البعد السوسيولوجي في تمْغَرْبيتْ..
الدكتور: عبدالله شنفار
إذا تفحصنا كل حالة اجتماعية او اقتصادية او سياسية؛ على حدة، فإن التشابه الظاهري ليس دليلا على أن النظم التي ندرسها تنتمي لنموذج واحد؛ لسبب بسيط وهو أن عزل نظام معين عن السياق العام للحياة الاجتماعية الذي يؤدي وظائفه بداخلها سوف يؤدي بنا إلى مغالطة في فهم حقيقته، وذلك للبناء العام في المجتمع والاعتماد المتبادل بين مجموع النظم والظواهر الاجتماعية.
ولما كانت مستويات العلاقات الاجتماعية تشكل في مجموعها مجمل علاقات الإنسان ومجالات تفاعله، فمن خلال عملية التفاعل هذه داخل إطار الجماعة تبرز اهمية المستوى المرجعي الذي يظهر من خلال المعاني والقيم، في تحديد النظم السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والقانونية…؛ بحيث إذا تم هذا التحديد ضمن هذه المعطيات فإن ردود الفعل، على الأقل في جانبها المعارض ستكون أقل حدة، وذلك لكون أي برنامج عمل إلا وتتولد عنه ردود فعل تتمحور حول: موقف الاتجاه المؤيد، موقف الاتجاه المعارض وموقف آخر لا مبال.
هناك علاقة جدلية بين المعطيات السوسيولوجية والسياسية والاقتصادية والحضارية التي تتواجد فيها، والتي تستطيع أن تتعايش مع بيئتها، لذلك فإن البرامج والنماذج الجاهزة التي تتبناها الدول المتخلفة التي يأتي بها بعض الكسالى الذين ليس لهم قدرة على الخلق والإبداع؛ تشكل مفارقة كبرى مع بنياتها وخصوصياتها. فالمقاربة السوسيولوجية تفضي إلى نتيجة مفادها إبراز العديد من أوجه التناقض والمفارقة بين عناصر دخيلة وأخرى محلية. مما يعطينا سياسات وبرامج هجينة غير طبيعية.
نجد على سبيل المثال: سيارة معينة صممت داخليا على مزاج ولمزاج أشخاص مخصصة لهم بذاتهم. لو افترضنا “الراديو كاسيت” بهذه السيارة بمكبرات صوته من نوع “هاي فاي HIFI-HD” وعلى أساس نوع من الموسيقى الغربية مثلا “لجاك بريل” أو “كاث ستيفان” إلى غيره، في المقابل نجد الكاسيت القرآني أو الفلكلور الشعبي كأحواش مثلا وغيره…
وحتى مصمم السيارة لم يكن يتوقع شيء اسمه القدر، لكن نحن نلاحظ ملصقات داخل السيارة ك “بسم الله” و”السبحة” وقبل صعود السيارة يقال “توكلت على الله…” هذه كلها صور وغيرها تحيل إلى مفارقات تحمل في مغزاها مدى الصراع او التعايش بين حضارات مختلفة. حيث يطرح التساؤل هل قدرنا أن نؤمن بالقدر ونستسلم له، أم نتدخل فيه للتغير والفعل فيه والتأثير فيه وعليه.
صحيح أنه لا يمكن إغفال التواصل والتفاعل والتعاون بين الشعوب والأمم، ومع ذلك “فكلود ليفي شتراوس” لم يجانب الصواب حينما أكد في كتابه “الفكر المتوحش” أنه لا يمكن المفاضلة بين الشعوب بناء على ما وصلت إليه من قوة، سواء كانت اقتصادية، عسكرية، ثقافية (…)، بل لكل شعب خصوصيته الحضارية والثقافية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية التي تميزه. فالتدويل غير ممكن أو على الأقل ضعيف عندما تكون المؤسسات منسجمة فيما بينها وتذوب في علاقة المحطات ذات التأثير المتبادل.
فالجانب السوسيولوجي يبقى مصدرا للبرامج وللخيارات السياسية، الاقتصادية، القانونية والتنظيمية والاجتماعية.، إنها دولة محيطها يقول شارل ديباخ: “الإدارة لا تشكل كلا أو جوهرا مستقلا عن محيطها، ولكن تجد في كل نسق سياسي توازنا من نوع خاص مع القوى الاقتصادية والاجتماعية” . فما هو دور العلوم الانسانية في فهم تطور الحضارات الانسانية؟ لماذا هذه النظرة العدائية للمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح؛ التي تشمل مجالات العلوم الانسانية بصفة عامة؟ ما مدى مسؤولية المؤسسات التعليمية في صناعة وانتاج وتكريس الغباء الجماعي؟ فأزمة قضايا الفكر والعقل المغربي تتجلى في عدم قدرتنا على تحرير وتنزيل الأفكار والتصورات والنظريات وتشكيلها وتنفيذها وتطبيقها؛ من خلال أجرأتها على أرض الواقع. لماذا الكثير من شعوب العالم التي آمنت بالفكر والعلم منهجا في الحياة، استطاعت بإرادتها ان تحل هذا الاشكل، في حين بقين نحن عالقين على مستوى هذه المساحة؟
في مجال العلوم الانسانية؛ يرى الباحث الأنثروبولوجي وعالم الرياضيات، الدكتور محمد خمسي؛ أن هناك ثلاث عناصر أساسية لفهم كل حضارة من حضارات الشعوب:
أولا: عنصر علم الاجتماع لمعرفة كيفية تفكيك الظواهر الاجتماعية واعادة تركيبها. فمن الاعطاب الكبرى التي تصيب البنية التعليمية في كل التخصصات التقنية؛ الفيزياء والرياضيات والطب… وغيرها هي العداوة للفكر الفلسفي والجهل بالمعطيات التاريخية والجغرافية. فلا يمكن للمعرفة العلمية ان تعرف سبيلا للتطور دون وعيها ببنيتها التاريخية والجغرافية التي كانت وراء سبب وجودها ووصولها لهذا الشكل من الاشكال؛ كيف نشأت وكيف تطورت وكيف عرفت مختلف القفزات العلمية والفكرية. وبالتالي لا تستطيع أية دولة او شعب ما ان ينهض دون الاهتمام بالشأن الثقافي والفكري؛ ولا يكفي الفكر التقني أو العلوم الحقة للنهوض بالأمم.
ثانيا: عنصر التاريخ لمعرفة كيفية تفسير الاحداث والنزعات التسلطية للأنظمة. فاذا ما اريد لظاهرة اجتماعية معينة ان تقبر؛ يسلط عليها المنهاج ذي البعد الواحد او الاحادي الجانب؛ فكل علم معزول عن البعد الفلسفي والتاريخي لن يكون عقلا علميا ولا فكر اشكالات علمية. فالتقنية لوحدها، غير قادرة على التطور لانعدام رافعة العرف التاريخي والبعد الفلسفي القائم على النقد والتجاوز وخلق فضاء مفتوح في القيم والابستمولوجيا.
ثالثا: عنصر الجغرافيا لمعرفة مواقعها البشرية والطبيعية والاقتصادية والادارية والخدماتية؛
الجغرافيا هي علم سطح الأرض الذي يدرس توزيع الحياة النباتية والحيوانية والبشرية وآثار النشاط الإنساني في مختلف مجالات الأرض. وتنقسم الجغرافيا إلى قسمين رئيسيين وهما: الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية. وتعنى الجغرافيا الطبيعية بدراسة التضاريس والمناخ و الأرض. وتبحث إلى جانب ذلك في المناطق المختلفة في مجال الحيوانات والنباتات المستوطنة بها. أما الجغرافيا البشرية وهي أقرب إلى علم الاجتماع، فتدرس توزيع السكان وأصولهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلاقة الإنسان ببيئته وتأثيرها فيه.
وعلى هذا الأساس تنقسم الجغرافيا البشرية، بدورها إلى جغرافيا سياسية وجغرافيا اجتماعية وجغرافيا اقتصادية.
ولتلبية الطلبات الاجتماعية واتخاذ القرارات المناسبة ووضع السياسات العامة والعمومية والقطاعية، لابد من تشخيص دقيق لمميزات وخصائص الساكنة حتى يكون هناك نوع من التطابق والتمازج والتكامل بين القرارات المتخذة ورغبة هؤلاء السكان. بحيث ان طبيعة ونمط عيش الساكنة هو المحدد الرئيسي لطبيعة القرارات المراد اتخاذها فيما يهم الساكنة من بنيات تحتية تهم السكن والتعمير ومخططات التهيئة العمرانية والمخططات التنموية الجماعية والسياسات الحضرية… وغيرها. وهذا هو محور الطلبات والقضايا الاجتماعية وموضوع السياسات العامة والعمومية والقطاعية والقرار الجهوي والاقليمي والمحلي.
فالمقاربة السوسيولوجية تؤدي إلى رصد تطور المجتمع من خلال الواقع السوسيولوجي، بحيث لا يكفي النظر إلى الأمور من أعلى جبل، ولكن أيضا من البساط حتى نستطيع أن نحدد البرامج والخيارات المطابقة لخصوصية المجتمع وكشف حقيقته ورد الأمور إلى مسبباتها الحقيقية. كما أنها تلعب دور الكابح والمنظم لعملية ظهور المشاكل الاجتماعية، بل السياق السياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري الذي تبلورت فيه، فالسياسي يمكن أن يكون له تفويض مؤقت، في حين أن الإداري دائم ومستقر، وبحكم هذه الديمومة يربط علاقة وطيدة بالبيئة التي يوجد بها.
موضوع الاهتمام بالمعطى السوسيولوجي ليس وليد اليوم، بحيث نجد أن العديد من الفقهاء والباحثين المغاربة نادوا بتأسيس مدرسة مغربية في هذا الاتجاه، نذكر منهم على سبيل المثال: “نجيب بودربالة” و”بول باسكون” في بحثهما حول المجتمع المغربي ومقولة التركيب أو التنضيد والتي تخلى عنها لاحقا نجيب بودربالة، حيث رأى من خلال بحثه عن مصادر إنتاج القانون (العرف، القانون الإسلامي، القانون الوضعي، العبري)، أنه بالرغم من هذه التعددية يبقى هناك منطق داخلي يوحدها.
“العميد بنونة” نادى بملء الفراغ الحاصل في البحث السوسيولوجي وبلورة فكر مغربي يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية التاريخية والحضارية للمغرب.
“جين دي بريز” من أجل بحث يلائم الواقع المغربي، في نفس الاتجاه دعا إلى بلورة التفكير والبحث ودراسة القانون من زاوية سوسيولوجية لمعرفة مدى تطابق القاعدة القانونية والواقع .
“عمر عزمان” في مرافعة له من أجل معرفة جديدة للقانون المغربي من خلال السوسيولوجية القانونية، اعتبر أن تتبع تطور الأحداث سطحيا غير كاف. وبالتالي يجب تحديد محتوى النسق ومنطق وظائفه، ووسائل إنتاجه ومعطياته الجيوغرافية والسوسيو اقتصادية ومجالات التقاطع، والتنازع والتعايش، أي تجاوز الدغمائية.
“خالد الناصري” من نفس النافذة أيضا يرى أن الجانب السوسيولوجي يختزن منطقا عميقا يجب البحث عنه.
“ليون دوكي” أول من بلور تصورا سوسيولوجيا منسقا في هذا الاتجاه، حيث رأى أنه لا الدولة، ولا السلطة هما اللذان يحددان السياسة العامة، ولكن تحديد ذلك يتم تحت تأثير وتناقض الضرورة والمطالب الاجتماعية.
نتساءل إذن من خلال هذه المعطيات، هل الإدارة المغربية ومن خلال استراتيجية عملها، تأخذ فعلا بعين الاعتبار المعطيات السوسيولوجية؟ بعبارة أوضح هل يمكن الحديث عن سوسيولوجيا للفعل الإداري المغربي؟
مقاربة الفعل الاداري المغربي من خلال هذا المعطى يفضي، في الصراحة، إلى مفارقة كبرى، ومظاهر هذه المفارقة تتجلى في العديد من المجالات، فالفعل الإداري المغربي يحيل إلى التناقض مع الواقع، خصوصا على المستوى الاقتصادي، بحيث هل يمكن الحديث عن نظام أو سياسة اقتصادية محددة المعالم؟ (الرأسمالية، الاشتراكية، المختلط بينهما…) فتتبع التطور العام للسياسة الاقتصادية يؤدي إلى تصور وجود كل هذه النظم مع غيابها في نفس الوقت.
أيضا هل بالإمكان دخول رهان اقتصاد السوق؟ هل المعطيات السوسيو اقتصادية يمكن أن تستجيب وتساير هذا الرهان؟ فالاقتصاد الطفيلي من خلال المستثمرين الطفيليين في مجال الاستثمارات الاستهلاكية، والاقتصاد العائلي، التسرب (من خلال عملية دارت) والاكتناز… لا يسمح باللحاق بالمراكز العالمية من منظور اقتصادي، وفي اتجاه آخر، الجماعات المحلية بمواردها المادية والبشرية لا تستجيب، بل غير واعية بالظرفية الاقتصادية، سواء على المستوى العالمي أو الداخلي. فذلك فهم حديث يتنافى وضعف الموارد، وعقلية المنتخبين ومستواهم الثقافي.
هل وصلنا إلى مرحلة نضج القطاع الخاص وأخذه زمام الامور الاقتصادية؟ وبالتالي هل يمكن الحديث عن نهاية الحماية الاجتماعية للدولة؟ فالتبعية المرضية (بفتح الميم) في تحديد الخيارات الاقتصادية وغير المنبثقة من الواقع المغربي تبقى عائقا في وجه التنمية. فالأبحاث السوسيولوجية ساهمت بشكل كبير في المردودية وسلامة المقاولات في دول أوروبا؛ حيث ضغط القوى النقابية، عكس ما هو عليه الأمر في الدول الأسيوية حيث سيادة الثقافة والفكر التنافسي.
فنحن ننتمي إلى العالم المتخلف الذي يلعب دورا متواضعا على المسرح العالمي، وذلك بحكم العلاقة الغير المتكافئة. فالتعاون شمال جنوب في إطار ما يسمى “بإمبراطورية الفوضى” لا يعد سوى شعارا ديبلوماسيا؛ وبالتالي فاللحاق في إطار الاعتماد المتبادل يبقى طوباويا بحكم عنصر الاستقطاب الذي هو روح الرأسمالية. فالدول تصنف ثلاثة أقسام: هناك صناع الأحداث (Proactives).وهناك الفاعلون الأحداث. (Actives) وهناك أصحاب ردود الفعل تجاه الأحداث . (Réactives)
صحيح هناك عقول علمية في مجال العلوم الحقة؛ الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية والطب والهندسة وغيرها…؛ لكن هذه العقول بعيدة كل البعد عن الفكر الانساني؛ أشخاص غير قادرين على الحوار والايمان بالفكر المغاير، وغير قابلين للامتداد والانفتاح على الآخرين على حد تعبير الدكتور محمد خمسي. فهم يجهلون الفن والفلكلور ومساحات المشترك مع باقي الناس في المجتمع. فالتشبع بالعلوم التاريخية وبالفلسفية تعتبر شرطا أساسيا لوعي المجتمع والظواهر الاجتماعية وبالتالي فإن العلوم اليقينية غير قادرة على فهم ووعي الدراسات المستقبلية.
فالعلاقات الاجتماعية تشكل في مجموعها مجمل علاقات الفرد، ومجالات تفاعله، وبالتالي فمن الناحية المعرفية تعتبر جميعها ذات تأثير على سلوك الأفراد وعقلياتهم.
في مجال السياسة الاجتماعية، حيث القدرة الشرائية، الضريبية، سياسة التشغيل، المساواة، المجانية… تفضي إلى مفارقة أيضا. ومن المفارقات أيضا في هذا الاتجاه أن نجد دعوة احزاب الكتلة إلى التصويت باللائحة/ البرنامج في ظل مجتمع تسوده الأمية بنسبة زائدة عن الجرعة المقبولة !، فهل وصل المواطن المغربي إلى القدرة على التصويت على البرنامج الحزبي مثلا؟ ما معنى القانون بالمغرب؟
ان الأمن القانوني في ارتباطه بالأمن القضائي؛ هو بكل بساطة مدى قدرة القواعد القانونية على معرفة مجال للتطبيق ومدى ثقة الناس فيها..
وهذا الوضع دفع بالعديد من الباحثين في مجال علم الاجتماع إلى طرح السؤال التالي؛ ما هو القانون بالمغرب؟ أو بالأحرى ما معنى القانون بالمغرب؛ في ظل كثرة نصوصه، وعدم مطابقتها للواقع السوسيولوجي؟ هذا الموقف ادى بالعديد إلى طرح تساؤل آخر فيما إذا كان القانون تعسفيا في بعض جوانبه حينما ينزع بكثرة نصوصه إلى التقليص من الحقوق والحريات للأفراد، بحكم أنه لم يكن وليد اكتناف أو صراع معين، بل مجرد دخيل في العديد من نصوصه؟
هناك العديد من النصوص القانونية البرانية عن المجتمع المغربي؛ التي بالإضافة إلى برّانِيتِها وعدم انبثاقها من الواقع والمعيش السوسيولوجي بالمغرب، تبقى صعبة التطبيق، إن لم نقل مستحيلة التطبيق والتنفيذ على الإطلاق.
ومن تلك النصوص على سبيل المثال؛ نجد الفقرة التاسعة من الفصل 35 من القانون الجنائي التي تعاقب تعاطي الشعوذة والسحر. فنحن نعرف ان المجتمع المغربي من أكثر المجتمعات العالمية التي تؤمن بالسحر الذي يتم إما علانية، بحيث يكفي معاينة بسيطة لساحة “جامع الفناء” بمراكش لالة عيشة البحرية بأزمور بالجديدة وسيدي عبدالرحمان مول المجمر بعين الدياب بالدار البيضاء ومولاي بوشعيب بأزمور… وغيرها من الأماكن المعروفة والمعلومة بالمغرب؛ لمشاهدة استفحال الظاهرة، وإما في الخفاء حيث يصعب إثباتها ووسائل ضبطها؛ حتى تظهر للعلن بعدما تكون مقرونة بفعل جرمي اخر كما مثلما فضح من خلال ما يسمى الرقية الشرعية أو الزنا والفساد المقنع والمتخفي تحت ستار المعالجة بآيات القران.
فهو إذن مجرد تنصيص يدخل في مجال نص استراتيجي مضمن مع وقف التنفيذ. ونفس الأمر بالنسبة للتنصيص على معاقبة تعذيب أو حبس الحيوان. فلو افترضنا أن الأمر تعلق ب “قط” أو “كلب”، فالبحث السوسيولوجي البسيط يؤدي إلى استنتاج مفاده أنه في الثقافة الشعبية؛ تعذيب أو الاعتداء بالضرب على القط او الكلب يؤدي إلى الإصابة بضربة صرع أو ضربة الجن “التشير” او مقولة؛ فيه ذنب وإثم كبير؛ فهما يدخلان في مجال المقدس أو التمثل أو الخوارق الطبيعية؛ وليس احترامًا للحيوان الأليف كما هو الشأن عند الغربيين. فالمغربي يعطي تفسيرا غيبيا للظواهر؛ ويخضع كثيرا لاعتباط الطبيعة. بحيث يكفي الاطلاع على كل ما أحيط بفيروس كورونا المستجد؛ لتكتشف درجة الغباء الجماعي فينا ومستوى التمثلات الاجتماعية للظواهر.
لذلك نجد العديد من عمال الجماعات يتهربون من محاربة الكلاب والقطط الضآلة؛ ليس خوفا من جمعيات الرفق بالحيوان؛ بل للسبب السالف الذكر؛ حيث يعملون على جمعها من خلال اصطيادها وإحالتها على المصلحة البيطرية لتنتهي مهمتهم؛ وحتى المصالح البيطرية التابعة للمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية؛ يتهربون لنفس السبب ويتدرعون بكون المادة السامة” الستريكلين” المستعملة في محاربة الكلاب والقطط والثعالب والدواب الضآلة والمسعورة؛ مادة خطيرة.
وحتى التنصيص من خلال مقولة لا يعذر أحد بجهله القانون يبقي السؤال حول محلها من الإعراب في مجتمع يعاني الأمية والجهل والفقر إلى غيرها من النصوص الدخيلة والمتجاوزة؛ والتي تعود إلى عهد الحماية الفرنسية أو بداية الاستقلال.
القانون يجب أن يكون وسيلة أداء في المواطن المعني به للوصول الى حقوقه والالتزام بواجباته.
لنعطي مثال حي من سفر الى واقع منطقة فم زكيد؛ حيث الإنسان والحيا ونبتة الحناء؛ تلك الشجيرة الخضراء في النبات والحمراء على يد البنات. فالإنسان الوزكيدي؛ نسبة إلى فم زكيد، هو ذلك المواطن الصالح، الفلاح الذي يستيقظ في الصباح الباكر ويمتطي دراجته الهوائية وعلى مقودها الراية المغربية وصورة جلالة الملك محمد السادس. أو احيانا دابته إذا لم يكن لديه دراجة نارية او هوائية؛ متوجها نحو مدينة ورززات؛ نظرا لتبعية القطاع الفلاحي لجهة درعة من حيث التقسيم القطاعي؛ حيث تواجد وكالة بنكية من اجل الحصول على قرض مالي استعدادا للموسم الفلاحي.
وعندما يدخل مدينة ورززات يتوجه نحو ابن اخته الطبيب الذي سيتدخل له من خلال ابن عمه المهندس، عبر خاله القاضي، الذي يعرف حفيده الضابط، في القوات المسلحة الملكية، ليتصل بالأستاذ الجامعي، المنحدرين كلهم من منطقة فم زكيد؛ لكي يضمنه او يربط الاتصال بالقائد او الباشا المنحدران كذلك من منطقة فم زكيد لعلهما من خلال شبكة علاقاتهما؛ يقضون حاجته او يتصلا بالبرلماني ممثل السكان لكي يتوسط له لدى مدير الوكالة البنكية للحصول على القرض المطلوب…
من خلال قراءة بسيطة في هذا السفر من الخيال؛ نلاحظ ان هذا الإنسان هو مواطن مغربي وطني وملكي؛ متشبث بالعلم الوطني والولاء والبيعة لعاهل البلاد. ومن ابناء منطقته: فيهم المهندس والقاضي والطبيب والأستاذ الجامعي والضابط والقائد والباشا ومنهم البرلماني ممثل السكان؛ ليمر عبر متاهة وعبث الوساطات لكي يحصل على ضمانة من أجل قرض مالي لان ارضه غير محفظة أو تدخل في نطاق أراضي الجموع ولا يقبل البنك بها كضمانة قانونية؛ ليحصل في آخر المطاف على القرض المطلوب لشراء: جرار وحفر البئر ومحرك ومضخات جلب المياه والمواد والسلع… وغيرها؛ ليقوم بغرس الحناء الخضراء في فضاءات النبات والحمراء على يد البنات.
ومن خلال هذا المثال لمعاناة مواطن مغربي مع إجراءات الحصول على القروض البنكية؛ نستنتج الأهمية الكبرى لبرنامج التمويل المندمج كفكرة لملك البلاد محمد السادس؛ وعدم اشتراط الضمانة وتقليص نسبة الفائدة المرجعية والفائدة المحصل عليها من طرف الأبناك إلى نسبة فائدة: 1.75 بالنسبة للعالم القروي، وإلى نسبة فائدة: 2 بخصوص المجال الحضري.
نحن نعرف ان المشرع المغربي لا يوقفه شيء؛ الا سعة الإمكانات في السرعة في بلورة وإخراج القوانين والتشريعات؛ فمتى تتم اعادة النظر في الترسانة القانونية بالمغرب بالتقليص منها وإعادة صياغتها حتى تساير التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المغرب
فالفعل الاداري غالبا ما تكون استراتيجيته سابقة بخطوتين إلى الأمام، في حين المجتمع متأخر بنفس الخطوتين إلى الوراء، وذلك ناتج عن غياب البعد السوسيولوجي وتعميق البحث في هذا المجال.
إجمالا فرسم فكرة لاستراتيجية معينة منبثقة من المعطيات السوسيولوجية، تهدف بالأساس خدمة هذا المجمع، لكن أيضا في إطار فضاء قابل للتطور يساير الظرفية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الحضارية، التاريخية.
نستنتج أن الوازع الخلقي هو الرقيب الباطني الذي ما يفتأ أن ينبه الفرد في كل لحظة إلى وجود مراعاة قواعد السلوك الحسن تجاه النفس وإزاء الآخرين، وقواعد السلوك هذه عامة ومتعارف عليها، وهي التي تلزم الموظف والتاجر والزارع والصانع وصاحب المهنة الحرة؛ كالمهندس والطبيب إلى غيره، والتي من مقوماتها اتقان العمل والتفاني فيه بجدية وإخلاص وتفادي كل صور الفساد بالترفع عن الغش والتزوير والتدليس وما إلى ذلك، إذا ما أردنا فعلا الحفاظ على الاستمرارية في الصيرورة التاريخية والحضارية الإنسانية.