خواطر….
ما ينبغي أن يكون دائما في مجال السياسات الحضرية..
الدكتور شنفار عبدالله
——————-
لماذا يسكننا الاستعلاء والاستكبار من أن يكتشفنا الآخر؟ لماذا فهمنا واكتشفنا الآخر في حين نحن مازلنا نلهث ونجري ورائه للبحث عنه؟ لماذا لم نستطع تجاوز مرحلة الانحطاط القيمي؟ لماذا هذا المستوى من الهشاشة في فهم واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي؟
استحضر هذه الابيات الشعرية الجميلة لأحد الشعراء العرب التي يقول فيها ولسان حاله يبكي بمرارة عدم قدرته على اللقاء بعشيقته القريبة منه والتي ربما منعه من اللقاء بها إجراءات جحر صحي فرض نتيجة تفشي وباء الطاعون في ذلك العصر الذي اجتاح العالم بما في ذلك شبه الجزيرة العربية؛ كما هو حال سبيلنا نحن الآن مع فيروس كورونا المستجد:
“La maladie à coronavirus “COVID-19
وأشدّ ما لقيتُ من ألَـمِ الهوى..
قُرْبُ الحبيبِ وما إليه وصولُ..
كالعِيْسِ في البيداءِ يَقتلها الظَّما..
والماءُ فوقَ ظهرها محمولُ..
هذه الأبيات هي مقتطف من قصيدة للشاعر طرفة بن العبد؛ التي في تحليلها تتجاوز حدود شعر الغزل والتغني بالحبيب.
ومن خلال عملية إسقاط على حال الأمة العربية وازمة قضاياها؛ فهي تحيل إلى ما نعاني في وطننا العربي من خلل وإعاقة؛ تتجلى في عدم القدرة على تنزيل التصورات والأفكار إلى البلورة والتطبيق والتنفيذ؛ على أرض الواقع.
وهذا في الصراحة شبيه بالناقة أو الجمل وسط الصحراء تحت وهج الشمس الحارقة في فصل الصيف؛ التي تعاني من العطش وعدم قدرتها على شرب الماء الذي تحمله على ظهورها.
هذه الروعة في التشبيه البليغ بين عدم القدرة وتصريف القيم وتنزيلها على أرض الواقع؛ كالعاشق الولهان الذي رغم قرب حبيبته منه؛ لم يستطع تحقيق اللقاء بها بسبب الحظر المفروض.
وأعطي مثالا على هذه الإعاقة وعدم القدرة هذه في تصريف القيم الإسلامية المتعلقة بالنظافة التي ارتقى بها الدين الإسلامي إلى مستوى الطهارة. غير أننا نلاحظ مدنًا متسخة والأزبال ترمى في الشارع العام من نافذة السيارات والشاحنات ونوافذ المنازل! حينما يعجز المواطن على وضع الأزبال في القمامة ويرمي بها بالجانب؛ فبالأحرى أن ننتظر منه فرز النفايات قبل وضعها بالقمامة!؟
بسبب الحظر المفروض نتيجة تفشي فيروس كورونا على المدن والقرى؛ تكشفت في الحقيقة عرى هذه المدن والقرى؛ وتبين أنها لا تتيح ولا تسمح بهامش كبير للتحرك من أجل احتواء الأزمات؛ مدن بئيسة وتسبب التعاسة بدل السعادة والصحة والطمأنينة والسكينة والأمان؛ من خلال هندستها ومعمارها الذي حولها إلى صناديق كالنعامة التي لا تفتح أي أفق أو مجال للتطور؛ مدن عبارة أشباح في النهار؛ ولا تصلح سوى كمحلات وبيوت للمبيت ليلًا. مدن كان يسكنها الإجرام والضجيج والجهل والتخلف.
مدن في كل مرة نختبرها عند الشدة نجد أن ازقتها وشوارها وهندستها خاوية اليدين صفرا. ونستحضر مختلف المعاناة عند تدخلات عناصر الوقاية المدنية من أجل إخماد النيران وعناصر الأمن والدرك ورجال السلطة من أجل تفكيك العصابات أو إلقاء القبض على مجرم أو إغاثة طفلة تحترق بالنيران أو مد يد المساعدة لشخص أو أشخاص في خطر.
مدن تفتقر لسياسات حضرية تبلور فضاءات الترفيه والترويح عن النفس.
مدن ليست ذكية في شيء؛ حيث تخترقها وتتشابك فيها شبكات الهاتف والإنارة العمومية عبر الهواء والأسطح والفضاءات.
حتى الإدارات والمرافق العامة والعمومية؛ نجدها قد صممت وخطط لها بطريقة تفتح المجال للقول اننا صممنا وخططنا لنوع من الغباء الجماعي؛ حيث لا تتيح للموظفين والموظفات الاشتغال في ظروف صحية؛ بدءًا باستقبال المرافقين ومرورا بتقديم الخدمة لهم حتى المراقبة والتتبع والمواكبة وانتهاء بالتصحيح والمراجعة.
في وقت نجد ان الآخر الذي لازلنا نبحث عنه ونحاول ان نمارس عليه اعتباط التعالي تحت شعار خير أمة أخرجت للناس؛ بشكل عدواني؛ قد وفر لنا، جزاه الله خيرا؛ وسائل بديلة للطاقة الشمسية النظيفة وأخرى مصدرها الرياح.
حينما نهبش في ترسانة قانونية؛ ولا نجد حتى مادة لاعتمادها كمرجع أو مصدر من أجل سن القوانين والأنظمة في زمن الشدة؛ فنكون مضطرين إلى اللجوء إلى القراءة فقط إلى جانب الإحالات لتمطيطها أكثر مما تستحمل وتتيح. هنا يتطلب الأمر وقفة للتأمل والتصحيح وإعادة النظر والمراجعة لتفادي العشوائية والارتجال مستقبلا عند سن القوانين وعدم الرضوخ للضغوطات الاجتماعية لتفصيل الفصول والمواد القانونية وفق مقاس من يصيح ويحاكي الصدى بصوت مرتفع! من خلال طرح السؤال الوجودي التالي: هل الحياة التي نعيشها تستطيع ان تحقق لنا ذوات فاضلة؟
التحديث والإصلاح والتغيير؛ كمسميات تعرف تطورًا حسب ظروف الزمان والمكان؛ وحسب متوالية هندسية وحسابية لتساير العصر عبر مسلسل ومسارات سياسات عامة وعمومية وقطاعية، مع خلق فضاء قابل للتطور والانفتاح. حيث يمكن اعتبار مفهوم المدن أو الجماعات الترابية الذكية (Smart city) ؛ أحد المفاهيم الشاملة لوسائل التطور الصناعي والإنتاجي يهدف إلى دعم مدينة أو جماعة ترابية معينة وإدارتها بطرق وأساليب تقنية جديدة وحديثة؛ من اجل أن تتحسن ظروفها الاقتصادية والاجتماعية مع الأخذ بعين الاعتبار البعد البيئي في برامجها ومخططاتها.
هذه الأفكار والأساليب في سعيها لتحقيق وسائل العيش المستدامة؛ تتضمن تجديدات تكنولوجية واقتصادية واجتماعية لساكنيها من خلال احداث المدن الجديدة وإدارة خدماتها؛ من طاقة متجددة في الكهرباء والإنارة والمياه الصالحة للشرب وفي الصناعة والتدفئة ومواصلات واتصالات، كما يمكن استخدام هذه التقنية الجديدة الشمولية لإدارة مؤسسات كبيرة بتطبيق طرق التحكم الآلي بواسطة وسائل ذكية، مثل كاميرات المراقبة، و”درنات” “drones” لتعقب مخالفات السير على الطرقات والبناء والتعمير والمهربين… ومحسسات الرصد والتتبع والمراقبة وشبكات اتصال وتجميع معلوماتها وإدارتها عن بعد من مركز يجمع المعلومات، ويتصرف فيها بحسب الأوضاع الآنية والاحتياجات. المدن الذكية تتوفر على الأقل على رصيد وموقف للدبابات العسكرية التي تتطلبها حالة الاقتضاء وسيارات الأمن والوقاية المدنية؛ وممرات سيارات الإسعاف وذوي الاحتياجات الخاصة.
المدن الذكية بها مرافق قريبة من المواطنات والمواطنين تقدم خدمات بسرقة وبدقة أكبر.
المدن الذكية تستعمل وسائل التكنولوجية الحديثة؛ من بطاقات اليكترونية تستغني وتحد من وعن استعمال الاوراق في التعامل مع الادارة…
فعلا يسكننا الاستعلاء والاستقواء الذي لن يتيح لنا اللحاق بالآخر أبدا حتى نغير ما بأنفسنا.. مصداقا لقوله تعالى: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.”
وبالتالي ليس قدرنا أن يسكننا الجمود وعدم سلك طريق الاجتهاد من أجل التجاوز والرقي كباقي الأمم والشعوب فالعطش يقتلنا فعلا، مع أن الماء فوق ظهورنا محمولا؛ وان مرارة الرقي نذقها، مع أننا نستطيع الوصول إليها بالإرادة والشجاعة والجرأة.
عن موقع : فاس نيوز ميديا