خطب رئيس الشؤون الدينية، علي أرباش، في المصلين الأتراك في مسجد آيا صوفيا خطبة أول جمعة فيها منذ 86 عاما، بعد تحويلها إلى جامع، وكان لافتا رفعه لسيف مع وجود راية لافتة للنظر على منبره.
وكان مثيرا للانتباه، جلوس خطيب آيا صوفيا على درجات المنبر ومعه سيف، في عادة كانت لدى الخلفاء العثمانيين أعاد إحياءها.
وفي دلالة تاريخية هامة، رُفعت راية الأهله الثلاثة على جانبي منبر خطيب آيا صوفيا، وهي أيضا من عادات خلفاء بني عثمان، والراية الخضراء كانت رمزا للغزو في حقبة العثمانيين.
والثلاث أهلة في الراية الخضراء، تدل على القارات الثلاث وهي أوروبا وآسيا وأفريقيا، والراية الخضراء هي شعار جيش الخلافة، واللون الأخضر يمثل هيمنة الإسلام على القارات الثلاث.
ورفع السيف (الموضوع على جانب المنبر)، أثناء الخطبة تقليد قديم يعود إلى السلطان محمد الثاني، قبل فتحه القسطنطينية (إسطنبول)، عندما كانت إدرنة عاصمة للدولة العثمانية.
ويتعلق الأمر، بحسب وسائل إعلام تركية، بأول صلاة تقام في مكان ما، حيث يرفع الخطيب السيف باليد اليمنى في حالة الترهيب، فيما يرفعها باليسرى في حالة إعلانه السلام وبثه الاطمئنان.
وقبلها، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بقراءة ما تيسر من آيات قرآنية داخل المسجد، بعد حضوره مرتديا الكمامة.
وأظهرت لقطات بثها التلفزيون على الهواء مباشرة أردوغان الذي أشرف بنفسه على تجهيزاته قبل الافتتاح.
وتلا أردوغان سورة الفاتحة والآيات الخمس الأولى من سورة البقرة.
وفيما يلي النص الكامل لخطبة الجمعة في “آيا صوفيا”، كما نشرتها وكالة الأناضول:
بسم الله الرحمن الرحيم
اِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّٰهِ مَنْ اٰمَنَ بِاللّٰهِ وَالْيَوْمِ الْاٰخِرِ وَاَقَامَ الصَّلٰوةَ وَاٰتَى الزَّكٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ اِلَّا اللّٰهَ فَعَسٰٓى اُو۬لٰٓئِكَ اَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَد۪ينَ.
وَقَالَ رَسُولُ اللّٰهِ صَلَّي اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ.
آيَا صُوفْيَا: سِمَةُ الْفَتْحِ، وَأَمَانَةُ الْفَاتِحِ
أيُّها المسلمون الكرام! سلام الله ولطفه وعنايته، وبركة الجمعة عليكم
إننا نشهد جميعا في هذا الوقت المبارك، والمكان المقدس على لحظة تاريخية. مع اقتراب عيد الأضحى، وفي هذا اليوم الذي يصادف الثالث من شهر ذي الحجة المبارك، يلتقي جامع “آيا صوفيا” الشريف مجددا مع مصليه. اليوم انتهى الجرح العميق والحسرة في قلوب شعبنا؛ فلله الحمد والثناء.
إنّ هَذَا اليوم هو اليوم الذي تهتز فيه قبابُ “آيا صوفيا” بالتكبير والتهليل والصلوات، وترتفع من مآذنه أَصوات الآذان والذّكر. وها هي لهفة أحفاد الفاتح واشتياقهم، قد انتهت، كما صمت دار العبادة الجليل هذا قد انتهى. فمسجد آيا صوفيا الشريف يلتقي اليوم من جديد بجموع المؤمنين والموحدين.
إن هذا اليوم يذكرنا بما حدث في يوم مشابه قبل 70 عاما حيث ارتعدت السماء والأرض بتكبيرات رددها 16 مؤذنا في 16 شرفة من شرفات مآذن جامع السلطان أحمد، فصدحت المآذن بالآذان بعد انقطاع 18 عاما. فاليوم هو اليوم الذي يقف المؤمنون للصلاة ودموع الفرح تنهمر من أعينهم، يركعون بخشوع ويسجدون شاكرين لربهم.
إِن عظيم الحمد والشكر لربنا عز وجل الذي جعلنا نلتقي ونجتمع في مثلِ هذا اليوم التاريخي الفضيلِ. والصلاة والسلام على رسولنا الأَكرم صلَّى اللَّه عليه وسلَّم الّذي بشر بالفتح بقوله، “لَتُفتَحَنَّ القُسْطَنْطينيَّةُ؛ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”.
والسلام على الصَّحابة الكرام الذين خرجوا في سبِيل اللَّه طالبين نيل هذه البِشارة وفي مقدّمتهِم أبو أَيُّوب الأَنصاري رضي اللَّه عنه الذي يعتبر الباني المعنوي لإسطنبول، وعلى من اقتفى أثرهم وعلى كل شهدائنا ومحاربينا ممَّن جعلوا من الأَناضول وطَنا لنا وحماها واستأمننا عليها.
والسلام على “آق شمس الدين” صاحب العلم والحكمة الذي نقش في قلب السلطان محمد الفاتح حب الفتح، وأمّ المصلين في أول صلاة جمعة بجامع آيا صوفيا في 1 يونيو/ حزيران 1453م.
فَاِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِۜ اِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّل۪ينَ
والسلامُ على ذلك الأمير الشاب الفطن والسلطان الفاتح محمد خان الذي صنع أكثر تكنولوجيا عصره تطَورا، والذي أجرى سفنه على اليابسة، والذي تمكن بفضل اللَّه عز وجل وعنايته من فتح اسطنبول، والذي لم يسمح بعدها بأن يصيب الضرر ويلحق ولو بحجر واحد من أحجار هذه المدينة العزيزة.
والسلام أيضا على الحرفي الكبير، معمار سنان، الذي زيّن آيا صوفيا بالمآذن ومتّنه كي يبقى شامخا طوال قرون بهدف تخليد روح أجداده.
والسلام على كافة إخواننا المؤمنين في شتى أصقاع الأرض والذين انتظروا بفارغ الصبر واحتفلوا بإعادة فتح آيا صوفيا للعبادة من جديد.
والسلام على أجدادنا الأمجاد الذين كرّسوا أنفسهم من أجل إحقاق الحق والحقيقة والأخلاق والعدالة في الأرض، ووهبوا أنفسهم لطريق الخير والإنسانية. فسلام على كبار دولتنا ورجالات العلم والفكر منا وقاداتنا في المعرفة والإحسان ولكل إخوتنا ممن بذلوا الجهود بتفان ومثابرة من الماضي وحتى يومنا هذا من أجل أن تجتمع هذه الأمانة البديعة وتلتقي بجموع المصلّين.
السلام على أبناء شعبنا أصحاب العلم والفكر الذين زرعوا الأمل والصبر، وعلى روادنا أصحاب الحكمة والإحسان، تغمدهم الله بواسع رحمته، حيث وصفوا آيا صوفيا بـ “روحنا وغرفتنا المقدسة في منزلنا الخاص”، وقالوا أيضا “أيا صوفيا سيفتح بالتأكيد! انتظروا أيها الشباب! .. لننتظر نزول مزيد من الرحمة. فبعد كل هطول مطر هناك سيل. ويا ليتني كنت قشة تبن فوق ذلك السيل فماذا أريد أكثر من ذلك. سيفتح (آيا صوفيا) مثل كتاب مقدس”.
أيها المؤمنون الكرام!
بعمره الذي يمتد إلى أكثر من 15 قرنا، يعد آيا صوفيا واحدًا من بين أكثر الأماكن قيمة للعلم والحكمة والعبادة في تاريخ البشرية. هذا المعبد القديم هو تعبير رائع عن العبودية والخضوع لله رب العالمين.
إن آيا صوفيا سمة الفتح، وأمانة الفاتح. أوقف السلطان الفاتح محمد خان ذلك المكان، وجعل منه وقفا بصفته مسجدا إلى يوم القيامة، وتركه في عهدة المؤمنين. في معتقدنا، لا يمكن المساس بالأملاك الوقفية؛ ولا غنى عن شرط الطرف الذي أوقف هذه الملكية، وأن منتهكها يتعرض للعنة. ولذلك فإن آيا صوفيا منذ ذلك الوقت إلى يومنا ليس من مقدسات بلادنا فحسب؛ بل من مقدسات أمة محمد أيضا.
آيا صوفيا هو المكان الذي أعلن فيه رحمة الإسلام الشاسعة للعالم مرة أخرى. والسلطان الفاتح قال “لا تخافوا” للأهالي الذين لجأوا إلى أيا صوفيا بعد الفتح خائفين من الحكم الذي سيصدر بحقهم. وقال أيضا “من الآن فصاعدا لا تخشوا على حريتكم وعلى حياتكم! فلن يتعرض مال أحد للنهب، ولن يظلم أحد، ولن يعاقب أحد بسبب دينه”. ولهذا السبب فإن آيا صوفيا هو رمز احترام الإيمان، وأخلاق العيش المشترك.
أيها المؤمنون الأعزاء!
إِنَّ إِعَادَةَ فَتْحِ آيَا صُوفْيَا لِلْعِبَادَةِ هُوَ نَيْلُ المَكَانِ المُقَدَّسِ ظَلَّ يَحْتَضِنُ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَتِهِ مَسْجِداً لِخَمْسَةِ قُرُونٍ مِنْ الزَّمَنِ وَاِكْتِسَابُهُ لِصِفَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ.
إِنَّ إِعَادَةَ فَتْحِ آيَا صُوفْيَا أَمَامَ الْعِبَادَةِ مِنْ جَدِيدٍ هُوَ بِمَثَابَةِ تَعَلُّقٍ لِجَمِيعِ مَسَاجِدِ هَذِهِ الْأَرْضَ الْحَزِينَةِ وَالْمَظْلُومَةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى الْمُبَارَكُ وَتَشَبُّثٌ لَهَا بِالْأَمَلِ.
وَإِنَّ فَتْحَ آيَا صُوفْيَا أَمَامَ الْعِبَادَةِ هُوَ بِمَثَابَةِ اِسْتِمْرَارٍ لِحَضَارَتِنَا الَّتِي أَسَاسُهَا التَّوْحِيدُ وَلَبِنَاتُهَا الْعِلْمُ وَمِلَاطُهَا الْفَضْلُ، فِي الرُّقِيِّ وَالسُّمُوِّ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَفَاضِلُ!
إِنَّ حَضَارَتَنَا هِيَ حَضَارَةٌ تَتَمَحْوَرُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ. وَإِنَّ مَسَاجِدَنَا هِيَ مَنْبَعٌ لِوَحْدَتِنَا وَرَفَاهِنَا وَمَنْبَعٌ لِعِلْمِنَا وَمَعْرِفَتِنَا. وَإِنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ يُعْمِرُونَ الْمَسَاجِدَ وَالْجَوَامِعَ: “اِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّٰهِ مَنْ اٰمَنَ بِاللّٰهِ وَالْيَوْمِ الْاٰخِرِ وَاَقَامَ الصَّلٰوةَ وَاٰتَى الزَّكٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ اِلَّا اللّٰهَ فَعَسٰٓى اُو۬لٰٓئِكَ اَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَد۪ينَ”
إخوتي!
ما الذي يمكن أن يكون حزينا أكثر من مسجد مآذنه صامتة، ومنبره وحيد، وقببه وباحته هادئة؟ اليوم، يتعرض المسلمون في مختلف أرجاء العالم للاضطهاد بشكل مستمر بسبب الاعتداءات التي تطال مساجدهم، فيغلق أبوابها حتى تتعرض للهدم والتفجير. وهناك مئات الملايين من المسلمين يتعرضون للظلم، وهنا أود أذكر العالم مستشهدًا بالسلوك الرائع للسلطان محمد الفاتح في آيا صوفيا، وأدعو جميع البشر إلى قول “كفى” في وجه هذه الخطاب والأفعال والمظالم المعادية للإسلام.
إخوتي!
كمؤمنين يعرفون ما يعنيه آيا صوفيا من هدف عظيم وأمانة مقدسة، فواجبنا الأكبر اليوم هو العمل من أجل بسط الرحمة والتسامح والسلام والسكينة والخير في جميع أنحاء العالم. والإسلام بالأصل يعني السلام والخلاص، وهذا هو الغرض من إرسال نبي الرحمة والأنبياء الكرام.
إذن فمن واجبنا أن نعمل ليلًا ونهارًا حتى يسود الخير والحق والعدالة على هذه الأرض. أن نكون أمل خلاص البشرية التي تعاني من اليأس في دوامة المشاكل الضخمة. أن نكون ضامني العدالة في المناطق الجغرافية التي تحيط بها القسوة والظلم والدموع والعجز. أن نلبي نداء “تعلم الإسلام وافهمه بالمعنى الصحيح الجميل ثم عشه وانشر رسالته، حتى إن جاءك من يريد قتلك فيلقى الخلاص على يديك”.
نحن نؤمن بمقولة سيدنا علي رضي الله عنه “الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، ونؤمن أن الأرض بيتنا المشترك. نحن نؤمن بأن لكل شخص بغض النظر عن معتقده وعرقه ولونه، الحق في العيش بأمان وكرامة وحرية وإنسانية باعتباره فردا من أسرة هذا البيت.
تحت قبة آيا صوفيا، أدعو البشرية جمعاء إلى العدالة والسلام والرحمة والعدالة، وأحث على الحفاظ على القيم العالمية والمبادئ الأخلاقية التي تحمي كبرياء الإنسان.
وباعتباري فردا لآخر ديانة، وهو دين الحق الذي يؤكد على قدسية حياة كل روح سواء كانت أنثى أم ذكر، أو طفلا أو شابا أو مسنًا، وأدعو البشرية إلى المساعدة والتضامن للحفاظ على الحياة والدين والعقل والملكية والنسل. لأننا اليوم نحتاج أكثر من أي وقت مضى لتوحيد قلوبنا مع فطرتنا، وعقلنا مع ضميرنا، وتقريب الناس مع بعضها، ومع الطبيعة.
وفي نهاية خطبتي ومن هذا المكان المشرّف أود مناشدة العالم برمته:
أيها الناس!
كما مساجد السليمانية، والسليمية، والسلطان أحمد، والمساجد الأخرى، فإن أبواب مسجد آيا صوفيا ستكون مفتوحة لجميع عباد الله دون تمييز. وبإذن الله ستستمر رحلة الإيمان والعبادة والتاريخ والتأمل دون انقطاع في الجو الروحي لمسجد آيا صوفيا.
وفقنا الله تعالى لخدمة مسجد آيا صوفيا الذي له مكانة عظيمة في تاريخنا المجيد وقيمة استثنائية في قلوبنا. ونرجوا من الله أن يوفقنا إلى إبداء الاحترام اللازم لمسجد مهيب كمسجد آيا صوفيا.
ولكل من بذل جهدا في حماية ثقافتنا وهويتنا وبإعادة فتح آيا صوفيا للعبادة، ندعو الله بأن يلحقهم بعباده الصالحين الذين أحبهم ورضي عنهم.
يشار إلى أنه في 10 يوليوز الجاري، ألغت المحكمة الإدارية العليا التركية، قرار مجلس الوزراء الصادر في 24 نوفمبر 1934، بتحويل “آيا صوفيا” من مسجد إلى متحف.
عن موقع: فاس نيوز ميديا