محسن الأكرمين.
حكايات خيالية كانت تمتلك عقولنا وقلوبنا بالتتبع، والإنصات الفعال. كنا ونحن صغار السن نطالب بمزيد من حكايات الغرابة والخروج عن منطق الواقع. بحق كنا ندمج تعلمات مدرسة الجبابرة، وننهل من النصوص القرائية لأحمد بوكماخ (أحمد والعفريت) و(طاحونة الطلاسيم) و(الرمح المسحور)، وهي أكثر التصاقا مع الوضعيات الاجتماعية التي كان تسكنها الخرافة وتتسيد التفكير.
كانت حكاية الغول، عند العمة كنزة (رحمها الله) قد مُررت لنا عبر سلسلة متتالية، كان الفصل شتاء، والليل ظلمة قاتمة، ونحن جلوس قرب شمعة فوق فانوس فخار يحمل دمعاتها المتراكمة. تصلي العمة على سيدنا محمد (ص) بالذكر، وبتلاوة خافتة، كنا لا نفقه منها أي كلمة مركبة. تنظر (رحمها الله) في عيوننا، وهي ترمي بلفظة الغول بالتفخيم وبلا ترقيق اللام. كنا نجد لكلمة الغول عدة اشقاقات رديفة في خيالنا الفطري، كنا نرتبه صديقا حميما مع (ماما غولة) و(أبو الليل). لكن العمة (رحمها الله) أفزعتنا حتى أن شعيرات رؤوسنا استوت قياما للأعلى، حين قالت : الغول مخلوق يحمل البشاعة، الغول طوله يزيد عن ثلاثة أمتار، وإذا ركب حصانه فعمامته قد تسقط من قمة علو باب منصور !!! الغول من سلالة البشر العمالقة، ولم يتحضر وبقي وفيا لبدائيته. الغول غبي ويتصرف بسذاجة ومكر. الغول يتغذى على لحم الإنسان، ويتلذذ بطعم دم الأطفال النقي. الغول لم يقدر أحد من البشر على هزمه فهو البطل الذي يظهر ويختفي، ويمارس القتل الشنيع!!!
في لحظات صمت العمة (رحمها الله) هبت ريح خفيفة، وطوحت بنور الشمعة ظلمة، بدا الصياح بيننا يعلو، وكأن الغول قد حضر للمكان ليتغذى من الأجسام الطرية بالصغر، كان الخوف يركبنا كليا حتى أن أجسادنا بدأت تحس ببعض عضات الغول العملاق. عادت الشمعة لتنير دائرة الإحاطة بالجلوس أمام العمة، وعندها عاد نوع من الأمان.
تحكي العمة (رحمها الله)، أن بحي الزيتون، وقعت حرب بين الأشباح الليلية وبين الغيلان، حرب ليلية أمست معها سماء الحي تُغير ألوانها من شدة المعركة القائمة في بلاد (الكوشة) خارج باب كبيش. فمرة تتلون السماء بالبنفسجي، فيقول البراح يا للهول لقد فازت الغيلان، وحين تصير السماء رمادية يقسم البراح أن الأشباح أنهكت الغيلان واستطاعت النيل منها، وحين عادت لون السماء زرقة عرف الجميع أن المعركة انتهت بلا غالب ولا مغلوب !!!
سألت أختي: وأين كانت الناس يتابعون أطوار المعركة؟ هنا تبسمت العمة (رحمها الله)، ورفعت يدها علوا، فكانت في الظل المنعكس من الشمعة أكثر حجما، وتماثل رأس الغول الذي قتله سيدنا علي!!! وهي تقول: لقد صعد البراح وحده عند شرافات السور، ومنه كانت تنقل مشاهد من معركة الاستنزاف، والتي انتهت بانسحاب الأشباح والغيلان، إلى موعد ليلة خسوف موالية.
تقول رحمها الله: الغيلان شريرة ولا تؤتمن قطا. الغيلان تعيش في الظلام، وتقتات من خوفه. تسكن في المستنقعات الفاسدة والنتنة الرائحة. الغيلان تعيش في كهوف (الكوشة) القديمة، وفي علية البرج الغربي لباب كبيش، وحتى أن بغلة القبور كانت لا تتعدى باب كبيش خوفا من الغيلان.
الغيلان كانت تسكن المقابر المنسية، وقد يتغذون على الجثث والموت. وقد كانت الغيلان تطلب القربان الدموي، والذبيحة المليحة حتى لا تلتهم الأطفال في الليل. الغيلان عندما تعطش تنهل شربا من دم البشر!!!
كان بيت العمة (رحمها الله)، ليس بعيدا عن بيتنا. كان الممر ضيقا بين قصب العراسي المتكاثف، في مقطع (الغياسة). كان الخوف يزيد من دقات قلوبنا، ونتساءل: كيف نصل في أمان إلى البيت دون أن تنال منا الغيلان خطفا وأكلا؟ هو الرعب الذي بات يتزايد من شدة التصورات المتلاحقة عن الغول ككائن حقيقي، وليس خرافي. هو الترهيب الذي تعلمناه بكل أريحية، ونحن في شوق إلى معرفة ما حدث للغيلان بالنهاية. هي العمة (رحمها الله)، التي تعرف مقاسات الخوف عندنا. تعرف مدى علو مسطحه ونزوله، حين فاجأتنا، بقول: خطف الغول طفلة من حي الجبابرة أمام المطحنة القديمة، فقرر رجال الحي تحدي الغول ومنازلته. أعلنوا الحرب في عقر مقام الغيلان خارج باب كبيش (داخل حفرة الكوشة) و علوية البرج الغربي. حين اتحد كل فقهاء المدينة، وحلوا بمحلة الزيتون للقضاء على الغيلان المتوحشة. حين أنيرت سلسة شرافات السور الاسماعيلي من برج باب كبيش الغربي إلى باب القزدير الشرقي. حين تم إهراق براميل من الزيوت الحارقة، وإضرام النيران في حفرة الغيلان (بالكوشة)، والفقهاء يرددون اللطيف، وتلاوة التعاويذ الواقية.
هنا استرجعنا الأمل في نهاية الغيلان بالحرق، وبتنا نتحسس أطرافنا الناجية، وقد قتلت الغيلان بالحرق شر قتلة. هنا بدت البسمة والشعور بالاطمئنان، حتى ولو أن الريح أعاد كرة إطفاء الشمعة مرة ثانية، فلن نخاف. لكن العمة تداركت حماستنا المتزايدة، وقالت: كان كل التعب الذي ناله الرجال فاشلا، فقد كانت الغيلان في وجبة دسمة في منطقة وجه عروس، ولم تكن بكهوف (الكوشة).
وحين انتهت الحكاية بلا نهاية سارة، وقررنا العودة إلى المنزل، كنا نتردد خيفة من الغيلان، لكن العمة (رحمها الله)، زودت كل واحد منا بأوراق من نبات (مخينزة) وقالت لنا: لا خوف عليكم فالغيلان لن تقترب منكم مادامت رائحة عشبة (مخينزة) ترافقكم.
هي غيلان الخرافة التي كانت تخيف الأطفال الصغار، والنساء وحتى الرجال. الآن الأطفال تبكي ليس خوفا من الغيلان ، بل تبكي لأنها تريد مشاهدة الغيلان وجها لوجه. هي الغيلان الحديثة التي نراها في السياسي الانتهازي، نراها في الاقتصادي الذي يمتص دم الشعب ولا يشبع، والزيادة في المواد الأساسية. هي الغيلان والحيتان والتماسيح الجديد الأكثر سوء، والتي أفسدت على العباد والبلاد عيش السلم الاجتماعي، و حلاوة الرفاه الموعود في النموذج التنموي.
عن موقع: فاس نيوز ميديا