عين على أزمة الماء بالمغرب، دوار أولاد يعقوب بإقليم تازة نموذجا: – السياقات و المآلات –

بقلم: الريگات عبد الغفور

لطالما اعتبر الماء ملهما للإنسان، و عاملا من ضمن عدة عوامل ساعدته على الاستقرار، بواسطة الماء و من خلاله طور أنماط إنتاجه عبر عصور التاريخ. مما جعل الماء يحظى بقدسية كبيرة لدى الإنسان، و تجلى ذلك في السرديات التاريخية لمختلف الحضارات المتوسطية القديمة. و منها حضارة مصر القديمة، و التي اعتبرها “هيرودوت” بأنها “هبة نهر النيل “؛ فلحظة الفيضان تعبر بالنسبة للفلاح المصري عن معالم الفرح و السعادة والعمل و تطويع الأرض.
ورغم التحولات الاقتصادية و الاجتماعية الكبرى والتي طبعت تاريخ الإنسانية، فالماء ظل معطى ثابت لاستمرار الإنسان على الأرض كما اعتبر محفزا له على الإبداع والابتكار، يصعب الاستغناء عنه فوجود الإنسان متسق ورهين بوجوده. (1)
لكننا نجد المغرب يشكل الاستثناء كالعادة، حيث لازال الإنسان يصارع أعداءه لتحصين حقه في الماء.وهو أمر يعكس حجم التناقضات التي تعبر عنها بنى نمط الإنتاج القائم، وبذلك فهو وضع لا يختلف عن حال باقي المجتمعات في أطراف رأس المال. إنها إشكالات عجزت الرأسمالية في مرحلة العولمة عن تجاوزها و تفكيكها؛ وذلك بشهادة مفكري الاقتصاد السياسي و منهم المفكر المصري سمير أمين والذي اعتبر في أحد مساهماته النظرية أن الرأسمالية مخترقة بتناقضات لا حل لها، و هي تناقضات تحفز دائما على تجاوزها. (2) باعتبار أنها ليست قدرا محتوما و هو ما حاول منظرو البورجوازية التسويق له، ذلك أن التاريخ حسبهم انتهى مع بروز النظام العالمي الجديد في إطار العولمة، وبروز القطبية الواحدة مطلع التسعينات من القرن 20.
وهي نظريات كشفت معطيات اليوم لاعلميتها و خاصة منذ الأزمة الاقتصادية التي عصفت ببعض دول الاتحاد الأوروبي و خاصة اليونان سنة 2008، كما اختل معها مركز رأس المال بتراجع بعض القوى الاقتصادية الكلاسيكية وبروز أخرى وكذا العودة من جديد للأقطاب و التحالفات (محور الشرق/ محور الغرب).
وإن كانت الرأسمالية ميالة للوقوع في الأزمات خلال لحظات تاريخية معينة تسهم من خلالها في تجديد شرايينها و احتكارها و العودة بوحشية أكبر سياسيا و اقتصاديا، باعتبارها نمط إنتاج منغلق. فالنظام السياسي القائم في المغرب ببنيته وطبيعته التبعية لا يمكن أن يكون خارج إطار هذا الفهم. فأزمات كثيرة لازالت حاضرة وبقوة في ما يسمى بمغرب العهد الجديد، و منها أزمة الماء.
وإذا ما افترضنا جدلا وجود أزمة مائية في المغرب :فهل نحن فعلا أمام أزمة حقيقية، أم أن الأمر يتعلق بأزمة مصطنعة و بتصفية حسابات تاريخية؟.
والتساؤل هنا ليس بدافع البحث عن إجابات سريعة و ميكانيكية تعقد الأزمة أكثر ما تسهم علميا في تفكيكها؛ بل هو محاولة للتفكير الجماعي في سبل استئصال مصدر الأزمة بشكل جذري.
ولفهم طبيعة أزمة الماء ومعها معاناة ساكنة دوار أولاد يعقوب بإقليم تازة. فلا بد من استحضار المدخل التاريخي، باعتبارها معاناة تعكس في جوهرها طبيعة العلاقة بين السلطة السياسية و سكان الهامش.
وكثيرا ما اتسمت هذه العلاقة بجدلية التمرد والعنف، كما عبر عن ذلك صاحب كتاب ” تاريخ المغرب منذ الاستقلال” بوصفه المغرب أنه امبراطورية ثيوقراطية….كانت فيه مناطق عديدة لا تؤدي البيعة ولا تدفع الضرائب إلا عن طريق الحملات العسكرية. (3)
وتوثرت هذه العلاقة بشكل كبير مع التوسع الامبريالي في المغرب، وذلك بتمرد قبائل الهامش على السلطة المركزية و خاصة فيما يتعلق بأداء الجبايات (الضرائب). وحملت هذه القبائل السلطة السياسية المسؤولية التاريخية في تسليم مفاتيح البلاد للمستعمر، وأخذت على عاتقها مسؤولية مواجهة الإمبريالية الفرنسية و الاسبانية و مواجهة عملائها من أعيان و قياد، و ذلك باعتماد أشكال مقاومة محلية، و ظهرت في خضم الأحداث عدة حركات احتجاجية كتمرد الجيلالي الزرهوني في المنطقة الممتدة من تازة إلى أقصى شرق البلاد و كذا تمرد أحمد الريسوني شمالا، ناهيك عن تمرد قبائل الرحامنة جنوبا على السلطان عبد العزيز.
و في سياق الحديث عن الانتفاضات الشعبية ، يشير أستاذ علم الاجتماع العطري عبد الرحيم لكرونولوجيا بعض الانتفاضات و منها انتفاضة الدباغين بفاس 1873 و انتفاضة الاسكافيين بمراكش 1904 و انتفاضة الدار البيضاء 1952 و انتفاضة الريف 1958 و حفزت بذلك ثنائية بلاد السيبة و بلاد المخزن.(4)
و كثيرا ما تعاطت معها الامبريالية الفرنسية و الاسبانية و كذا النظام السياسي القائم بالوحشية و ذلك عبر إنزال الجيش للشوارع و قصف الساكنة بالكيماوي ما خلف أنهارا من الدماء الطاهرة و الزكية و سقوط قوافل من الشهداء.
و قبيل الاستقلال الشكلي، ففي الوقت الذي لجأ جيش التحرير المغربي للقرى و المداشر من أجل استكمال مهامه الثورية لتصفية الاستعمار، عملت الإمبريالية الفرنسية عبر ” مفاوضات اكس ليبان ” على تعزيز التحالف بين أطراف و مكونات السلطة السياسية بالمغرب(القصر و حزب الاستقلال و حزب الشورى و الاستقلال ) من جهة، و باقي مكونات الطبقة السائدة (البورجوازية الحضرية و بقايا الإقطاع)، و وضعت الخطوط العريضة للسياسية الاستعمارية في مغرب ما بعد 1956، من أجل ديمومة هيمنتها و احتكارها لثروات البلاد.
و بإرساء ثوابت النظام السياسي القائم و التبعي، كان طبيعيا أن يسير على نهج الإمبريالية الفرنسية و الاستمرار في التقسيم الجيوسياسي للبلد (مغرب نافع/ مغرب غير نافع). و هو ما ساهم في تراكم الثروة بالمركز في يد حفنة من الأوليغارشية الحاكمة، مقابل تراكم مظاهر التفقير و التجويع و كذا القمع السياسي و الاقتصادي والاجتماعي عند عموم الجماهير سواء بالمركز أو الهامش، و اعتبر هذا التراكم المتناقض خلفية جوهرية لطبيعة الصراع بين السلطة السياسية و ساكنة الهامش و محفزا لبروز عدة حركات احتجاجية جماهيرية ( و منها على سبيل الذكر لا الحصر، معتصم ايميضر و الذي يعتبر أطول معتصم في تاريخ المغرب الحديث و كذا حراك العطش بإقليم زاگورة، ناهيك عن تمرد شمال المغرب على شركة أمانديس…).
و بدت بذلك إستراتيجية الدولة واضحة في التعاطي مع مناطق بعينها، حيث حضور منطق المحاسبة و العقاب على صمودها في وجه الاستعمار و تمردها على السلطة المركزية.و ما ساكنة دوار أولاد يعقوب إلا جزء لا يتجزأ من المجال الجغرافي المغضوب عنه.
وقد تعاطى النظام السياسي القائم بالمغرب مع كافة الحركات الجماهيرية المؤطرة بمطالب اجتماعية بحواره القمعي المعهود والذي يغطي فيه عن فشله في بيع الوهم أمام تفاقم حدة التناقضات و إيصاله رسالة واضحة للجماهير؛ فإما التعايش مع الأزمات أو الوحشية وإسقاط المزيد من الدماء الطاهرة كما وقع مع انتفاضات شعبية سابقة من 1965 إلى 1981….
ورغم ترويج الدولة لخطاب سياسي مصبوغ بالحماسة والرومانسية عبر أدواتها الإيديولوجية، مفاذه اعتماد سياسة اللاتمركز و تقريب الإدارة. إلا أن الأمر لا يتعلق طبعا باعتماد مشاريع تنموية تستهدف الهامش أو تأهيله اقتصاديا و اجتماعيا، على اعتبار أنها لا تعرفه إلا بمنطق الصدقة و توزيع قفف الذل والعار. كما لا تحضر هذه المشاريع إلا في أوراق الحملات الانتخابية والمزايدات بين الدكاكين السياسية. بل ترتبط هذه السياسة بحماية مصالح البورجوازية اللاوطنية وثرواتها المعدنية والطاقية من جهة، واستخلاص المزيد من الضرائب من سكان الهامش و ضخها في ميزانية الدولة.
والأكيد أن معاناة ساكنة دوار أولاد يعقوب من نقص الماء مستمرة مع بقاء نمط الإنتاج القائم والتبعي لمركز رأس المال، وهي معاناة يحاكيها الأديب دوستويفسكي في أحد أعماله ، ففي نظره المسيطر الحقيقي يمارس وحشيته ويتملص منها بشتى الوسائل. (5)
كما أن هذه المعاناة ليست كما تروج لها السواعد المكسورة، أمرا محتوما. وذلك بغرض إفراغ وشل الحركات الاحتجاجية من مدها التقدمي الذي يصب في تطوير حركة التحرر الوطني، و كونها تجتر نقاشا عقيما و فارغا من الدينامية الثورية و التي تشكل جوهر الماركسية.
وطبيعي أن تلجأ الدولة في لحظات تاريخية معينة إلى تسليع كافة الخدمات الاجتماعية و حتى الحيوية واعتماد سياسة التدبير المفوض. وهي إستراتيجية تتوخى من خلالها الدولة المزيد من تضييق الخناق على الجماهير الشعبية وحقها في الماء، مقابل استنزاف الفرشة المائية لتحصين ثروة البورجوازية اللاوطنية.
وخلال تفشي وباء كورونا برزت عمليا طبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي عالميا وإقليميا ومحليا، وقد حضرت الفردانية والاحتكار بدل التضامن و التكافل حتى في لحظات الصراع بين الحياة والموت. وسعت البورجوازية تحصين فائض القيمة و استنزاف قوى الإنتاج، وهي بذلك فضلت الاقتصاد على الإنسان.(6)
وفي ظل استمرار معاناة ساكنة دوار أولاد يعقوب بإقليم تازة، وغياب الإرادة السياسية الفعلية لتجاوزها، فلا سبيل أمام الجماهير وبمعية الذوات المناضلة إلا التفكير في مبادرات ميدانية، ما دامت لغة الرسائل لم تجد نفعا والمخاطب مشغول أو خارج نطاق الخدمة.
وهذه المبادرات ذات البعد التوعوي/ التحسيسي في مداها القريب، و النضالي في مداها البعيد.
و النضال الجماهيري يفرض على كافة المناضلين التقدميين في دوار أولاد يعقوب تحمل المسؤولية التاريخية من خلال استخلاص العبر من تاريخ الحركات الاحتجاجية بالمغرب (و ذلك عبر قطع الطريق على المرتزقة و الانتهازية ذات الأفق الإصلاحي الضيق و المحدود)، ناهيك عن بوصلة النضال الجماهيري الذي هو في النهاية مستوى من مستويات الصراع الطبقي و يصب في اتجاه الكفاحي الوطني التحرري؛ و سننتصر لأننا وسط الجماهير منها و إليها.
و أختم بما قاله الرفيق تشي جيفارا: « إذا فرضت على الإنسان ظروف غير إنسانية و لم يتمرد سيفقد إنسانيته شيئا فشيئا».

 

 

الهوامش

1- تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله مداح، المجمع الثقافي، طبعة 2001، ص. 135.
2- أمين سمير، ما بعد الرأسمالية المتهالكة، ترجمة فهمية شرف الدين، سناء أبو شقرا، دار الفارابي، طبعة 2003، ص. 104.
3- فيرموريين بيير، تاريخ المغرب منذ الإستقلال، ترجمة عبد الرحيم حزل، إفريقيا الشرق، طبعة 2010، ص.15.
4- عبد الرحيم العطري، الحركات الاحتجاجية بالمغرب-مؤشرات الاحتقان ومقدمات السخط الشعبي-، سلسلة دفاتر وجهة نظر (14)، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط،2008م، ص.103.
5- دوستويفسكي فيودور، الجريمة و العقاب ، الجزء الأول، ترجمة سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، طبعة 2010، ص.444.
6- المنوني عبد اللطيف، عياد محمد، «الحركة العمالية المغربية: صراعات و تحولات»، سلسلة المعرفة الإجتماعية، دار توبقال للنشر، طبعة 1985، ص.140.