بقلم: الدكتور إبراهيم المعتصم
مــقـــدمة :
إن تطبيق العقوبات على الجاني عدل، لكن العفو فضيلة. فالعقوبة جزاء وضعه المشرع لردع الناس ومنعهم من ارتكاب الجرائم والمعاصي. فهي جزاء مادي يجعل المحكوم عليه يحجم عن ارتكاب الأفعال المحرمة. إلا أن هناك فرقا بين العقوبة و العقاب . أما ما يقع على الإنسان من عقوبات في الدنيا كالحبس أو السجن أو الإعدام أو الغرامة، فيقال له عقوبة وأما ما يلحقه من عذاب إلهي فهو عقاب في الآخرة. والعفو في الدنيا لا يمحو عذاب الآخرة، ولا عفو إلا عفو الله.
إن العفو في الدنيا هو من الصفات الحميدة التي يتحلى بها الإنسان الفاضل، ولا يصدر العفو إلا من نفس كبيرة راجحة العقل.
واعترفت كثير من الدول في بلاد العالم بالعفو، ونصت عليه في قوانينها الجنائية، لفتح باب التوبة والرجوع إلى الطريق السوي أمام الجاني. إننا كثيرا ما نخطئ فنفتقر إلى العفو والغفران، وإن لم نغفر لمن أخطا وأساء إلينا فلا يغفر لنا. وإن أردنا الانتقام من المخطئ، فلننتقم منه بالإحسان إليه، لأن مقابلة الإساءة بالإحسان تنزع من المخطئ البغضاء، وتتركه مندهشا فيرتد غالبا عن غيه وتنقلب بغضاؤه إلى محبة ومودة (1).
– أ – العفو من خلال القرآن الكريم :
لقد مدح الله تعالى العفو في كثير من المواضع في القران الكريم. كقوله تعالى: «و إن تعفو و تصفحوا و تغفروا فإن الله غفور رحيم (2)»: و قوله تعالى: «فمن عفا و أصلح فأجره على الله (3)» – «و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس (4) » ، و قوله تعالى : « خذ العفو و امر بالعرف و أعرض عن الجاهلين(5) » ، و قوله تعالى : « فاعف عنهم و استغفر لهم(6) ».و العفو يدخل في التقوى ، و لا يصدر إلا من المؤمن الصالح . يقول تعالى : « و أن تعفو أقرب للتقوى(7) ».
ووصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين الصادقين العافين عن الناس بقوله: «و يدرءون بالحسنة السيئة (8)» أي: يدفعون بالعمل الصالح، السيئ من الأعمال. ودعا الله إلى مقابلة المخطئين من الناس بالإحسان إليهم، لأن ذلك يدعو إلى نزع العداوة من قلوبهم وإحلال المودة مكانها. قال تعالى: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (9)».
ولما كانت النفوس تخطئ، فقد وضع الإسلام علاجا لمنعها من التمادي في غيها. فرجح العفو عن العقوبة. قال تعالى: «ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (10)». وقال كذلك: «عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير والله غفور رحيم (11)».
والإنسان يخطئ ويصيب، يحسن ويسيء. وفي ذلك يقول الله تعالى: «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها (12)». ولهذا فتح الله باب التوبة، والعفو، والمغفرة، لإزالة العداوة والبغضاء من القلوب، وجعل المذنب الجاني، يندهش أمام سماحة الدين الإسلامي الحنيف. والله تعالى يقول: «فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (13)». وقال كذلك: «ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك… (14)»
– ب – من صور العفو في السنة النبوية الشريفة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله (15)». وفي رواية أخرى: «العفو لا يزيد العبد إلا عزا، فاعفوا يعزكم الله. والتواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله. و الصدقة لا تزيد المال إلا كثرة، فتصدقوا يغـنكم الله عز وجل».
وروي أن رجلا كان يسب أبا بكر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر. فقام رسول الله (ص)، فقال أبو بكر: «أوجدت (16) علي يا رسول الله؟ فقال: نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان (17). فلم أكن لأجلس إذا وقع الشيطان (18)». وتقول عائشة (رضي الله عنها): «ما رأيت رسول الله (ص) منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله، فإذا انتهك من محارم الله شيء، كان أشدهم في ذلك غضبا، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما (19)». وحين فتحت مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خضع أهلها، وجاءوه مستسلمين.
وسألهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟». قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم … قال: «لا أجد لي ولكم إلا كمثل يوسف وإخوته: اذهبوا فأنتم الطلقاء (20)» …. وعفا عنهم وصفح، رغم ما فعلوه به، وبمن آمن معه. ولم يعاتبهم، أو يذكرهم بما حدث منهم، أو يقرعهم، أو يمن عليهم بعفوه، …
وهذا هو الصفح الجميل الذي أمره الله به. صفح وعفو بغير لوم، أو تقريع، أو عتاب.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله، إن لي قرابة: أصلهم، ويقطعوني وأحسن إليهم، ويسيئون إلي، وأحلم عليهم، ويجهلون علي. فقال صلى الله عليه وسلم: «إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملل، و لا يزال معك من الله تبارك وتعالى ظهير عليهم ما دمت على ذلك (21)». وصدق رسول الله (ص) حيث قال: «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا». (22).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إ نجــــاز :
الدكتور إبراهيم المعتصم
ـ موظف بالمراقبة المالية المحلية بنظارة الأوقاف بتزنيت.
ـ منخرط في الاتحاد العام الوطني لدكاترة الإدارات والمؤسسات العامة.
– الهــــوامــــش –
1. القانون الجنائي المغربي والشريعة الإسلامية، تطابق واختلاف. للأستاذ: حسوني قدور بن موسى. الطبعة الأولى. 1986. م. ص: 193.
2. سورة التغابن، الآية: 014.
3. سورة الحشر، الآية: 037.
4. سورة آل عمران، الآية: 134.
5. سورة الأعراف الآية: 199.
6. سورة آل عمران، الآية: 159.
7. سورة البقرة، الآية: 235.
8. سورة الرعد، الآية: 024.
9. سورة فصلت، الآية: 033.
10. سورة الشورى، الآية: 040.
11. سورة الممتحنة، الآية :007.
12. سورة الشمس، الآية: 008.
13. سورة المائدة، الآية: 041.
14. سورة غافر، الآية: 006.
15. رواه مسلم والترمذي.
16. هل غضبت علي يا رسول الله لما رددت عليه؟
17. أي: صعد الملك وحضر الشيطان.
18. رواه أبو داوود بسند صحيح. ومضمون الحديث: أن من ترك الانتصار لله، تكفل الله بأمره، ورد عنه، وحفظه، وأجزل له العطاء. وفيه: أنه لا ينبغي لنبي أن يجلس في مجلس فيه شيطان.
19. رواه الترمذي.
20. ذكره ابن كثير في: البداية والنهاية – صفة دخول صلى الله عليه وسلم مكة -4/303.
21. عن أبي هريرة – رضي الله عنه – مسلم: 2558. ومعاني مفردات الحديث، هي كالاتي: أحلم عليهم: أصفح، وأصبر، وأعفو عنهم.
يجهلون علي: يعاملونني معاملة السفهاء والحماق. ويتصرفون معي بالجفاء والغلظة.
الملل: الرماد الساخن.
ظهير: معين ومساعد.
22. عن أبي هريرة – ض – مسلم – 2588.