بقلم : محمد إنفي
في الحياة السياسية كما في الحياة الاجتماعية (أسرة، جمعية، ناد…)، هناك من يعمل بجد ويتعب من أجل تطوير الوضع وتغييره إلى الأفضل من خلال تحسين ظروف الاشتغال أو تجويد القوانين المعمول بها والحرص على جعل المساطر والإجراءات التطبيقيىة لهذه القوانين ملائمة للتطورات الحاصلة في المجتمع؛ وهناك، من يبرع في السلبية ويعمل على مقاومة كل تغيير، فيجتهد في عرقلة وإفشال جهود الآخرين.
وعندما تثمر هذه الجهود، رغم العراقيل، لا يجد هذا الصنف من البشر حرجا في أن يتسابق على قطف ثمارها من خلال ركوبه على الأحداث وممارسة التضليل من أجل تصدر المشهد؛ وحين ينجح في ذلك لأسباب يطول شرحها، يجتهد في البحث عن أساليب تضمن له استدامة الاستفادة من هذا الوضع الجديد. لذلك تجده متوجسا من كل مُطالب بالتغيير ويعتبر كل مطلب إصلاح استهدافا له.
وإذا ما أردنا أن نحصر الأمر في المجال السياسي فقط، وتحديدا في ما عرفته بلادنا من إصلاحات سياسية ودستورية، فإن المتتبعين والمهتمين يعرفون من هي الأحزاب التي ناضلت من أجل تحقيق هذه الإصلاحات، ولا تزال، ومن هي الأحزاب التي خُلقت لمناهضة التغيير وعرقلة التقدم الديمقراطي باسم الديمقراطية. وآخر صيحة في هذا الباب، هو ما يعرف بالقطبية المصطنعة. وهي مصطنعة لكونها قطبية بين وجهين لعملة واحدة، صنع كل منهما على حدة، لكن في نفس “المختبر” المعادي للتغيير وللديمقراطية.
ويسجل التاريخ للأحزاب الوطنية والتقدمية، وفي طليعتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، انفرادها بالنضال في هذه الواجهة، رغم ما تطلب ذلك من معارك سياسية قوية كلفتها تضحيات جسام. فالمعركة ضد الاستبداد وضد الفساد السياسي لم تكن سهلة أبدا. ورغم ما تحقق من مكاسب هامة بفضل التضحيات والثبات على المبدأ، فإن هذه المعركة لم تنته بعد.
ونظرا لاختلال ميزان القوى لصالح الدولة وأحزابها، فقد فكرت أحزاب الصف الوطني الديمقراطي والتقدمي، في توحيد جهودها لمواجهة هذا الوضع. وهكذا تأسست الكتلة الديمقراطية خلال شهر ماي 1992، كإطار من أجل تنسيق مواقف الأحزاب المكونة له: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حزب الاستقلال، التقدم والاشتراكية، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وكان الهدف المعلن، هو توحيد جهود هذه الأحزاب في نضالها الموحد من أجل تحقيق مطلب الإصلاح.
ويحكي المجاهد عبد الرحمن اليوسفي، في الجزء الأول من مذكراته الموسومة بـأحاديث في ما جرى، عن “مذكرة الكتلة وتهمة تغيير نظام الحكم”. فبعد أن أعلن الملك الراحل، الحسن الثاني، في ذكرى 20 غشت 1995، عن تنظيم استفتاء على دستور جديد، قدمت الكتلة الديمقراطية في أبريل 1996 مذكرة إلى الملك “تتضمن مطالبها والتعديلات المقترحة للدستور الجديد، غير أنه فوجئنا، يقول اليوسفي، بإرجاع هذه المذكرة من طرف الديوان الملكي بحجة أنها تحاول تغيير النظام وليس تقديم إصلاحات”. ويسجل اليوسفي بأن المطالب الواردة في مذكرة الكتلة تم إدماجها في الدستور الجديد لسنة 2011، بينما “اعتبرها بعض جيوب المقاومة ومناهضة أية خطوة للتغيير والتقدم إلى الأمام، أنها محاولة لتغيير النظام وليس إدخال تعديلات على المؤسسات”(ص 157).
وإذا كانت تلك المطالب الكتلوية قد أُدمجت في الدستور الجديد، فإن هذا الدستور أدمج أيضا أغلب المطالب الواردة في مذكرة قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المنبثقة عن المؤتمر الوطني الثامن المنعقد في نونبر2008. وقد رُفِعت هذه المذكرة باسم القيادة الاتحادية في 8 ماي 2009 إلى ملك البلاد من قبل الكاتب الأول للحزب آنذاك الأستاذ عبد الواحد الراضي؛ وذلك انسجاما مع ما جاء في البيان الختامي للمؤتمر، الذي أكد في إحدى فقراته “أن تجاوز اختناقات المشهد السياسي، يقتضي القيام بإصلاح دستوري ومؤسسي كمدخل ضروري لتجاوز المعيقات التي تواجه مسار الانتقال الديمقراطي، وذلك بالتوجه نحو إقرار ملكية برلمانية يُحَقَّق في إطارها مبدأ فصل وتوازن السلط بما يحفظ للمؤسسات كل أدوارها ومكانتها، ويدقق في صلاحياتها، ويؤهلها للاضطلاع بمهامها في هيكلة الحقل السياسي وتأهيله”.
وقد تقدم الاتحاد الاشتراكي بمفرده بالمذكرة المتضمنة للمقترحات الخاصة بالإصلاح الدستوري المنشود. ولم يفعل ذلك لا تحديا ولا مزايدة ولا رغبة في الاستفراد بالمبادرة؛ بل لكون لا أحد من مكونات الكتلة تجاوب مع مقترحه لرفع مذكرة مشتركة. بالمقابل، انطلقت حملة إعلامية ضد مبادرة الاتحاد في محاولة للنيل منه ومن إرادته في الإصلاح الدستوري.
“صحيح، يقول عبد الواحد الراضي، لم نتلق جوابا ملكيا في حينه عن مذكرتنا، ولكنه سيظهر لنا وللعالم في الخطاب الملكي بتاريخ 9 مارس 2011. لم ننتظر طويلا، ففي ظل التحولات المتسارعة لما سُمِّي بالربيع العربي والدينامية التي عبَّر عنها حِراك الشارع وحركة شباب 20 فبراير، وضمنهم الشبيبة الاتحادية، تلقينا الجواب الذي أردناه. وقد اعتبرنا أن الشعارات الجدية الموضوعية لحركة 20 فبراير كانت في العمق منبثقة من مطالبنا وبياننا العام لمؤتمرنا الوطني الثامن، إذ لم تتخط هذه الشعارات على العموم ما كنا تقدمنا به وحدنا إلى جلالة الملك”( المغرب الذي عشته، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2017، ص 751-752).
ويتضح من هذا الكلام أن لحركة 20 فبراير (النسخة المغربية لما عرف بـ”الربيع العربي”)، الفضل في تسريع الإصلاح الدستوري في بلادنا؛ كما يتضح منه أيضا أهمية المبادرة الاستباقية التي أقدمت عليها قيادة الاتحاد الاشتراكي. فمذكرتها، التي استبقت اللحظة التاريخية، تحولت لدى لجنة إعداد الدستور الجديد، إلى أرضية للإصلاح المنشود؛ وهذا ما يفسر الاستجابة لأغلب مطالب الاتحاد الاشتراكي في دستور فاتح يوليوز 2011؛ ومن بينها المنهجية الديمقراطية التي يتباكى عليها البعض، الآن، بعد أن اجتهد في الدس والتآمر من أجل عرقلتها سنة 2002.
وبعد أن أصبحت المنهجية الديمقراطية مبدءا دستوريا، لا مراء فيه، يحاول هذا البعض أن يفصِّلها على مقاسه ويضيِّق مفهومها ومفهوم الديمقراطية إلى الحد الذي قد تشكل عرقلة حقيقية لمصالح البلاد والعباد؛ إذ يكفي أن نفترض وصول شخص لا يرى أبعد من أنفه (حتى لا أقول شيئا آخر) إلى تصدر المشهد السياسي بفضل الانتخابات – التي نعرف جميعا ما هي الأساليب والوسائل المستعملة عندنا لاستمالة أصوات الناخبين- فيتم، تبعا لذلك، تكليفه دستوريا بتشكيل الحكومة؛ لكن دون أن يكون خاضعا لأي تقييد زمني ودون أن يكون هناك بدائل في حالة الفشل في تكوين الحكومة.
ويحق للاتحاد الاشتراكي، الذي يعود إليه الفضل في دسترة هذا المبدأ، أن يقدم التدقيقات الضرورية لتفعيله بشكل أمثل؛ إذ لا يعقل أن تبقى المدة المطلوبة لتشكيل الحكومة دون سقف زمني محدد؛ كما لا يعقل أن لا تطرح كل التصورات الممكنة من أجل إيجاد بديل أقرب إلى المنطق في حال فشل رئيس الحكومة المكلف.
وتجدر الإشارة إلى أن مطلب الاتحاد الاشتراكي بمراجعة الدستور لا يعني فقط الفصل 47 منه، رغم ما لهذا المطلب من أهمية؛ بل يهم كل الفصول التي أظهرت التجربة بأن بها ثغرات أو عيوب؛ وهو ما يتماشى مع المنهج الذي اختاره الاتحاد في مقاربة كل القضايا السياسية والاجتماعية وغيرها؛ ألا وهو التحليل الملموس للواقع الملموس. ولذلك، فإن مبادراته الإصلاحية لا تتوقف. فكلما أظهرت الممارسة ما يشين أو يعرقل العمل المؤسسي أو يضعف البناء الديمقراطي (خاصة وأن هذا البناء لا زال يشكو من الهشاشة)، إلا ويبادر بالبحث عما يعزز الديمقراطية ويقوي المؤسسات الدستورية.
وفي هذا الإطار، تأتي مبادرة القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي في ما يتصل بمراجعة الدستور ومراجعة المنظومة الانتخابية. وسواء توفقت في هذا المسعى أو لم تتوفق، فإنها تؤكد بهذه المبادرة استمرار تفرد الاتحاد برؤيته البعيدة واستباقه للأحداث. وكما أنصف التاريخ القيادات الاتحادية السابقة، سوف ينصف الحالية، لا محالة، عندما يتأكد لدى أصحاب القرار ولدى الطبقة السياسية صواب ووجاهة المطالب الاتحادية التي لا تروم تحقيق مصالح حزبية ضيقة، وإنما تهدف إلى تمنيع المؤسسات وصيانتها وتقوية البناء الديمقراطي بحمايته من الانزلاقات الشعبوية والممارسات المشينة.
وللالتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يفخر بمساهماته القوية في الإصلاحات السياسية، وفي مقدمتها الإصلاحات الدستورية، التي عرفتها بلادنا. فسواء من موقع المعارضة- خاصة من خلال دوره الفعال في الكتلة الديمقراطية أو من خلال عمله الثنائي مع حزب الاستقلال أو من خلال مبادراته الأحادية – وسواء، أيضا، من موقع مساهمته في تدبير الشأن العام، فإن بصمات الاتحاد قوية في الإصلاحات التي عرفتها بلادنا، خاصة خلال العهد الجديد (عهد الملك محمد السادس).
لكننا نسأل، بالمناسبة، الذين يحسبون كل صيحة عليهم: ما رصيدهم في مجال الإصلاح السياسي والدستوري؟ وهل لهم، أصلا، مبادرات في هذا الباب؟ بكل تأكيد لا. وهل فكروا يوما في الاستفادة من تجربة الأنظمة الديمقراطية العريقة في الغرب، أم أن على أبصارهم غشاوة بفعل توجههم شطر المشرق العربي الذي لا يعرف سوى أنظمة استبدادية؟
على كل، هناك فرق كبير بين من لا يرى في الديمقراطية التمثيلية سوى المصلحة الضيقة لتنظيمه السياسي كأفراد وكجماعة، وبين من يرى في الديمقراطية ما يخدم المصلحة العامة والمصالح العليا للوطن قبل المصلحة الحزبية الضيقة. فتقوية البناء الديمقراطي وحمايته من الأساليب التدليسية ومن الإفساد، هي الضمانة الأساسية لسلامة المؤسسات التمثيلية وقوتها. لذلك، سيبقى الاتحاد وفيا لفكره الديمقراطي ولمساره الإصلاحي. وللذين يحسبون كل مبادرة إصلاحية صيحة عليهم، هدفها النيل من وضعهم، عليهم أن يعرفوا أن الديمقراطية التمثيلية تعني التداول وتعني تغير المواقع؛ وإلا فلا معنى للمنهجية الديمقراطية ولا للديمقراطية نفسها.
وفي الختام، أود أن أهمس في أذن التلميذ النجيب لأكبر المُهرِّجين وأشهر الكذابين في مغرب الألفية الثالثة، بأن مبادرة الاتحاد الاشتراكي ليست “تيها في نقاشات فارغة”، وليست “محاولة للتقليل من منسوب الديمقراطية والتمثيلية”، وليست “انزياحا عن المنهج الديمقراطي وخوضا في نقاشات عقيمة لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد عن تعديل فصل من الدستور أو نمط اقتراع…”؛ وإنما هي من صميم تعميق البناء الديمقراطي وتحصينه ضد الدجل والتضليل والشعبوية المقيتة، وفي صلب النضال من أجل مؤسسات تمثيلية قوية وفعالة. وفي ذلك، فليتنافس المتنافسون !!!
عن موقع : فاس نيوز ميديا