محسن الأكرمين.
منذ زمن غير بعيد لم تطأ رجلايا دروب مسالك “باب الجديد” بمكناس، لم أتجول بفضولي المعرفي بين مفروشات “جوطية الكتب”. منذ أن تخلصت من ساعة معصمي اليدوية والتي كانت تنظم وقتي باتزان لم أنل من حريتي في مدينتي إلا ذلك القسط الذري غير المرئي بتشتت السراب. اليوم رائحة الكتب الصفراء في لون الورق لا في محمولاتها الثقافية أثارت شهيتي القرائية للبحث عن كتاب من زمن ألف ليلة وليلة.
في زاوية انغلاق الرؤية الكلية يجلس “فراش” الكتب “الجوطية” بالجملة والتقسيط، وهو غير عابئ بما أفعله من تقليب في كتبه المرمية أرضا وتفتيش ممل في محتوياتها المعرفية بلا رفق ولا حنان. كان يحمل سيجارة رخيصة بلا مصفاة، حتى أن كل كتبه تعفنت بالدخان الأسود الذي ينفثه بلا توقف، و أصبحت تحمل حتى نوعية علبة سيجارته السوداء.
حين عينت اختياري بكتاب من بين ركام ” جوطية المعرفة بمكناس ” سألت عن ثمنه وقيمته المادية، صاحبنا “الكتبي الفراش” لم يعر اهتماما بالغا لسؤالي، فما دمت قد حملت كتابا واحدا يتيما، لكن صوته أتى إلى مسامعي كتاب بدرهمينّ، وعشرة بعشرة دراهم ، “تخير واعزل، وفوق العشرين عند خمسة كتب فابور”.
تألمت قيمة الكتاب من جراء بخس مورد المعرفة الآتي من صفحات كتب “الفابور المعرفي”، تألمت الماضي المنفك بجودتها وصالوناتها الثقافية ومجالسها الأدبية. هي حسرة أصابتني من حاضر الثورة المعلوماتية التي أصبح العالم كله في شاشة هاتف صغير. تساءلت، كيف باتت المعرفة والثقافة ثمنها بخس في سوق “الفراشة و الفابور” بجوطية باب الجديد؟ كيف تقاعس الطلب على شراء الكتب مثل بائعها “الفراش” الخارج عن نقط تحول زمن الحداثة والتجديد؟.
اشتريت كتابا فريدا وأديت ثمنه بزيادة الرفق بالثقافة والمثقفين بمدينة مكناس، حين نظر إلي “البائع الفراش” بمتسع دوائر دخان سيجارته المنتشر بتلويث مكان وزمن الثقافة، علمت من عينيه أنهما تذكراني شبابا في المداومة على مكتبته القديمة غير المرتبة، نظر إلي وأنا ألوذ بترك “جوطية المعرفة بمكناس غير المهيكلة” وهو يعلم أن الرأس قد اشتعل شيبا ويزيد ألما من مدينة تحمل ثقل أسفار الثقافة كرها، علمت منه أخيرا أسفه ولعنته على زمن التحولات السريعة المفزعة، ومن الماضي الذي ما انفك يمضي بقوة كتب قلم الرصاص والممحاة.
حين تصفحت الكتاب رويا وجدت بداخله حملا ثقيلا مثل كنز سندباد، كان عبارة عن رسالة ورقية من زمن الكتابة بحبر المداد المائي، وجدتها مدفونة في غلافه السميك باسم علوي ظاهر على الرسالة “زينة”، وكأن صاحبتها كانت تحمل زينة الخوف من التعبير الفاضح عن مشاعرها العلنية، وجدتها وهي لازالت تحمل لونها الأبيض البراق، لازالت مفعمة بحيوية الكلمة وعبق نسيم الحبر. حقيقة أضحت الرسالة أكثر شغفا لي من مورد معرفة الكتاب، رسالة كانت تبحث أن تكسر مثلي جمود حياتها الروتيني بدون ساعة معصم لتدقيق الزمان ومكان التواجد، كانت تريد القفز مثل جني علي بابا من فانوسه السحري. لم أنل منها قراءة بالسرعة وأنا بسيارة عودتي، لكن فكري انشغل بسرها وخواتم مخارجها.
حين وضعت تلك الرسالة أمامي دون افتضاض لعوالم كلمات وجمل مخارج مشاعرها الداخلية، فكرت في البوح إليها بالصدق قبل فتح معالمها، قررت أن أحكي لها عن زمن الكلمة الصادقة وعن الحب ونزق الشباب، قررت ألا أحاكم ما تحتويه من مشاعر وعواطف، ولا في لزوميات الصمت بلا بوح بالعشق غير الممنوع.
لذة اكتشاف ما تحتويه الرسالة جعلت مني أدخل في خلوة نفسانية طوعية، جعلت مني أستجمع كل قوايا العاطفية و الشعورية لأجل عيش لحظة الكتابة ونسج خيوط التعبير التواصلي ولو في بعده الزماني والمكاني. لم تكن بداية الرسالة إلا تفاؤلا بينا يحمل بسمة ورعشة قلب محب للحرية و الانعتاق من الألم، لم تكن بدايتها إلا ذلك القدر الحتمي الذي “يجمعنا بأناس وكأننا نعرفهم حق المعرفة”. حين فتحت الرسالة، كان فصل بداية اللقاء الأول من خلال عمق الرؤية، من تلك” الأحاسيس المشتركة …هي رسالات سريعة تبادلتها العيون في صمت لينتهي اللقاء…”. من كبح البوح، أصبحت الرسالة تسير بالسير الحثيث نحو الاعتراف حتى وإن علا الإكراه الاجتماعي ولواحق الحياة الممتدة بالمشاكل، بدت كلمات الرسالة تثور على المألوف”ليصبح ذكر الاسم، أو لمح الصورة يشعرها بالدفء والسعادة”.
توقفت بالتمام عند صفحة الرسالة الأولى بالتأمل في المواقف غير المعتدلة، فلم أرغب في سرعة قلب الصفحة الثانية قراءة. فكرت وقررت في استحضار أدوات مرسمي الخاملة لأجل رسم بيًنة تلك العيون الوقادة من خلال الوصف والملمح، رفعت ريشتي لأجل إحياء حياة تلك العيون الوافدة من حروف رسالة من زمن الحرف النظيف والخوف. حين انتهيت منها بدون ألوان وجدت أن تلك العيون تحمل ألما دفينا، وحزنا غير مستقيم، وجدتها في رسمي تسيل منها دمعات عالقة على خدها الأيمن، وجدت لوحتي تنادني ليس باسمي بل بصفتي العائلية.
للصدف حكايات، ومنها كانت شهرزاد تتقن حكي نوم شهريار وهي تريحه عاطفيا ونفسيا. للحكايات بداية لا نعلم مطالعها ولا نهاياتها الحتمية. حين طويت الصفحة وجدت زينة تعترف أن ” لقاءات الأرواح يتم دون حواجز… لقاءات جعلتها تبحث عن نفسها التي أضاعتها في حياة مليئة بالصعاب و الهموم”. إنه مبدأ التوازن والتواصل الذاتي. إنها المواءمة الصريحة في بعديها الزماني والمكاني، حين تتحقق عند النظر في العيون الدامعة بهمً مشكلات حياة آتية. إنها الرسالة التي عمرت ثلاث أرباع عمر زينة وهي في غلاف كتاب مدفونة دون التعبير عن آهاتها الداخلية ولا الثورة على مسالك حياة.
اليوم قررت عدم النوم أمام تلك العيون التي أحبت بخوف البعد، تلك العيون التي تعيش ألم حزن دفين، تلك العيون التي تخاف من الحاضر وحتى من المستقبل الخفي، تلك العيون التي لا تمتطي سفينة الإفصاح والهروب المرئي. في اللوحة قررت لأول مرة استعمال الألوان الحياتية، قررت أن أزين الصورة وأرش عليها عطر نكه الحياة، في الصباح وجدت أن اللوحة قد أتممتها وهي تحمل التفتح الندي.
عن موقع : فاس نيوز ميديا