اليوم، ونحن على مشارف نهاية الموسم الدراسي وقرب فترة الامتحانات الاشهادية و التي يعتبرها الجميع بمثابة استحقاق وطني بالغ الأهمية إن في حياة التلاميذ على اختلاف أوساطهم ومستوياتهم، أو على مستوى مستقبل الوطن وما يتبناه من مناهج دراسية وطرق بيداغوجية يطرح عليها دائما سؤال النجاعة والفعالية، أو بما يؤهله هذا الوطن من طاقات بشرية ستؤول إليها إن عاجلا أو آجلا العديد من مهام البلاد وشؤون العباد. قلت اطلعت على خبر محزن محبط مفاده أن محلات بيع أدوات الغش وتقنياته الالكترونية تعرف رواجا منقطع النظير هذه الأيام، إن حضوريا أو عن بعد وبالتوصيل المجاني، وضمنها طبعا، أدوات وتقنيات جديدة ستتجاوز كل المعتاد من أدوات الكشف عن الغش وضبط الغشاشين في مختلف مراكز الامتحانات؟
الغش في الامتحانات إذن، موضوع قديم جديد.. مؤرق.. بذلت وتبذل لمحاربته العديد من الجهود الجبارة والمعتبرة، لكنه كالعنقاء دائما ينبعث من الرماد ويتجدد من رحم أدوات الكشف وأساليب المحاربة وربما بعض فرق الحراسة والإدارة، فلا يموت أبدا بل يزداد ولا يختفي، ومن جميل الصدف، أن الشرفاء أيضا لا يستسلمون في التصدي له، وإن بدا بعض التصدي أحيانا كالعبث أو شكلا من أشكال التشجيع، أو على الأقل الحرص على الخروج من الزوبعة كلها سالما كفرد، ولو بغض الطرف عن الممارسين الذين هم في الأول وفي الأخير يتباهون بأنهم نجحوا في تجاوز أساليب المحاربين وتغلبوا على تقنياتهم وأبطلوا مفعولها.. ردعها ومنعها، وبالتالي أهدافها الرامية إلى محاربة الفساد القيمي والحرص على المصداقية و تكافؤ الفرص؟.
إلى هنا فكل شيء عادي، ورغم هوله فقد لا يضيف لنا أي شيء على طريق الحلول، لذا أستدعي دراسة ميدانية قيمة في الموضوع لصاحبها الدكتور “المصطفى بنان” في كتابه “قضايا تربوية ولسانية”، يتعرض فيها، إلى العديد من القضايا الأساسية والتي ينبغي أن تكون من مداخل وحوامل المعالجة، وعلى رأسها: حجم ظاهرة الغش.. أشكالها.. امتدادها.. وسائلها.. خطورتها.. موقف القانون والدين منها، وبالأخص وبالأخص تمثلات التلاميذ الممارسين لها، وحسب هذه الدراسة الميدانية التي كانت في بداية الألفية في 25 سؤال وخمسة محاور وشملت حوالي 500 تلميذ(ة)، فإن الغش من فساد القيم المستشرية في المجتمع في انتخاباته وصفقاته وإدارته وإعلامه وتجارته وفلاحته وسياحته..، من هنا السؤال الطويل العريض حول دور المدرسة، هل ينبغي لها أن تكتفي بمجرد عكس قيم المجتمع وطلي روادها بها؟، أم إصلاح هذه القيم المعطوبة والهدامة وبناء نشء على قيم صحيحة وبناءة مهما كانت غريبة في المجتمع؟.
ثانيا، الغش حسب الدراسة إذا صح ضجيج أرقامها التي قد تكون انخفضت نسبيا ولكنها لا تزال مرتفعة، حسب الدراسة الغش يمارسه في حينها الجميع (92%)، ولا يمتنع عنه إلا من رحم ربك (8%)، يمارسه الذكور (47%) والإناث (43%)، الأدبيين (43%) والعلميين (31%)، يمتد في جميع المستويات من الابتدائي (5%) إلى الاعدادي (37%) إلى الثانوي (58%)، وقد يكون من تفسيرات هذا الارتفاع ما لا نستحضره عند المعالجة مما يحدث من نمو التلميذ وسلوك المراهق الذي يتسم بالحدة والنزوع إلى الاستقلالية وفرض الذات ومخالفة المحذور أو الانتقام من ضغوط الصغر وتربية الكبار؟. هذا وقد رأت الدراسة أيضا أن (51%) من الممارسين يرون أن الغش له مردودية وينقذ من المأزق في حين أن (33%) غيرهم يرون عكسهم وبأنه يضعهم في المأزق وليس مضمون النتائج ولا تأثير له عليها؟. أما عن أهم الأسباب والتمثلات التي تدفع التلاميذ إلى الغش فأهمها كثرة المواد الدراسية وطول المقررات(45%)، ثم صعوبة بعض المواد الدراسية وقيامها على الحفظ (36%)، ثم مبرر لأن الأخرين يغشون أيضا (10،35% ) أو الغش يساهم في تحسين النتائج (7،5% )، أما ما يعتقده البعض من أن التلاميذ يغشون لأنه ليست لديهم رغبة في الاجتهاد، أو لأنهم تعودوا على الغش، أو لديهم انشغالات أخرى تمنعهم، أو لا يفهمون الدروس…، فقد حظيت بصفر نسبة أو تكاد؟.
أما المواد التي يغش فيها التلاميذ بكثرة فقد جاءت على رأسها مادة الاجتماعيات (37%)، ثم الإنجليزية (21%)، و الفرنسية (15%) ، فالرياضيات (12%)، فالتربية الإسلامية (5%)، ومن التلاميذ من يعتمد على الغش اعتمادا كليا (38%)، أو اعتمادا متوسطا تكميليا (62%)وهو الغالب، كما أن للغشاشين موقف شرعي من غشهم إذ أن (17%) يرونه فعلا عاديا، بينما (36%) يرونه فعلا ضروريا، و (47%) منهم يرون أنه فعل حرام، منهم (52%) علمي و (44%) أدبي، و(49%) ذكور و (46%) إناث؟. خلاصة القول، أن الغش يبقى من الفساد القيمي والأخلاقي يخرم مروءة الفرد وينخر صلاح المجتمع، وهو من المدرسة يبدأ ومنها يمكن خنقه واستئصال جذوره، وكل العاملين على ذلك جنود مجندة في مشروع مجتمعي فيه من العدالة والاستقامة ويكفيهم فيه شرفا – كما يقولون – أنهم قد ينقذون آلاف المرضى الذين قد يكونون ضحايا طبيب غشاش، ومئات المباني التي قد تتهاوي مخلفة آلاف الضحايا جراء تصميم مهندس غير كفئ، وهم قدوات للنشء في الصلاح والإصلاح، يرافعون من أجل ارتفاق إداري يليق بالمواطن دون ابتزاز ولا وساطة أو بهدلة، وهم من سيعيدون للوظيفة مبدأها “الرجل المناسب في المكان المناسب” وفق القدرات والكفاءات بدل الأنساب والولاءات، وهم ضد مشاريع اللصوصية والوصولية والتسلق والانتهازية والريع وهدر المال العام، بما سيعطي للحياة معنى الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة وفق مبدئها الحضاري الخالد :”من جد وجد ومن زرع حصد” أو”من بطأ به عمله لا يسرع به نسبه”، إنها حياة الضمير المرتاح والسلوك العدل السوي سواء في الدنيا أو عند لقاء الله.؟
والآن، من باب المعالجة هل نستطيع الاستفادة من مثل هذه الدراسة وغيرها؟، هل نستطيع الاستفادة من هذه الأرقام وتحيينها؟، هل نستطيع محاربة الظاهرة محاربة مجتمعية شمولية لا تجزيئية؟، هل نستطيع فعلا إعادة النظر في أدوار المدرسة وفي برامجها ومناهجها واختياراتها البيداغوجية ومشاريعها القيمية، إلى أي حد نستطيع تجديد أساليب التقييم والتقويم وجعلها ترتبط بالتفكير والتحليل والتركيب والتفكيك بدل مجرد.. ومجرد؟، وقبلها وبعدها هل نستطيع ربط حاضر دراستنا بمستقبل وظائفنا حتى يكون للغش معنى عند تجنبه أو الاقدام عليه؟، هل نستطيع تحفيز لجن المراقبة على يقظة وحزم أكثر وضمان سلامتها في ذلك حتى نقضي على مقولة البعض “الآخرون يغشون أيضا”؟، هل نستطيع الاشتغال على هذا التلميذ نفسيا وتحضيريا أسريا ومهاريا ؟، هل نستطيع مواكبة تطور تكنولوجيا الغش التي تتغلغل بها كل الأسواق والمواقع؟، هل نستطيع تقوية زجرنا القانوني وبالأخص الحزم في تطبيقه وتعميم تطبيقه على الجميع؟،
وأخيرا، هل نستطيع تقوية وازعنا الديني لأنه من غرائب هذه الدراسة كما يشير إلى ذلك صاحبها أن (92%) من التلاميذ يغشون وحوالي النصف منهم (47%) يرون أن ذلك حرام في حرام، فكيف يمكننا الرقي بهذه القيمة الروحية الثرية من مجر اعتقاد لائكي بارد منفصل عن الحياة إلى سلوك عملي في صلبها فردي وجماعي أسري ومجتمعي؟. وكذلك لمن يرون أن الغش ضروري وعادي ومما انطلى به الجميع وأصبح لهم من الحقوق المكتسبة، هل فعلا هو ضرورة وحق مكتسب؟، كيف يكون مكتسبا وكل القوانين تعاقب عليه؟، وهل هو ضرورة إيجابية أم سلبية؟، من الضرورات التي تبيح المحظورات (الغش) أم مجرد سلوك تبريري وضعف إيماني وانهزام سلوكي للتطبيع مع الرذيلة والانتهازية والوصولية في زمن الفردانية والاتكالية والأنانية، وأعتقد مع الكثيرين أنه كذلك قطعة من النار وخرق في السفينة الجماعية، من الحكم الشرعي والقانوني ومن المواطنة والمصلحة الفردية والعامة أن ندعها ونحاربها بما يلزم وما يفيد من يفعلها ولا يدعها، على حد قولهم فمن لم يطفئ النار في بيت جاره أحرقت بيته، بل ربما حيه وطنه وأمته؟.
بقلم : الحبيب عكي لفاس نيوز ميديا