بقلم الدكتور #الشداوي عبد العالي باحث في الفلسفة السياسية المعاصرة : الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين بني ملال خنيفرة.
…………..
“البيت هو ركننا في العالم. إنه، كما قيل مرارا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى”
مع الانتشار العالمي لكورونا فيروس القاتل، لم يخلو أحد من شعور الشك والندم والمراجعة فور عودته إلى المنزل، خشيت أن يكون قد نقل الفيروس إلى بيته. وفي ذات السياق، فإن الخوف من الموت، قد يترتب عنه بعض الأفعال غير عقلانية، كما تساءل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مدى نجاعة حقن المرضى بمواد التعقيم مادامت أنها تقضي على الفيروس في أقل من دقيقة وكتلك التي دعا إليها الدكتور المغربي محمد الفايد المتخصص في علم التغذية، عندما قدم وصفة العطارين والعشابين لعلاج كورونا “بالقرفة والقرنفل”، التي أثارت جدلا حادا بين رواد شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك.
ومرد هذا الجدل، هو أن “الطب ليس علما دقيقا، بل إنه فن” على حد تعبير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، “ولكن يتعين علينا أن نجعل منه علم الشفاء” لتجنب الخلط الحاصل لدى الجمهور حول مهنة الطبيب الذي يعاني منه الفنان، إذ يخلط الحس المشترك في الغناء بين المغني الشعبي بالفنان بالقدر نفسه الذي يخلط بين الطبيب والعشاب. فينسى على أن الغناء بالمقابل في الحفلات والأعراس ينفي صفة الفن عن المغني، “مادام الفن ينشأ عن إرادة حرة تجعل من العقل أساسا لأفعالها” وليس عن الأهواء والانفعالات.
ومن يسير على هذا النهج، يريد أن يعود بنا إلى قصص عصور الأولياء كتلك التي تحكي عنها قصة قنديل أم هاشم.
فما أحوجنا اليوم إلى جرأة بطل القصة الشاب المصري طبيب العيون، إلى تكسير قناديل الظلام والتطرف والأخذ بمشعل التقدم والتطور من منطلق “الجماعة العملية” لا من منطلق المعجزة. ومن ثم فالسؤال: كيف تساعدنا الفلسفة في مواجهة المخاطر المحدقة بالإنسان سواء الناجمة عن التقدم البشري أو الناتجة عن تخلفه؟
كثيرة هي المبادئ الفلسفية التي تدعم حماية النفس من المخاطر. والمبادئ المتصدرة لهذا القرب كثيرة. إلا أن المبدأين المشهورين في تاريخ الفلسفة في ظل الخطر الذي يتهدد البشرية جمعاء هما الأكثر نجاعة لتصدي ومواجهة الوباء.
يقول سقراط: “أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك”، ومن بعده قال كانط: “تصرف على نحو تعامل فيه الإنسانية في شخصك كما في الأشخاص الآخرين، دوما وفي نفس الآن كغاية دائما وأبدا وليس مجرد وسيلة” ..
يبدو المبدأ السقراطي: “أيها الانسان اعرف نفسك بنفسك” قريبا من المبدأ الكوفيدي: “أحمي نفسك من العدوى بنفسك”. وبمقارنة هذا المبدأ مع اللازمة الكونية لمكافحة الوباء-الزم مكانك-(stay put) حيث عندما تسأل غوغل باللغة الإنجليزية السؤال: what is coronavirus ? يجيبك في أول سطر: الوقاية (prévention) والوقاية ترتكز على مبدأ: “احمي نفسك والآخرين من حولك بمعرفة الحقائق واتخاذ الاحتياطات المناسبة. Protect yourself and others around you by knowing the facts and taking appropriate precautions.كما يفيد: التباعد الاجتماعي (socail distancing) بعدما تبين أنه جد فعال في عدم انتقال العدوى من شخص لآخر” . والقاعدة الأخلاقية العملية لكانط قريبة من نظيرتها الصينية، مفادها: “تعامل مع أي شخص على أنه مصاب، وتصرف أنت مع كل الأشخاص على أنك مصاب”.
لا تفيد هنا الحيطة من الفيروس اعتماد الفرد على ذاته لتجنب المرض، بل هناك من يحدد له شروط الوقاية. ويتعلق الامر بمنظمة الصحة العالمية، حيث تم فرض عزل منزلي إجباري كبير قارب خمس ملايير من البشر، بحظر التجوال في ساعات محددة. وقد ترتب عن هذا القرار، سن الدول مجموعة من القوانين الجزرية لها من السلطة ما يسوغ لها إجراء المحاكمات وإصدار الإدانة وتنفيذ الاحكام، بدعوى محاصرة الوباء.
حول هذه النقطة “إن ما يحدث مع كورنا” يشبه ما شخصه مشيل فوكو في كتابه المراقبة والعقاب، عن طريق الدولة في معالجة وباء الطاعون بوصفه نموذجا سائدا لمنطق الحجر الصحي: إخلاء الشوارع والساحات من البشر حيث لا يحق التجوال إلا للشرطة أو الجيش” . وقرار مثل هذا، يبدو الفرد من خلاله قاصرا، مستسلما الأمر لمن يظهرون بمظهر القادر على حمايتهم من الموت، حيث امتد هذا الخوف إلى حرمان العائلات من حق مثلما يسلم المريض جسده للطبيب بشكل عجائني. وأن المصابين العزل بالمستشفيات لم يسمح لأقاربهم وأصدقائهم برؤيتهم، وأن الموتى منهم، حرموا من فرصة الوداع الأخير.
ومن باب حفظ الصحة الجسدية والنفسية والعقلية، يجد من يريد أن يكون منسجما مع نفسه والعالم في الفلسفة منفذا فسيحا، ومن وجهة النظر هذه، يعتبر التفكير-وهو الخاصية المميزة للفلسفة-“كما اتفق كانط مع أفلاطون، هو الحوار الصامت لذاتي مع نفسي. وعمل انعزالي تبعا لهيغل” .
يستفاد من هذا الكلام، إن التفكير يتطلب الهدوء عن طريق اعتزال الحشود والاختلاء بالنفس، وهي مناسبة لاكتشاف الذات واستعادة “لأصالتها كما يذهب إلى ذلك مارتين هايدغر . هذا من زاوية الحياة التأملية لمواجهة العزلة في زمن كورونا.
لكن ماذا عن دلالتها السياسية: أي، عن حياة الناس العمومية في ظل هذه الأزمة؟
العزلة قدر الفيلسوف، لأن وظيفته تتوقف على ذلك كما أشرنا سابقا. والفيلسوف بهذا المعنى قد جر الويلات على نفسه، ووصف بأنه لا ينتمي إلى العالم باعتزاله عندما راح ينظر إليه من برجه العاجي. وأن عدم التصرف هو مصدر كل الشرور الاجتماعية والسياسية. فعزلة الفيلسوف في النهاية، “لم تنتج بالتالي لا سياسية جيدة ولا فلسفة جيدة” لكن “آرندت بدفاعها عن فكرة ضرورة وصول أو نزول الفكر إلى العالم والاهتمام بالإنسان كإنسان في ضعفه وتجاربه ومحنه ، مثلت الاستثناء الوحيد من هذه العزلة.
ألم يكن سقراط فيلسوفا ذهب ضحية التفكير العمومي عندما حكم عليه بالإعدام بتهمة إفساد عقول الشباب؟
وجدت الحكومات موطئ قدم في عزلة الناس لا في تكتلهم واتحادهم. وبالتالي” تشكل هذه العزلة، وأفتح قوس هنا لأذكر على أن كورونا فيروس أذكى نار الديكتاتورية من جديد، وقد وجدت السلطات ما يبرر إفراغها الفضاء العمومي بشتى الوسائل، وقد اعتمدت في ذلك على الخوف. وقد وازى هذا الخوف تمجيد ممن يجدون سعادتهم في حياتهم الأسرية، للفضاء الخصوصي، لأنهم يسكنون منازل فسيحة. فباتت المدن الكبرى وفضاءاتها خاوية على عروشها، بعدما غادر الناس مجال العيش المشترك، فصارت الأسر بمثابة لاجئ داخل بيوتهم الضيقة. ها هو تمني كل مغربي في أن يكسب قبر الحياة، أصبح واقعا، في إطار “دوائر الزمن”، الإشارة إلى كورونا وكذبت الفلسفة الكلبية التي “تتجاهل النظافة والعائلة والمال والرعاية الصحية” ، وانتصرت كورونا.
فالعزلة إذن، عندما تخلو من صداقة الفعلية-المطالعة والكتابة، “تصبح واحدة من المشاغل الأساسية لجميع الحكومات المستبدة بل وتزيد من توسيع دائرتها” . فإن عدم القدرة على التفكير والعودة إلى الذات هو ما أتاح لأنظمة الحكم الكليانية في القرن العشرين بسط نفوذها ومكنها من إحكام السيطرة على جميع مفاصل الحياة.
ويمكن أن يقاس نفس الشيء، فيما يبدو، بصدد وقتنا الحالي الذي نكرر فيه نفس السيناريو وكأن التاريخ يعيد نفسه. فقط إن ما ميز أحداث الأمس، أن مواجهة العدو كانت علانية في حين إننا اليوم نواجه شبحا غير مرئي، يجعلنا على حيرة من أمرنا أمام الأشياء والأشخاص، إلى درجة الوسواس القهري. وفضلا عن ذلك، فقد عادت إلى الواجهة مقولات فلسفية تعزز تدخل الدولة للحد من قدرة الفرد على فعل ما يريده. وعليه، صارت مقولة هوبس “الإنسان ذئب الإنسان ” من حيث كونها تقنية للحكم، أكثر فعالية في استتباب السلم الاجتماعي (التباعد الاجتماعي) تحت ذريعة الخوف من انتشار الوباء.
وبالرجوع إلى موضوع القصور وعلاقته بالتسلط، فماهية السلطة لا تنحصر فقط في “تقنية الحكم وبمهارة الحاكم وقدراته الخاصة وإنما هي «قدرة الانسان المشتركة على الفعل بدقة” . وهذا هو الغائب الأكبر في تدبير جائحة كورونا. ومرد هذا الاحتكار، أن الناس فقدوا الثقة في السلطة، فتربت في سيكولوجيتهم عقدة عدم الثقة، فكانت النتيجة مخيبة للآمال وهي، أن “أزمة السلطة التي أضحت أكثر اتساعا وأكثر عمقا في العصر الحديث من أي وقت انقضى” ، إلى درجة لم تعد السلطة تقوم بأي دور في الحياة العمومية، فوجدت في فيروس كورونا دافعة أرخميدس لاستعادة مكانتها ووهجها، لكن الأمر المؤسف له هنا، أن السلطة لم تنتبه إلى كون العنف قد رافقها في تدبير الجائحة. إنه عنف رمزي في العمق.
ومن أهمه القرار الانفرادي للحكومة المغربية الذي نصت بموجبه الاقتطاع من أجور الموظفين. وأن المواطن الذي صوت لعضو محلي تنكر لناخبه عندما انزوى وراء الجذران الأربعة للمنزل ليس خوفا من الموت وإنما بحكم عجزه العملي الذي يوازيه عجز نظري في تدبير الأزمة .
وقد بدا حب الذات مع تفشي الوباء تفوق على حب المواطن، الذي ينبغي أن يشعر به كل يوم وبشكل أكثر وقت الشدة والضيق، بينما الناس حائرون، تائهون في أرصفة الشوارع، ينتظرون تسليم مساعدات مالية من صندوق جائحة كورونا دون مد يد العون والمساعدة من أحد.
وعلى مستوى سياسة الصحية العمومية على الصعيدين المحلي والوطني، نلاحظ غياب هذه المحلية في التعاطي مع وباء كورونا، والاستجابة لسياسة “منظمة الصحة العالمية” يعتبر قرارا معولما.
كما لاحظنا أيضا تبخر الصدر الأعظم للعمل الجمعوي الميداني وظهور مبادرات نواتية تضامنية الكترونية محلية بمساهمة أبنائها يتضامنون عن بعد ببعث حوالات مالية لأسر معوزة.
وعلى الصعيد المحلي أيضا شاهدنا تشدد السلطات المحلية في منح رخص التنقل داخل الإقليم الواحد لأغراض حيوية.
فنحن إذن ، وبمناسبة الوباء أبعد من الديمقراطية المحلية في بعدها الاجتماعي والسياسي. وبما بذات المناسبة، قد يكون المثقف الأقرب لذاته كما تساءل الكاتب والناقد المغربي أحمد شراك في مقالة له بعنوان : # كورونا والحجر الثقافي؟ يمكن أن يكون #الحجر الثقافي بمعنى التفرغ للكتابة والقراءة هو عنوان محجوز؟.
#Abdelaali Chdaoui
عن موقع: فاس نيوز ميديا