الماكي : منظومة الحماية الاجتماعية بالمغرب تتميزُ بالتعدد والتجزء والهشاشة أحيانا

كلمة السيد الحبيب المالكي

رئيس مجلس النواب

في افتتاح أشغال يوم دراسي حول :

“منـظومة الحمايــة الاجتماعية بالمغرب”

مجلس النواب، 25 دجنبر 2019

بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

السيدة الوزيرة

السيد الوزير

السيدة الرئيسة

السيدات والسادة مسؤولي وممثلي المؤسسات العمومية

أَوَدُّ، في البداية، أن أُثَمِّنَ مُبادرة لجنة القطاعات الاجتماعية بتنظيم هذا اليوم الدراسي، وأُثْنِيَ على جهود رئيستها ومكتبها وكافة أعضائِهَا من أجل المساهمة في تنشيط العمل البرلماني على غِرارِ باقي اللجان القطاعية الدائمة بالمجلس، والتي أَعْتَبِرُها مُختبراتٍ حقيقيةً للعمل البرلماني، وإطاراً لإنضاج النقاش المؤسساتي، لاينبغي إغفالُه.

كما يُسْعِدني أن أشارككم افتتاح أشغال هذا اليوم الدّراسي الذي يكتسي موضوعه أهمية كبرى في السياق الوطني الراهن وبالنسبة للمستقبل، ذلكم أن التغطية الاجتماعية على اختلاف أنظمتها وأشكالها والشرائح الاجتماعية التي تستهدفها، تظل واحدةً من الرهانات الوطنية الكبرى المشتركة، بين شرائح المجتمع ومؤسساته.

وَمِمّا لاشك فيه، أن هذا اليوم الدراسي سيكون مَصْدَرَ إغناءٍ لأشغالكم، ويُسْعِفُ في صياغةِ اقتراحاتٍ في شأنِ توسيعِ وتجويدِ التغطية الاجتماعية في بلادنا وضمان استدامتها.

وإن مما يزيد من أهمية الندوة، كونها تُنَظَّمُ بعد أيامٍ قليلة من تعيين جلالة الملك محمد السادس للجنة المكلفة بإعدادِ تَصَوُّرٍ بشأن النموذج التنموي الجديد الذي كان جلالته قد دعا إلى اعتماده، ذلكم أن ضمان الحقوق الاجتماعية وتَمَتُّعَ المواطنات والمواطنين بها، يَقَعُ في صُلْبِ ما يتوَخَّاهُ هذا النموذج، كما أكد ذلك جلالته الذي اعتبر أن ” حجم الخصاص الاجتماعي، وسُبُلَ تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، من أهم الأسباب التي دفعتنا للدعوة إلى تجديد النموذج التنموي الوطني”.

الزميلات والزملاء

السيدات والسادة

يُعَلِّمُنا التاريخ، أن الأمم التي استثمرت مبكراً في الحماية الاجتماعية، وَوَفَّرَتْ تغطيةً اجتماعيةً لِقِوَى الإنتاج وللشرائح الاجتماعية الهشة، هي التي نجحت في تحقيق التقدم والتطور الذي مَكَّنها اليوم، من تحقيق الرخاء الذي تَتَقَاسَمُه مختلف الأجيال والفئات الاجتماعية. كما أن هذه البلدان هي التي ضَمِنَت استدامةَ نماذجَها الإنمائية وحققت مناعةً ديموقراطيةً ونضجاً مؤسساتيا يُسندُه انخراطٌ شعبيٌ، إراديٌ، واثقٌ من مؤسساته.

وفي بلادنا، ينبغي أن نَعْتَزَّ بما نتوفر عليه من ترسانة قانونية هامة للحماية الاجتماعية، لاشك أنها تحتاج إلى التحسين والتطوير، ولكنها تحتاج بالأساس إلى الآليات التي تجعلُها أكثرَ انسجاما، وإلى التجويد من حيث المحتوى والخدمة.

وإذا كانت التشريعات تبعث، بالتأكيد، على الطمأنينة وتُعطي الأمل للناس، فإنه ينبغي أن يلمسَ المواطنات والمواطنون أثرَ هذه التشريعات والسياسات التي تؤطرها، وذلك من خلال خدمات تَرْقَى إلى الطموح وإلى مستوى ما يَكْفَلُه الدستور من حقوق، حتى لا تتحول الانتظارات والطموحات المشروعة إلى إحباط ويأس، وحتى لا يتحول هذا الإحباطُ إلى معضلةٍ بين الدولة والمجتمع.

وتتميزُ منظومةُ الحماية الاجتماعية بالمغرب، بالتعدد، والتجزء، والهشاشة أحيانا والضُّعف أحيانا أخرى، كما أنها لا تشمل مجموع فئات المجتمع. ويُؤَثِّرُ هذا التعدد والتجزء على الوَقْعِ الاجتماعي، ويؤدي إلى تشتت الموارد، مما يجعل أثرَ الإنفاق العمومي على الحماية الاجتماعية غيرَ ملموسٍ على النَّحْوِ المطلوب، ولا يُحْدِثُ الأَثرَ الـمُتَوَخَّى على الخدمات والمداخيل. وقد نَبَّهَ إلى ذلك جلالة الملك حينما قال إنه “ليس من المنطق أن نجد أكثر من مائة برنامج للدعم والحماية الاجتماعية من مختلف الأحجام، وتُرْصَدُ لها عشرات المليارات من الدراهم مشتتة بين العديد من القطاعات الوزارية والمتدخلين العموميين”.

وإن مِمَّا يجعلُ منظومَتَنا دون مستوى النجاعة والأثر المتوخى، حاجتُها إلى التناسق، والالتقائية، وتوحيدِ السياسات وتعبئة الموارد على هذا الأساس، وضرورةُ جعلِها أداةً لتقليصِ الفوارق الاجتماعية، لا وسيلةً لتكريسها وإعادة إنتاجها، وَأَحَدَ أدوات الوقاية من الهشاشة والفقر، لا آليةً لتَوْرِيثِه.

السيدات والسادة

في طريقها إلى إرساء نماذج الحماية الاجتماعية الضامنة للرخاء المشترك الذي تنعم به اليوم، قطعت البلدان التي تتمتع بمثل هذه الأنظمة مساراتٍ طويلةٍ، كان التراكمُ منهجاً لا محيدَ عنه وذلك عبر مراكمة السياسات والبرامج، وبالأساس عبرَ الادِّخَار وتوظيفِ مُدَّخَرَاتِ الضمان الاجتماعي في الاستثمار العمومي المنتج. ولكن النماذج الأكثر نجاحاً واستدامةً ونجاعةً هي تلك التي ارتكزت في الحماية الاجتماعية على قِيَمِ ومبادئ ومواثيق حقوق الانسان، ونَأَتْ بهذه الأنظمة عن اعتبارات “التعاطف والكرم”، وأدرجتها ضمن المسؤولية العمومية للدولة في ضمان الحقوق الاجتماعية لمواطنيها، وضمن منظومة مؤسساتية متناسقة.

وقد أدرك المغرب الأهمية المركزية للعدالة الاجتماعية في ترسيخ الديموقراطية ودولة القانون، فَحَرِص على التنصيص عليها في الدستور حتى تكون هدفا مُلْزِماً للجميع، وأُفُقاً الْتِقَائِياً للسياسات العمومية، إدراكاً منه لضرورة إعطاء الديموقراطية مضمونها وبُعْدَها الاجتماعي، واستيعاباً للأجيال الجديدة لحقوق الإنسان.

وعليه، فإنه عوضَ اعتبار الانفاق على الحماية الاجتماعية “كُلْفَةً زائدة”، يَنْبَغي اعتباره فرصةً لإعادة إطلاق ديناميات جديدة في المجتمع، ونوعاً من إعادة توزيع الثروة، وآلية للتضامن الفئوي وبين الأجيال، واستثماراً اجتماعياً منتجاً ووسيلةً لتعزيز التماسك الاجتماعي والاستقرار.

وإذا كان من واجب الدولة كفالةُ إرساءِ وتعميمِ واستدامةِ منظومةِ الحماية الاجتماعية، فإن على المقاولات الخاصة مسؤوليةُ المساهمةِ في تقويتها وتمويلها، ذلكم أن المسؤولية الاجتماعية للمقاولات، هي اليوم معيارٌ أساسي للحكامة ومُؤَشّرٌ على النجاح، ومؤشر على المواطنة.

إن تعدد البرنامج الاجتماعي وآليات الحماية الاجتماعية في بلادنا، لاينبغي أن يُنسينا الخصاص الكمي والنوعي في منظومتنا. ويتمثل استدراكُ هذا العجز في الاهتمام بالشرائح التي تعاني أكثر من الهشاشة من قبيل ذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال والنساء والمسنين، وسكان البوادي والحرفيين والعاطلين والطلبة.

ويُستفادُ من النَّماذج والممارسات المقارنة، أن البلدان التي اختارت على نحوٍ إِرادِي وأسست منظومات بهذه الشمولية، نجحت أولا في ضمان استدامة أنظمةَ الحماية الاجتماعية، ونجحت ثانيا في جعلها منتجةً وذات مردودية، ونجحت، فضلا عن ذلك، في تعزيز التماسك الاجتماعي.

وفي سياقنا الوطني الراهن، سياق صياغة نموذج تنموي متجدّد، ينبغي أن نضع إصلاح المنظومة الوطنية للحماية الاجتماعية من تقاعد وتأمين واحتياط اجتماعي ودعم مباشر وتعويضات في ارتباط مع قضايا الشغل، من مواضيع وآفاق الإصلاحات التي ستندرج في إطار تنفيذ النموذج التنموي الجديد. وينبغي أن يكون التعميم، والتّجويدُ والاستدامة والمأسسة والالتقائية والتكامل من المبادئ التي يتأسس عليها الإصلاح.

وإنني مقتنع بأن نقاشاً من النوع الذي ستشهده ندوتُكم هاته، سيساهم في إنضاج التوافق والاقتراحات المفيدة على طريق هذا الإصلاح، ذلكم أن مجلس النواب، كما كان دائما، ينبغي أن يظل إحدى الحاضنات المؤسساتية بشأن قضايا الإصلاح الكبرى.

وإذ نحقق ذلك، فإننا سنوفِّرُ عاملاً آخرَ في تحقيق العدالة الاجتماعية وسَنُيَسِّرُ استدامةَ نَمُوذَجِنا الوطني في الإصلاح وفي الاستقرار وبناءِ مجتمعٍ متماسكٍ ومتكافلٍ ومتضامنٍ، وسنعزِّزُ الشُّعور بالانتماء إلى المجموعة الوطنية، وبالتالي سنعزِّزُ الثقة في المؤسسات، وسَنُيَسِّرُ المشاركة الإرادية في الشأن العام، وَنُعْطي للإصلاحات التي توافَقْنَا بشأن محتواها وغاياتها، متمثلةً في خدمة بلادنا وشعبنا، محتوىً مَلْمُوساً. إنه الرهان المشترك الذي ينبغي التعبئة من أجله.

شكرا على إصغائكم وأتمنى لأشغالكم كامل النجاح.    

   عن موقع : فاس نيوز ميديا