المغرب حصن الوطن الكبير :حق أجلى من أن يخفى


M. Sadoqi
لعله من نافلة القول أن نشير إلى أن الصراع العربي الأوربي ليس وليد العصر الحديث، بل له جذور متوغلة في الماضي، ولقد كان هذا الصراع يحمل البداية طابعاً اقتصادياً تحدوه الرغبة في السيطرة على ما يسمى بطريق الحرير. ثم اشتد بعد ظهور الاسلام وأصبح صراعاً إسلامياً مسيحياً، تولدت عنه عدة حروب بين المسلمين والغرب، أبرزها حملة الملوك بين صلاح الدين الأيوبي و الملك ريتشارد الأول (المعروف باسم ريتشارد قلب الأسد) سنة 1189 و هي التي انتهت بانتصار المسلمين و استرجاع القدس.
ولا غرو أن تعد تركيا وكذا المغرب العربي، وبخاصة المغرب واجهتي هذا الصراع، فتركيا تحد أوربا من الشرق والمغرب من الجنوب الغربي، ثم إن الشعبين التركي والمغربي شكلا سداً منيعاً في وجه الأطماع الأوربية المادية و اللامادية وبالخصوص القضاء على الإسلام لأنه يشكل اللحمة التي تحافظ على انسجام الأمة العربية والإسلامية.
فإذا تأملنا من جهة أولى تاريخ البلاد التركية، نجد أن الشعب التركي المسلم هاجر من موطنه الأصلي اوراسيا )تركيا وقرغيزيا وتركستان وتركمانستان وكازاخستان( هرباً من إضطهاد المغول وانتشر بأوروبا وتوسع على حساب البزنطيين كما استولى على قسطنطينيه عاصمة البيزنطيين آنذاك ليكون في الواجهه المباشرة مع أوروبا.
ونحن لا ننكر في هذا المقام أن الشعب التركي ضحى كثيرا ووقف حجابا حائلا في وجه الأوروبيين وحمى العالم العربي من أطماعه لكن في مقابل ذلك لم يتورع عن المطالبة بتعويضات من الحكام العرب. بل إنه بعد تأسيس الدولة العثمانية، سعى إلى بسط سيطرته على الأقطار العربية ونصّب السلطان العثماني نفسه كخليفة وأمير للمؤمنين بدعوى أنه الوحيد المسؤول على الذود عن كرامة المسلمين وحماية ثوابتهم الدينية. وفي عام 1510م غزا السلطان ياووز سليمان دولة الممالك بمصر وحكم المحافظات الأساسية في العالم العربي مثل سوريا والعراق ومصر و شبه الجزيرة العربية، وفي زمن حكم عبد الحميد الثاني للدولة العثمانية ضُغِط عليه من طرف الصهاينة والأوروبيين للسماح بإستيطان الإسرائليين في فلسطين ولكن لم يستجب لهم لاعتبار أنه خليفة المسلمين وحامي القدس الشريف. ومن عباراته المشهورة: “لقد فتح القدس الشريف لأول مرة الخليفة عمر، لن أتحمل وصمة بيع هذه المنطقة لليهود وجريمة خيانة الأمانة التي أودعت عندي لحمايتها من قبل المسلمين”.
والى يومنا هذا وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية مازال الشعب التركي يعتبر نفسه وريثا لهده المكانة الرمزية التي تبوأها بالأمس؛ حيث يعتقد بأن من مسؤوليته التدخل في شؤون العرب، وهذا ما تجلوه خطابات الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان ومواقفه تجاه قضايا الأمة العربية، ولعل أبرز هذه المواقف تدخله في الصراع السوري والليبي وكذلك مساندته لقطر في صراعها مع إخوانها الخليجيين.
وإذا أمعنا النظر من وجهة ثانية في تاريخ المغرب، ألفينا كثيرا من القواسم المشتركة التي تشير إلى أن للمغرب أيضا دورا ديناميا ومقاما مفصليا؛ ويكفي أن نذكر أنه بعد انتشار الإسلام بالمغرب العربي أولا على يد عقبة بن نافع وثانيا على يد موسي بن نصير. إذا الشعب المغربي يعد نفسه جزأ لا يتجزأ من العالم العربي ومن ثم ضحى كثيرا لنصرة الإسلام و حماية العالم العربي من غزوات وأطماع الأوروبيين بدءا من طارق بن زياد الذي فتح الأندلس وسلمها ليحكمها العرب من دمشق )عاصمة الأمويين آنذاك(.
ومما لا ينبغي التغاضي عنه أن يوسف بن تاشفين مؤسس المرابطيين حتي أتي لإنقاذ العرب بالأندلس عندما استنجدوا به من زحف الممالك المسيحية القشثاليةِ، فدخل في معركة الزلاقة المشهورة، وانتصر على الملك ألفونسو السادس ملك قشتالة وليون، وغير خاف أنه قد توفي عدد كبير من المغاربة في هذه المعركة.
ولم يختلف الوضع في عهد العلويين، فرغم الضغوطات الأوروبية لتخلي المغرب عن عروبته أو إسلامه، قاوم وتصدى الشعب المغربي بحزم وثبات تحت القيادة الحكيمة للملوك العلويين لكل المؤمرات الخبيثة وخرج منها بإذن الله سليما رغم أنه اضطر في بعض الأحيان إلى أن يؤدي الثمن غاليا.
ومرة أخرى في عهد الاستعمار الفرنسي حاول المستعمر أن يفرق بين الأمازيغ والعرب بإصدار الظهير البربري، ولكن المغاربة تحت قيادة أب المقاومة الروحي محمد الخامس طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته واجهوا المستعمر لإسقاط هذا المشروع الذي سعى خائبا إلى دس التفرقة بين أبناء الوطن الواحد.
وكذلك فإن الملك الحسن الثاني رحمه الله سار علي نهج والده، حيث ناصر إخوته العرب ووقف بجانبهم في كل أزماتهم وبالخصوص قضية القدس الشريف بل شارك الجيش المغربي الباسل في حماية فلسطين ورد الكيد الصهيوني سنة 1967 وسنة 1973. وبعد ذلك أسس لجنة القدس وعين نفسه رئيسها الدائم كما دعم صندوق هذه اللجنة بملايين الدولارات دفاعا عن حقوق المسلمين والعرب في القدس الشريف.
وأكمل محمد السادس ملك المغرب حفظه الله ورعاه طريق أسلافه من الملوك العلويين في الذود عن رموز الأمة وكرامتها، ومساندة القضايا العربية والإسلامية، ومن أبرز مواقفه لقاؤه مع بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، بتاريخ 30 و31 مارس 2019 وإعلانهما عن حماية هوية القدس الشريف كعاصمة لكل الأديان، وبهذا الإعلان فوت المغرب الفرصة على الإسرائليين لاعتبارهم أن القدس هي العاصمة الأبدية لليهود. وحديثا رفض المساومة على القدس الشريف في إطار ما يعرف بصفقة القرن، بحيث رفض عرضاً مغرياً من طرف نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي تقضي بالاعتراف بقضية الصحراء المغربية مقابل التطبيع المباشر والانخراط بصفقة القرن، وبذلك يأبى المغرب منطق المساومة، وفي ذلك ما يثبت بجلاء إيمانه العميق بالقضية الفلسطينية.
وهكذا، فإن تصفحنا لكرونولوجيا هذه الحوادث، وتأملنا لما تحمله بين تضاعيفها من دلالات عميقة، يقودان الناظر المحايد إلى استثارة أسئلة جوهرية؛ إذ كيف يفسر موقف الشعب المغربي الذي ضحى كثيرا وبدون مقابل من أجل الحفاظ علي هويته وانتمائه إلى الأمة العربية والإسلامية؛.ففي عهد الأمويين ووفقا للروايات التاريخية فإن طارق بن زياد بعدما حرر الأندلس قُتل علي يد سليمان ابن عبد الملك أمير المؤمنين الأموي بدمشق، أو مات متشردا في أزقة دمشق بجانب الجامع الأموي، وكذلك نعت يوسف ابن تاشفين بأقبح الأسماء كراعي الإبل، وأخيرا فإن أطرافا عربية لم تساند المغرب في قضيته الوطنية، الصحراء المغربية.
من ضمن الأسئلة الجوهرية الواجب إثارتها أن المغرب ورغم تعاقب إمبراطوريات ودول قوية على حكم المغرب ويشهد التاريخ على قوتها وجبروتها فإنه لم يكن له أطماع توسعية شرقا على حساب إخوانه العرب والمسلمين بل كان همه الوحيد هو نشر الإسلام جنوبا في البلدان الإفريقية على خلاف تركيا.
و بهذا فإن المغرب قيادة و شعبا له أفضال في الذود عن كرامة البلاد العربية قاطبة و تاريخه يعكس مناعة المغاربة و بسالتهم و إقدامهم في سبيل تحصين إستراتيجي قوي عربيا. و بذلك يعزز مكانته كونه الحصن الكبير للعرب و المسلمين و لعل أبلغ ما وُصِف في هذا الصدد ما جسده خطاب المغفور له الحسن الثاني في خطابه بمناسبة عيد الشباب يوم 8 يوليوز 1989 م (…فمن جملة الأسباب التي جعلت المغرب باقيا وسيبقى هو, كما قلت لك شعبيي العزيز, أنه بحث عن الكيفية الهندسية و الروحية و الفلسفية كيف يبني وكره وعشه ويحيط نفسه بدرع من حديد, ويجعل ذلك الدرع الذي يحفظه مطاطا يسمح له بأن ينفتح علي الخارج, وأن يمد رأسه شمالا فيعانق أوروبا, وجنوبا فيعانق أفريقيا, وشرقا فيعانق أشقاءه العرب وغير العرب.
فالحقيقة هي أن بيتنا بيت صلب لمن حديد, وفي نفس الوقت جعله الله مطاطا ولا يسجننا ولا ينقص من حريتنا وإنفتاحنا….(