“الفشل هو أول خطوة للنجاح” (L’ échec n’est qu’une clé́ vers la réussite) قول مأثور إلى جانب العديد من الإيحاءات والاقتباسات تطل علينا من نافذة المعرفة النظرية، لكن سرعان ما يبدو الوضع غير ذلك عندما تصطدم التجارب بعناد صخور الواقع، تحكمه أحيانا ظروف عصيبة وإكراهات مؤلمة وأزمات عاصفة، عندها يكتسي العالم لبوس النهاية وتصبح الحياة موضوع نكاية.
ساقت لنا أدبيات التحفيز نماذج فريدة استطاع أبطالها تطويع قساوة الظروف وتدجين المحن لتحقيق النجاح. وطبعا ليس هناك من سر سوى الإصرار والمثابرة. أبرز هذه الشخصيات الرئيس الأمريكي الراحل “أبراهام لنكولن” الملقب بمحرر العبيد وموحد الأمريكان، والذي تمكن من الوصول إلى سدة الحكم بعد مسلسل طويل من الإخفاقات الصعبة التحمل. أقيم لذكراه نصب تذكاري في قلب العاصمة واشنطن وآخر بمدينة لارامي بولاية وايومنغ الأمريكية، ولا زالت غرفته إلى اليوم معتنى بها بالطابق الأحول للبيت الأبيض، ولازالت تحمل إسمه بعد أكثر من قرن ونصف على رحيله.
وإذا كان النجاح في الحياة دائما مقترنا بالتعليم الجيد والرؤية التربوية الناجعة والمضامين المجدية المفيدة، فإن التنشئة الاجتماعية هي المفتاح الوحيد لصنع مواطن قادر على التفاعل والاندماج بسلاسة داخل المجتمع. إنها عملية تمرين ودربة على الأدوار المستقبلية للأفراد من خلال قدرتهم على تمثل العالم عبر نسق قيمي يحقق التماسك والتضامن والتوافق قوامه التنشئة عبر التعلم والتعليم والتربية. إنه تأطير لسلوكات تنطلق من الأسرة كنواة أولى وفضاء حاسم في تشكيل شخصية الطفل، تصقله المدرسة ويهذبه المجتمع. بمعنى إعداد وتهيئة شخصية الأفراد ووضعها فوق سكة ووفق نظم أقرها وحددها المجتمع تمكن من صنع مواطن سوي يؤمن بالقيم ويعمل على ترجمتها في الواقع والممارسة. إنها إكساب الفرد خصائص المجتمع عبر تبنيها والدفاع عنها والتصدي لكل محاولة لزحزحتها.
وبالرجوع إلى أمريكا، فإن منظومتها التعليمية قد بوأتها مراتب متقدمة عالميا. حيث تحتل 157 جامعة أمريكية أولى المراتب العالمية من أصل 1000 جامعة في الترتيب الدولي حسب تقرير نشرته مؤسسة QS TopUniversities السنة الماضية. ويكفي تصدر أعرق الجامعات الأمريكية للصفوف الأربعة الأولى عالميا لإدراك هذا التفوق (ففي المرتبة الأولى يأتي MIT معهد ماساشوستس للتقنية، متبوعا بجامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا، ثم جامعة هارفارد العريقة بكل من بوسطن وكامبريدج، ويقع CIT معهد كاليفورنيا للتقنية في المرتبة الرابعة).
مراتب تترجم نتيجة طبيعية لمسار طويل من التراكم والصرامة العلمية وتشجيع البحث الأكاديمي. ويكفي التذكير أن جامعة هارفارد مثلا، وهي أغنى الجامعات في العالم بميزانية تفوق 34 مليار دولار، تتوفر على أكبر مكتبة أكاديمية في العالم تقدم لقرائها ما يفوق 18 مليون كتاب ومجلد، تخرج منها 8 قادة دول وحكومات، 62 مليارديرا و 130 حائزا على جائزة نوبل.
وحتى التعليم عن بعد، فإن جامعة شيكاغو الأمريكية تعد النواة الأولى عالميا لاعتماد التدريس غير الحضوري منذ سنة 1892، وهي الطريقة التي لقيت استهجانا آنذاك من طرف العديد، بحيث رأوا فيها مسا بالقيمة التربوية وبالاعتبار الأكاديمي وبهيبة الشواهد الممنوحة. ثم خلال السبعينيات اعتمدت التلفزة والراديو والأشرطة لتطوير التعلم عن بعد، وتم نهج هذه المقاربة من قبل مؤسسات عرفت بإسم الجامعات المفتوحة. وبعد الرواج الكبير الذي عرفته وسائل الاتصال الحديثة وكذا تطور التقنية المعلوماتية، أصبح اعتماد التعليم عن بعد بديلا، وغالبا مكملا، للتعليم الاعتيادي، بمعنى مكملا لمرحلة تعليمية أو بغية حصول على كفايات أو مؤهل في ميدان ما، و هو ما شكل أساس جدوى وأهمية هذه المقاربة.
وفي زمن الوباء، عاد التعليم عن بعد إلى الواجهة وأصبح موضوع نقاش عريض كآلية ضمن التدابير التي اعتمدتها الدول لمواجهة تداعيات العدوى. ولو أنه يعد مطلبا للعديد من الحساسيات منذ مدة في بلدنا. وإذا كانت هذه الآلية تندرج ضمن الحلول الاستثنائية في ظروف لا تقل استثناء، فإن الكثير لا يخفون تخوفهم من أثر التعليم عن بعد على جودة التلقين والمعرفة لدى أبنائهم، وهي حقيقة تشكل موضوع إجماع عام. ويتضاعف هذا الهاجس عند أولياء التلاميذ خصوصا في مراحل التعليم الأولي والابتدائي، باعتباره فترة حاسمة في تشكيل شخصية الطفل وتنشئته عبر تأطيره عن قرب وكذا ارتباطه بفضاء القسم وشخص المعلم. وهو ما دفع السلطات التربوية إلى الإعلان عن إرادتها في استثمار وتطوير وتجويد تجربة التعلم عن بعد، عبر مأسستها من خلال اعتماد مرسوم ينظمها، ولو أن القانون الإطار المنظم للتعليم في المغرب سبق أن شدد على ضرورة تنمية وتطوير التعليم عن بعد باعتباره مكملا للتعليم الحضوري.
ومهما اختلفت الآراء، في ظرف يصعب الحديث عن القرار الأمثل، بين مؤيد ورافض للخيارات الأربع: البعدي والحضوري والسنة البيضاء وتأجيل الدخول المدرسي، فإنه يحسب للوزارة تأمين الحق الأساسي في التعلم كيفما كانت الظروف، ويحسب لها أيضا، في زمن يصعب فيه الحساب، إعمال المقاربة المجالية في اختيار النمط التربوي الملائم من خلال تخويل السلطات التربوية الإقليمية والجهوية الصلاحيات الكاملة للحسم في السيناريو الملائم والذي يستحضر الوضعية الوبائية والخصوصيات المجالية والتربوية.
خيارات صعبة في زمن صعب تجاذبت فيه الأولويات: الصحة والتعليم. وكيفما كان الاختيار، فإنه لا يمكن أن يحظى بالإجماع والقبول. زاد من تعقيده هوس الوباء ممزوجا بهاجس التربية. ويبقى الأهم مادامت الخيارات بعيدة عن التطابق، هو أي مضمون وأي تتبع وأي آلية لإنجاح التلقين والتدريس في كلا الخيارين؟ وهذا ما يحيلنا على السؤال الجوهري: فإذا كان التعليم عن بعد يعتبر اختيارا اضطراريا في زمن الاستثناء، بغض النظر عن جوانب النقص فيه، فإن بعد التعليم هو السيناريو الأخطر. وهذا ما وجب الانتباه إليه والعمل على تلافيه.
ردد أحدهم :”اخترت صحيحا فظهر الغلط في الاختيار” وردد آخر: “أقسي اختيار يواجهه الإنسان هو أن يختار بين أمرين كلاهما حق”. وعلق وليام فوستر مبتكر نظام المدرسة في العالم قائلا: “الجودة لا تأتي صدفة أبدا، إنها نتاج نوايا حسنة وجهد صادق وتوجيه ذكي وإخراج متمرس. فهي الاختيار الحكيم لبدائل عديدة”. فأسوأ سلب لحرية الإنسان لا يكمن بحبسه في السجن ولكن في سلبه قدرته على الاختيار، كما كتب أحد الأدباء. نسأل الله حسن الاختيار وحسن العاقبة.