في خضم الاضطرابات التي تسود الانتخابات الإسرائيلية الوطنية المقرر إجراؤها في 17 أيلول/سبتمبر وبشكل غير مسبوق للمرة الثانية في غضون ستة أشهر، يبرز عامل رئيسي غالبًا ما يتم تجاهله: الدور اليميني الحاسم للأحزاب الدينية الصغيرة. فعلى الرغم من تزايد معدلات المجموعات الأرثوذكسية المتطرفة، إلا أنها ما زالت تحصل على خُمس الأصوات فحسب، وبالتالي على خُمس المقاعد في الكنيست. لكن هذا سيكون على الأرجح كافياً لمنع تشكيل حكومة مركزية ضيقة تحت قيادة كاحول لافان، حزب (أزرق أبيض). ونتيجة لذلك، فإن النتائج الأكثر ترجيحًا هي إما تشكيل حكومة يمينية ضيقة أخرى يقودها الليكود، أو حكومة يمينية مركزية أوسع تضم كلا من الليكود وكاحول لافان.
ويرجع ذلك إلى أن تفويضات الأحزاب الدينية تكاد تكون دائما حاسمة لتشكيل الأغلبية اللازمة في البرلمان. فآخر مرة تشكّلت فيها حكومة يسار-وسط في إسرائيل- على وجه التحديد لأن هذه الأحزاب الدينية اليهودية كانت راغبة في الانضمام إليها. وقد تشكلت تلك الحكومة قبل عقدين من الزمن، خلال فترة رئاسة إيهود باراك قصيرة الأجل وبالتحديد في الفترة ما بين عامي 1999 و2000. وبعدها، لم توافق الأحزاب الدينية سوى على الانضمام إلى الائتلافات الحاكمة اليمينية. وبالتالي، فهما النوعان الوحيدان للحكومات الإسرائيلية التي تشكلت منذ ذلك الحين، وحتى عندما كان يسار الوسط واليمين متعادلين تقريبًا.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن هذا الميل الديني اليميني، غير المتناسب بشكل ملحوظ، في سبيله إلى تكرار نفسه في الانتخابات الحالية. فوفقًا للنتائج الدقيقة، من المتصور أن يتم جذب الأحزاب الدينية في إسرائيل للانضمام إلى نوع من حكومة “وحدة وطنية” مؤلفة من يمين الوسط، أو أن يتم استبعادها من مثل هذا التحالف المتناقض تمامًا. ومع ذلك، فإن أحد أهم الأمور التي تبدو شبه مؤكدة هو أن: هذه الأحزاب الدينية المعارضة التي لها ميل يميني ستستمر في منع تشكيل أي حكومة يسار-وسط في إسرائيل، حتى لو لم يكتسب اليمين أي مسار واضح للأغلبية المطلوبة في مقاعد الكنيست البالغ عددها 61 مقعدًا.
علاوة على ذلك، اتفق البيان الأخير الذي أصدره كل من بيني غانتز ويائير لابيد، زعماء حزب الوسط البارز، مع الجمهور من حيث رفضه وازدراءه لتلك الأحزاب الدينية “الفئوية”. لذلك فإن الشيء الوحيد الذي يبدو شبه مؤكد هو أن معارضة هذه الأحزاب الدينية ستستمر في منع تشكيل أي حكومة وسط بحتة. ولذلك، وردًا على سؤال جاء في استطلاع أجري في آب/أغسطس عن نوع التحالف المتوقع، توقّع 5 بالمئة فقط من عامة الإسرائيليين اليهود تشكيل حكومة يسار-وسط، برئاسة حزب “كاحول لافان” (حزب أزرق أبيض).
لطالما كانت الأحزاب السياسية الدينية اليهودية جزءًا من المشهد السياسي الإسرائيلي. وفي الواقع، تعود جذورها إلى مؤسسات الحركة الصهيونية السابقة للدولة . وعلى مر السنين، مثّلت تلك الأحزاب قطاعين دينيين مختلفين: القطاع الأرثوذكسي المتطرف (على سبيل المثال، حزب “أغودات إسرائيل”) والحزب الأرثوذكسي أو الديني القومي (على سبيل المثال، حزب “همزراحي”)، والذي عرف لاحقا بجزب المفدال الديني، أو الحزب الديني القومي. ولكن لم يمثل أي من هذين الحزبين أو كان من الممكن أن يمثل كلا القطاعين في الوقت نفسه، إذ انقسما بشدة حول العقيدة الصهيونية ومسألة دولة إسرائيل باعتبارها كيانًا يهوديًا. فقد كان القطاع الأرثوذكسي المتطرف معاديًا للصهيونية أو أقله غير صهيوني، وبالتالي كان ينظر إلى دولة إسرائيل ككيان سياسي بلا قيمة دينية يهودية. غير أن القطاع الأرثوذكسي القومي ملتزم بشدة بالفكرة الصهيونية ويرى إسرائيل ككيان مناط بأهمية دينية.
علاوة على ذلك، يرى القطاع الأرثوذكسي المتطرف أنّ قيام دولة إسرائيل يشكل تطورًا سلبيًا في التاريخ اليهودي. ففي نظام معتقداته، لكي يخلص، يجب على الشعب اليهودي الانتظار حتى يأتي المسيح وألا يتخذ خطوات فعالة لتغيير وضعه الوجودي. أمّا القطاع الديني القومي فيعتبر أن دولة إسرائيل هي بداية الخلاص الوطني والديني اليهودي، وبالتالي فهي مقدسة.
يعترف كلا القطاعين، الأرثوذكسي المتطرف والديني القومي، بسلطة القيادة الدينية – أي حاخامات كل منهما. ومع ذلك، في حين أن الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة ترى أنّ سلطتها تفوق بكثير سلطة الدولة ومؤسساتها في ميادين الحياة كافة، فإن الأحزاب الدينية القومية ترى أن مؤسسات الدولة هي السلطة المعنية بالشؤون السياسية، وأنّ الحاخامات هم السلطة العليا في المسائل الدينية. فالازدواجية الأخيرة تطرح إشكالاً كبيرًا عندما يكون للحالة جوانب سياسية ودينية في الوقت عينه. على سبيل المثال، من هو السلطة المعنية – السياسي أو الزعيم الديني – عند مناقشة الانسحاب من أجزاء من أرض إسرائيل الكبرى، لأن هذه الخطوة تتعارض مع وعد الله بإعطاء الأرض بكاملها لبني إسرائيل (أي اليهود).
أصهيونية أو غير صهيونية، لطالما كانت الأحزاب الدينية اليهودية الإسرائيلية صغيرة من حيث جاذبيتها الانتخابية . فهي تحصل على نفوذها السياسي القوي وغير المتكافئ، بالدرجة الأولى من الحاجة الراسخة في هيكل النظام البرلماني الإسرائيلي لبناء تحالفات متعددة الشركاء من أجل الحصول على أغلبية كبيرة بما يكفي في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي). وأضف إلى ذلك دافع جميع رؤساء الوزراء الإسرائيليين تقريبًا، بغض النظر عن انتمائهم الحزبي، لتأكيد التزامهم بالتاريخ والقيم اليهودية من خلال ضم أحزاب دينية إلى حكوماتهم القائمة على التحالفات.
في الماضي، كان بإمكان الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة والأحزاب الدينية الوطنية أن تنضم بسهولة إلى كل تحالف، سواء أكان ذلك بقيادة حزب العمل أو الليكود (الحزبان المهيمنان سابقًا في إسرائيل). فقد كانت الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة مهتمة بشكل أساسي بتأمين ميزانيات ضخمة لمجتمعاتها، التي لم تعتبر نفسها مشاركة في الخطاب السياسي العام الإسرائيلي. وعلى وجه الخصوص، لم يهتم أي من مجتمعات أو زعماء الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة بالمسائل الأمنية والعلاقات الخارجية التي تشكّل نقاط محورية في السياسة الإسرائيلية. أمّا الأحزاب الدينية القومية فكانت من جهتها أكثر انخراطًا في هذا الخطاب، غير أنّ وجهات نظرها المعتدلة حول الأمن والاقتصاد والقضايا الأخرى مكّنتها في الماضي من التكاتف مع الجهات الفاعلة السياسية غير الدينية من اليسار واليمين.
ومع ذلك، تغيرت الأمور بشكل جذري في السنوات الأخيرة، حيث تحولت سياسة كل من القطاعات العامة والأحزاب التي تمثل كل من هذه القطاعات – الحزبين الأرثوذكسيين المتطرفين حزب “يهودات هتوراه” (التوراة اليهودية الموحدة) وحزب “شاس”، والحزب الديني القومي “البيت اليهودي”- إلى اليمين. وقد تم تسييس القطاع الأرثوذكسي المتطرف بعمق، حتى أن البعض يقول أنه “تصهين”. فكما هو موضح أدناه، منذ منتصف التسعينيات واليوم أكثر من أي وقت مضى، على المستوى الشعبي، يُعرّف أعضاء هذا القطاع أنفسهم بأعداد هائلة على أنهم يمينيون.
هذا وينتسب القطاع الديني القومي بشكل واسع إلى اليمين السياسي ولكن مع استثناءات قليلة. فإن هذا الأخير يتعاطف بشدة مع مشروع الاستيطان في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وكذلك مع مجتمع المستوطنين. وأخيرًا وليس آخرًا، لقد مر القطاع الديني القومي بمرحلة انتقالية إدراكية: فهو لم يعد يعتبر نفسه جهة سياسية متزمتة، بل رأس الحربة الإيديولوجية داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي. فقادة هذا القطاع يستخدمون تعبيرًا مجازيًا شائعًا: “إننا لم نعد مجرد ركاب على متن قطار الأمة فنحن نشغل بالفعل مقعد السائق.”
إنّ هذه الهوية السياسية الواضحة تجعل الأحزاب السياسية الدينية من المشاركين الحاسمين في جميع التحالفات اليمينية وتزيد من مركزها التفاوضي مع قادة “الليكود”. ومن ناحية أخرى، على خلاف ما كان يجري في الماضي، فإن هذه الهوية تقلل من المجال السياسي لمناورة قادتها، إذ يكاد يتعذر عليهم التصرف في الاتجاه المعاكس لإرادة الناخبين السياسية، وبالتالي يعتبرون مشاركين واقعيين في تحالف الوسط أو اليسار الوسط.
علاوة على ذلك، فإنّ الأمر يعمل في الاتجاهين. فعمومًا، لقد فضّل نتنياهو وحزبه اليميني “الليكود” إنشاء تحالف أضيق مع الأحزاب الدينية على تحالف أوسع إنما بدونها. وبدلاً من التشكيك في نفوذ الأحزاب الدينية، كما يفعل الكثير من تيار اليسار أو الوسط، يميل حزب الليكود والأحزاب اليمينية المنشقة إلى الاحتفاء بهم واستيعاب رغباتهم. وفي الجانب الآخر من المشهد السياسي، باتت الأحزاب الوسطية واليسارية في إسرائيل مناهضة للأديان بشكل متزايد.
في السياق الانتخابي الحالي، دعا الحزب اليميني الوسطي الصغير، الذي يتزعمه أفيغدور ليبرمان، “إسرائيل بيتنا”- وهو حزب متشدد وقومي يهودي ولكن علماني- وتشير الاستطلاعات الأخيرة إلى أن الحزب قد يضاعف من مقاعده إلى 10 مقاعد، وان يلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل الائتلاف – – دعا إلى وضع حد لإعفاءات المتدينين اليهود من الخدمة العسكرية الإجبارية، إنما كل ذلك باستثناء استبعاد أي تحالف مع المتشددين. هذا ولطالما كان يائير لابيد، رئيس الفصيل الكبير “يش عتيد” (هناك مستقبل) الذي ينتمي إلى حزب الوسط “كاحول لافان”، المنافس الرئيسي، يميل إلى العلمانية في الحياة العامة الإسرائيلية.
وإذا كانت هذه الأحزاب المتنافسة على استعداد لأن تنظر في إقامة تحالف مع الأحزاب السياسية العربية في إسرائيل، التي من المتوقع أن تحصل على 10 – 13 مقعدًا في التصويت المقبل، فقد تقترب أكثر من تحقيق الأغلبية حتى من دون أي دعم من الأحزاب الدينية اليهودية. غير أنّ أحزاب المعارضة الوسطية هذه لا تزال غير راغبة في النظر في هذا الخيار. ومن الجدير بالذكر أن معظم الأحزاب العربية قد أبدت في الماضي عدم رغبتها في الانضمام إلى أي حكومة إسرائيلية. ومع ذلك، شكلت الأحزاب العربية جزءًا مهمًا من “الأغلبية المعيقة” ضد حزب الليكود، والتي مكّنت إسحق رابين من تولي رئاسة الوزراء في عام 1992. وقد عرض أحد كبار قادتهم اليوم، أيمن عوده، المساعدة في إعطاء تيار الوسط أغلبية جديدة بعد الانتخابات المقبلة،.
تتنبأ عملية الاقتراع الشكلية الأخيرة بأن الأحزاب الدينية ستحافظ على قوتها أو حتى ستزيدها. فإنها تتوقع أن يحصل الحزب الأشكنازي الأرثودوكسي المتطرف “يهودات هتوراه” على نحو ثمانية مقاعد، وأن يحصل حزب “شاس” السفرادي على ثمانية مقاعد أيضًا؛ بل وأكثر، ربما أحد عشر مقعدًا لحزب “اليمين” الجديد اليميني، وهو اسم على مسمى، ويرث عددًا كبيرًا من الناخبين “المتدينين القوميين” المتشددين الذين كانوا يصوتون سابقًا لحزب “البيت اليهودي”، بالإضافة إلى آخرين. فإن عملية الاقتراع الشكلية هذه قد تقلل من شأن الناخبين المتدينين، الذين قد يكونون أكثر حماسًا للتصويت مرتين في ستة أشهر، والمعروفين أيضًا بالعزوف عن التصويت أو حتى تضليل منظمي الاقتراع عن قصد.
لذلك، إذا كان الماضي مجرد تمهيد، فقد نرى الأحزاب الدينية اليهودية في إسرائيل تمنح مرة أخرى اليمين أفضلية حاسمة لدى تشكيل التحالف. فمن المؤكد أن السياسة الإسرائيلية نالت نصيبها من المفاجآت في الآونة الأخيرة، هذا وتضيف مشاكل نتنياهو القانونية إلى هذه التكهنات طبقة جديدة من الشكوك. كما لا يمكن استبعاد وجود تحالف أوسع مؤلف من شراكات غريبة، ربما بدون بعض الأحزاب الدينية. ومع ذلك، فإن تحالف يساري-وسطي ضيق يبدو مستحيلًا تقريبًا – وحتى لو كان فقط بسبب الدور الخاص الذي تلعبه هذه الأحزاب الدينية الصغيرة في الدولة اليهودية التي نصبت نفسها بنفسها.
www.washingtoninstitute.org
عن موقع : فاس نيوز ميديا