محسن الأكرمين.
ممكن أن تكون الرؤى القديمة تشدنا وتسيطر على مسام عقول التفكير، يمكن أن يشدنا الحنين إلى أحداث تاريخ ماض ونبتسم للحظات صغر التفكير والذات، يمكن أن نمجد الماضي بتمام حسناته ومشكلاته العويصة، و يمكن أن نبخس كذلك حاضرنا بشفط كل تنوعاته الجمالية و التحسينية.
حين نبقي على وضعيات تدوير التفكير بحدود الذات والانغلاق المنزوي، حين نعمل على تصنيع بخار ضغط متكاثف على مواضع سلبية لتبخيرالذات علوا، فإننا نمكن رطوبة كهوف التجميد أن تعاكس سنة التغيير وتحدث توليفات متطورة للتيار السالب. إنه حتما سوء أداء وظيفة الارتداد النفسي والاجتماعي نحو توسيع خانات التقوقع حول منتصف الذات، إنها تكلفة العوز من تعرية الواقع و نقد عطب الانطلاقة الأولى، وتحييد تلك الفواصل غير المتوقعة ولا المحسوبة بتصميم مخارج نتائجها المفزعة.
إنها حقا ثقافة الولع الزائد بالغيبيات والتخوفات الآتية من المستقبل المجهول، وماذا يخفي؟. إنها عدم قدرة الثقافة العالمة على التخطيط السليم لمنصات سلم التوافق الحضاري وتنميط قيم التغيير. إنه جهل الاستفادة من أثر ربح التفكير الايجابي بقيمة الذكاء الاجتماعي والإبداع التطويري لمسالك تملك عقد اجتماعي تمثل فيه مؤسسات الدولة دور بطاقة الحصانة، و كذلك تلعب بذلة حكم الوسط في تثبيت مؤسسات الحق والعدل وسد بوابة صندوق التحكم.
حقيقة لا نمتلك الآن ثقافة قادرة على تحصين العقد الاجتماعي المؤسساتي، لا نمتلك حلولا إجرائية وسهلة بالبساطة تمكننا من سد الفجوات المفزعة الكامنة “الساكنة” والمستحدثة. حقيقة أننا لم نجرب الثورة على الذات منذ البداية الانطلاقة الأولى، لم نستلهم بينات على تأثيث قدرات ذاتية للتخلص من استجابات الخنوع و التواكل، و كذا الطموح على هيكلة المؤسسات الاجتماعية غيرالعادلة. حقيقة أن الثقافة المتداولة لازالت تغترف من الماضي سر الكتابة بقلم الرصاص وممحاة رأس التحكم، وتوليفة بزّازة/ رضاعة “الريع حلال” والإكراميات الممتدة.
الآن، وفي ظل التغيرات الاجتماعية المتفاقمة بالسرعة، وفي ظل طفرة رزمة التحولات المعلوماتية المتلاحقة، بتنا جميعا نعيش ضمن شاشة هاتف أصغر، وبات العالم بين أيدي الجميع بالمكاشفة العارية. الآن، تبقى العادات والتقاليد تحمل شوائب إضافات غير سليمة من ماضي الخرافة ولم نقدر البتة على تجديد نظام القيم بسلم التطوير والتغيير وصولا إلى بناء معادلة صائبة بـ”رمزية الفيزياء” تجمع بين الأصالة المميزة والمعاصرة الكونية. لم نستطع حتى تحرير الذات من تسلط حكم صور سلطة الماضي و التوجه نحو بناء فهم جديد للوعي الحديث و ابتكار ثقافة نظيفة. لم نقدر على محاربة شداد حراس قيم الاتكال والخنوع و مريدي ” إكراميات الريع”. لم نقدر على ربح حرب هادئة وبدون أسلحة سجال”البوليميك” لإنجاز ثورة مدوية على متخندقات الذات و الآخر المتشنج بالتنطع، وبعدها يمكن التأسيس لبداية تغيير الذوات ثم الالتحاق بتحقيق واقع التمكين والممكن…
نقد الذات وهجاء جرير والفرزدق.
حتى لا نمارس بذخ نقد “الهلاك” ونكون مثل جرير والفرزدق بشعر الهجاء والتنابز الفاضح، لا بد من تملك عمليات النقد تجاه الذات وتصويبها بسهام تجديد الرؤى الموضوعاتية نحو الآخر بالجمع السالم. ففي ظل سنوات التوافق والاحتكام للعقل الجمعي لم تبق لدينا أغلبية “زعيم” التفرد، ولا معارضة ” كاريزما” الشراسة، بل بات الحديث بلغة سياسية موحدة و واحدة من اليمين إلى اليسار، ولم نستطع من خلالها الكشف عن مستند الجبهة “المعارضة” ولا “المساندة” للعقد الإجتماعي المؤسساتي. اليوم يجب أن نعترف أن تطور المجتمع أصبحت سكته متصلة بسرعة “تجيفيTGV”، وبعلامات واقفة في المنعرجات “خطر متنوع”. هي إذا التحولات المتراكمة والتي ستتحرك مثل كرة الثلج القادمة من الجبل بحدة سرعة المنحدر وبمتسع التفاقم التراكمي.
من اليوم لا بد أن نستوف آليات التفكير الإيجابي، واعتماد فقه مقاصد المواطنة في بناء تحولات نوعية و تراكمات موضوعية بغية التأسيس لحلم المستقبل. من اليوم يجب أن نبحث عن كل مخفضات سرعة التغيير” سياسية النفعية” والانجراف نحو الأزمات المتعددة. نبحث عن سدود قضائية لكل التغيرات السريعة غير المراقبة بـ “ردار Radar ” القيم الاجتماعية ودولة الحق ومؤسسات القانون. من اليوم لا بد من مواجهة كمون / سكونية التغيير”التقية” والوثوق في الأداء الجماعي التطويري لإقلاع المجتمع من مدرج الإنصاف والعدل، لا بد من مواجهة عمليات التيئيس بتحقيق الكرامة واحترام إنسانية الإنسان، لا بد من مناصرة الثقة والصدق في المستقبل وشق مسارات التغيير المتمركزة على العقد الاجتماعي المشترك ودولة العدالة الفاضلة.
الثورة على الإحباط والتيئيس هي من بوابات استشراف المستقبل، و في بناء تركيبات الفعل “الرافع لسلطة الفاعل المدني والسياسي” ، يجب أن يمتلك الشعب آليات تصويب الإصلاح بالتسريع المريح وأكياس الأمان. يجب أن تكون الرافعات الأساس ركيزة تضع المراقبة والمتابعة في يد المجتمع المدني و الفاعل السياسي اللا- انتهازي.
الثورة على الإقصاء والتهميش يجب أن يكون جوهريا وبلا عودة إلى متاهات التحكم وإحداث إكراميات “الريع حلال”، يجب نسف كل الفوارق الاجتماعية العمودية والتي تشكل هرم”خوفو” الآيل للسقوط، يجب أن تكون طريق التطور حلما جماعيا لا نخبويا.
صدق التغيير، ينبعث من بناء آليات تفكير للذوات بالايجابية، صدق البناء يكون بقبول الاختلاف والقفز عن سياسة الإقصاء. صدق الربح، حين تتم ضبط عقارب تحرك الذوات وفق التوافق و مد يد الصداقة للجميع. صدق القول، لن يتم إلا عبر العناية بتتميم ممرات التفكير الحر وتحكيم حكامة المراقبة والمساءلة والمحاسبة، وكذا من خلال العناية بالذات والاعتراف بها كفاعل محرك للتغيير.
إنها أصعب المسارات التي تتناول الانتقال من أنانية الذات المنزوية إلى نقيضها المنفتح على القيم والمعتقدات والثوابت اللازمة للعيش المشترك، إنها فسحة توطين الذاكرة المشتركة الجماعية بالاعتراف المتبادل حتى بين الهويات الفر دانية. فحين تنكسر الذوات و يسود الإحباط تنمو المواقف السلبية و تظهر الآثار الجانبية وتصبح الهزيمة واقعة تسيطر على الذات ونحو الآخر بالتوسع . لنختم بأننا سواء بالإفراد والجمع في حاجة ماسة إلى خلوة مع الذات بالمنظور الجماعي، خلوة غير صوفية تفتح الحوار مع “أنا” و “الآخر” بمتغير التموقع، وتساءل العقد الاجتماعي المؤسساتي بمتسع العدل والقانون والكرامة.
عن موقع : فاس نيوز ميديا