساسيا تمثل في قدوم السعديين إلى فاس وانهيار الدولة الوطاسية. ظهور الحياينة إذن تزامن مع هذا التحول السياسي.
هكذا سيتم الإستيلاء على فاس خلال سنة 1549 من طرف محمد الشيخ المهدي والذي كان من بين جنوده قبائل من عرب “معقل” الذين كانوا مرتبطين مع برابرة سوس بروابط “الصف” أو “اللف”، ومن ثم وبجوار قبائل الجيش القديمة، الجيش المريني، ستظهر قبائل جديدة من الجنوب، وبالخصوص عرب معقل (من بين هذه القبائل قبائل “شراكة” الموجودة في قرية ابا محمد). ومن المفترض، يقول لازاريف، أن تكون قبائل الحياينة من بين هذه الوحدات العسكرية العربية.
هذه الفرضية تجد سندها في حضور “اولاد عمران”، إحدى هذه القبائل سنة 1576 بين الوحدات العسكرية السعدية خلال مواحهتها في معركة “الركن” Errokn.
أما حول ظروف تواجد الحياينة ما بين “إيناون” و”ورغة”، ومصير صنهاجة، فلا نعثر على أية إشارة في تاريخ السعديين عند الافراني. نعرف فقط أنه خلال 1558، سيقود ابا محمد مولاي عبد الله السعدي على “وادي اللبن” – فوق أراضي الحياينة – معركة حاسمة بالنسبة لمستقبل المغرب ضد الباشا التركي حسين.
من الممكن إذن، أن هذه المنطقة التي من المفترض أنها كانت محتلة أو عامرة، سيتم تقديمها كأراضي جيش للحياينة. يمكن أن نسجل كذلك أن هذا الإحتلال، وعلى خلاف احتلال جيش السهول الذي سيعود للحياة الشبه رعوية، سيتم وبشكل استثنائي فوق أرض تعرف الإستقرار وكثيفة الساكنة وبالتالي فإنشاء مسيرة عسكرية ضد الغزو التركي يمكن أن يبرر استثناء من هذا القبيل.
اعتمادا على هذه المعطيات التاريخية، يموضع لازاريف كما مر بنا، قبائل الحياينة ويؤرخ لمجيئهم بين 1540 – 1610. إلا أن هذا الإفتراض كما يرى عبد الرحمان المودن، يعدم مبررات ثبوته. ” فإذا ما تذكرنا – يقول المودن – أنه إلى غاية كتابة الدوحة، لايبدو أن مجموعة الحياينة كانت معروفة، على الأقل تحت هذا الإسم، فإنه يصبح من المقبول أن نزيد في تضييق الهامش الزماني الذي سبق أن اقترحه لازاريف، والذي حدده ما بين 1540 و 1610، في حين بات من الجائز أن نحدد ذلك الظهور على ضوء ما سبق وبكيفية شبه يقينية، فيما بين 1578 و 1595″.
فما هو الحدث البارز الذي طبع الفترة التي ظهرت فيها تسمية الحياينة ؟
إبان الصراع الذي احتدم بين المتوكل وعمه، وقد دارت رحى الفصول الأولى لهذا الصراع في حوض إيناون بالذات، وكانت أول مواجهة بين عبد المالك وابن أخيه سنة 1576 م ببني وريثن، وقد ساهم فيها أولاد عمران، وانحازوا إلى جانب عبد المالك بعد أن كانوا ضمن جيش المتوكل. وأولاد عمران أهم قبيلة في مجموعة الحياينة، ولعلها أول من استقر بهذه المناطق.
على أن هذه الشواهد تظل ضعيفة لا تكفي لاقناعنا بأن الحياينة كانوا فعلا من الجيش السعدي، سيما وأن إسم اولاد عمران الذي يمثل إحدى حجج لازاريف الأساسية يحتمل اللبس. ففي المكان الثاني، حيث ذكر هذا الإسم في النزهة، يبدو بجلاء، أن أولاد عمران المقصودين، يقطنون أحواز مراكش، وبالتالي ليسوا أولاد عمران الحياينة. إذ “لم يكن من المؤكد أن أولاد عمران، وأحرى كل الحياينة، كانوا منظمين في شكل قبيلة جيشية، موزعين على المئين والأراحي، فإنه من المحتمل أن يكون المخزن السعدي أو حتى المريني قبله، قد أوكل إلى فرق منها لم تكن قد توحدت تحت نفس الإسم بعد، ببعض المهمات المحددة، كحراسة الطريق “.
هكذا، واستنادا على مجموعة من المصادر التاريخية، ” التي ألحت على انتماء العمارنة أو اولاد عمران إلى ذوي منصور من معقل، وعلى وفود معقل من المشرق إلى الجهة الشرقية والجنوبية الشرقية من المغرب، بكيفية تلقائية ابتداء من القرن 14 م، لا يستبعد المودن أن تكون العناصر الأولى التي كونت الحياينة فيما بعد، قد استقرت في المنطقة منذ هذه الفترة المبكرة ثم جاءت عناصر أخرى لتنضاف إليها من القبائل العربية الأخرى، ولينصهر الكل مع الأصل الصنهاجي أو الزناتي السابق، في إطار الإسم الجديد، سيما والقبائل السابقة في حوض إيناون على ما وقعت الإشارة إليه من الوهن الديموغرافي. وبالتالي فتسمية الحياينة يقول المودن متسائلا ألا يمكن أن ” تكون من صنع المغلوبين “. استنادا على المثل المشهور الذي أشرنا إليه سابقا ” الحياينة احياونا وحياو اوليدات وليداتنا “.
إلا أن لازاريف من جهته واعتمادا على سلسلة من الأحداث التاريخية بين مدى علاقة القبيلة بالسلطة المركزية/المخزن، ليصل في الأخير إلى القول أن الحياينة هم أصلا قبائل جيش ولكن بمعنى استنائي ومغاير، بالمعنى المؤسسي للكلمة كما يقول. تنظيمهم الإجتماعي كذلك كان مطبوعا ببنية الجيش وحتى بداية القرن نجد أثارا أو رواسب تشهد بذلك، فالدواوير مجمعة تحت سلطة قائد المائة، وهي نفسها تابعة لسلطة ضمن خمس قواد تابعين لباشا يقطن بفاس. لكنهم من زاوية أخرى لم يكونوا مرتبطين إلا بشكل ثانوي بالبنيات الدائمة للجيش أو العسكر الأميري : إذا كان الحياينة يقدمون المتطلبات الحربية التي تفرضها الضريبة العسكرية، فإنهم بوضعهم العقاري كانوا مستقلين نسبيا عن السلطات ومن ثم لا يظهرون في التمفصل الدائم للوحدات الكبرى للجيش المخزني.
أكثر من ذلك يقول لازاريف، فالأراضي التي تم اقطاعها للزاوية الوزانية فوق أراضيهم، ستزيد أو ستضاعف من ارتباطهم بالسلطة المركزية. يمكننا من الآن إذن، التفكير أو الإعتقاد أن الحياينة لم يشكلوا منذ القدم إلا جيشا ثانويا، جيشا تكميليا، إضافيا Satellite، يمكن الإعتماد عليه لكي يقوي ويغذي الحركات الأميرية.
إضافة إلى ذلك فهو جيش متميز عن الجيش المغربي “بثباته الجغرافي المثير للدهشة : خلافا للجيش الذين كانوا في خدمة السلاطين المغاربة، والذي عرف بالنسبة لغالبية القبائل تحركات أو تنقلات ملموسة – كنتيجة إما لعدم إمتثالهم للأوامر السلطانية أو لطموحات معينة رسمتها السلطة المركزية– الحياينة سيبقون في نفس الموقع الذي تم تركيزهم فيه عن طريق سادتهم السعديين.
يستحق هذا الحادث أن يذكر، لأنه وحول مدينة فاس نجد فقط قبيلة “اولاد جامع” عرفت استقرارا من هذا النوع. على العكس من ذلك “شراكة” وبعد أن مكثوا مدة طويلة حول مدينة فاس، سيتم ترحيلهم إلى قرية أبا محمد. نفس الشيء بالنسبة “للأوداية” الذين سيتم تفتيتهم وتنقيلهم للجهات الأربع من الأمبراطورية الشريفة. ” كذلك “الشراردة” مثلوا نتاجا مركبا لحركات وتنقلات القبائل، “حميان” ، “اولاد الحاج”، “وبني غزوان” القادمين مؤخرا – حوالي 1850 – تم جلبهم من الغرب،”آيت عياش” من مدينة ميدلت.
ما يميز الجيش الحياني إذن وما يبرر خصوصيته، استقراره أو ثباته الجغرافي هو امتلاكه لأراضيه، فقط “أراضي العدير، أراضي “واحة ورغة” لم تكن أراضي ملك، لأنها بقيت كمراعي لخيول الحركات الأميرية”. وهذه الخصوصية هي التي تعطي للحياينة ولوضعيتها طابعا مزدوجا كقبيلة مستقرة وكجيش ثانوي، وهي وضعية طبعت الحياينة كما يرى لازاريف وهي التي تفسر تقاليدهم الزراعية.
عن: مصدر رقمي
عن: فاس نيوز ميديا