المغرب – على عكس أدواره الحمائية والخدماتية المعتادة، يطرح اليوم وبقوة سؤال المجتمع المدني ومدى مساهمته الفعلية في التنمية المستدامة والسياسات العمومية ومدى مشاركته في وضعها وأجرأتها.. مواكبتها.. تقييمها و تطويرها كما تتطلب ذلك أدواره الدستورية، وفي ذلك رهان انتقال هذا المجتمع من مجرد خطاب الانتقاد والتحريض والصدام أحيانا، إلى سلوك التعاون على الممارسة الإصلاحية والواقعية، ليس برؤيته السياسية وقوته الاقتراحية فحسب، بل أيضا بالتعاون بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية والشراكة بينهما في مشاريع تنموية تساهم عمليا وميدانيا في التخفيف من أزمات وطنية وحل معضلات تنموية، رغم إكراه بعض القوانين والمراسيم التنظيمية؟.
ولعل من المجالات التي تستوعب هذا التعاون المتعدد الأوجه والمختلف الأطراف والحساسيات وتحتاج إلى جهود الجميع كل من مكانه وبإمكانه، مجال قضايا البيئة وكيفية الحد من تداعيات تغيراتها المناخية العالمية الخطيرة على الجميع على أساس من الإلتقائية المواطنة والمصلحة العامة والهموم المشتركة، من الاحتباس الحراري.. تلوث الماء والهواء.. استنزاف الطاقات الأحفورية.. الجفاف والفيضانات.. الحروب المدمرة والعابرة للقارات.. وقد أصبح هذا من اهتمام الكل، ويلقى من النضال المدني الكوني الشيء الكثير، بل أوصل بعض الهيئات البيئية ك”الخضر” في ألمانيا إلى مراكز القرار والتأثير فيه عبر تشكيل التحالفات والحكومات ومجموعات الضغط لفرض برامج وتوجهات؟.
واليوم، إذا أخذنا معضلة الماء مثلا، نذرتها.. تخزينها.. تدبيرها.. تلوثها.. معالجتها.. تعدينها.. تكلفتها.. تسويقها وتعميمها.. عدالتها.. تعبئة مواردها ودوامها.. كل هذا جعل منها قضية دولية و وطنية تتطلب تضافر جهود كل الفاعلين.. مسؤولين حكوميين وفاعلين مدنيين ومواطنين غيورين من أجل الحد أو – على الأقل – التخفيف من تداعيات هذه الأزمة المعضلة.. المزمنة والمستفحلة. فإذا صح ضجيج الأرقام حولها فإن منظمة الصحة العالمية والأغذية والزراعة الأممية تقول أن حوالي 40% من سكان العالم يعانون من ندرة هذه المادة الحيوية، و 70% من كوارث العالم أصلها من الماء والفيضانات، وحوالي 2 مليار من سكان العالم يعانون من سوء الخدمات المائية، و3،5 مليون يموتون سنويا بسبب تلوث الماء ضمنهم 26 ألف طفل يوميا، و 80% من الأمراض تسببها هذه المياه الملوثة وغير الصالحة للشرب؟.
و وطنيا، تؤكد الدراسات ان مخزون الماء سينخفض ب 50% في أفق 2050، بل انخفض المعدل الوطني الفردي من استعمال الماء عما كان عليه من 1000 م3 إلى مجرد 650 م3، والفلاحة وحدها تستهلك من الثروة المائية الوطنية إلى نسبة 85%، بينما المواطن مجرد 3% وبتكلفة حوالي 20% من دخله الفردي، هذا وبلغ الجفاف نسبة 64% مما كان عليه يعني من انخفاض التساقطات، ومعدل ملىء السدود الوطنية لا يتعدى 37%، وكل هذا يسبب مجموعة من الأخطار من بينها الجفاف وقلة التساقطات.. ارتفاع تكلفة الاستهلاك.. الاختلالات الايكولوجية والاضطرابات الاجتماعية.. الهجرة القسرية.. مقابل استنزاف الفرشة المائية من طرف كبار المستهلكين.. وبعض الزراعات المستوردة أو المستوطنة.. غياب العدالة المائية في التوفير والتوزيع.. ضياع مياه التساقطات رغم السدود.. ضعف المعالجة( 250مليون م3/500 مليون م3) بل ضعف حتى استعمال المعالج منها إذ لا يتعدى (30%)؟.
هذه الأرقام الصادمة تطوق عنق الجميع وتستنفره لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن كجمعيات المجتمع المدني وفاعلين مدنيين فيها ماذا يمكن أن نفعل وبماذا يمكن أن نساهم وكيف يمكن أن نقارب هذا الموضوع الإشكال؟، هنا سأورد بعض ما سعت وتسعى إليه بعض الهيئات المدنية الرائدة في المجال المدني عامة والمجال البيئي والمائي خاصة:
- تنظيم ندوة علمية فكرية من طرف المتخصصين والدارسين والمهتمين لإدراك حقيقة الإشكال في الموضوع وحجمه وامتداده وأسبابه.. أخطاره ومقترحات حلوله، انطلاقا من فرش إحصائي دقيق معتمد ومحين. ثم إعداد مذكرة ترافعية في الموضوع بناء على توصيات الندوة أو ورشات يوم دراسي موسع، على اعتبار أن الإشكال المائي مرتبط بالأساس وفي كثير من جوانبه بالمواطن، نعم، ولكن كذلك بالسياسات العمومية والحكامة ويحتاج الأمر إلى حلول ومقترحات.
- تنظيم حملة رقمية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي مع الممكن من الفاعلين والشركاء، وبالمتاح من الوسائط كبسولات.. ملصقات.. توجيهات تدوينات ونداءات تدعو إلى الوعي اللازم بندرة الماء وضرورة ترشيد استعماله وحسن استهلاكه. وفي نفس الوقت دعوة الممكن من هيئات المجتمع المدني ومؤسسات التنشئة الاجتماعية والفاعلين للانخراط في الحملة والتربية البيئية والمائية عموما.. كتاب.. خطباء.. فنانين.. تشكيليين.. مؤسسات تعليمية.. جمعيات تربوية.. مخيمات صيفية.. من أجل مؤسسات إيكولوجية وصديقة للطفل واليافع والشاب والبيئة.
- دعم الحركة الجمعوية في انخراطها في مجالس تدبير وكالات الأحواض المائية، برامج ومبادرات مداولات ومقررات، وكذاك في تعاطيها مع التدبير المائي الميداني خاصة في العالم القروي والأرياف التي تعز فيها خدمات الدولة وتتكسر على صخرتها برامج الحكومات، وقد لا يقوم مقامها ولو نسبيا غير ما دأب عليه المجتمع المدني من تأسيس جمعيات وتعاونيات لتدبير ماء الأحياء وتطهيره وتوزيعه، وحفر الآبار وصيانة العيون، وبناء وتنظيف السواقي وتشجير ضفافها، وحملات تحسيس الساكنة والنشء بكل ما تتعرض له نعمة الماء وثروته سلبا وإيجابا، وكل ما يلزم لحسن تدبيره وترشيد استعماله.
- الاشتغال على مدى متوسط على الأقل في ائتلاف جمعوي بيئي يهتم بالموضوع ويتابع الاشتغال عليه بكافة الطرق المشروعة.. المتاحة والممكنة.. ترافع ضد من يسببون في الاضطرابات المناخية سياسات وسلوكات.. ضد كبار المستهلكين الجشعين في مختلف المجالات.. ضد الزراعات المستنزفة للفرشة المائية.. والترافع كذلك من أجل كل ما سيساهم في تبني التقنيات المعاصر لاقتصاد الماء كالطرق السيارة للماء والتحلية والمعالجة والتخزين وصيد السحاب..، وغير ذلك مما ما سياهم في توفير العدالة والأمن المائي للجميع، حسب المناطق الجغرافية والظروف المناخية.
- و كل ذلك، باستدعاء ثقافة الماء في التاريخ الوطني والتراث الحضاري الإسلامي المبدع، وما يزخر به من تنمية الوازع الديني والجمالي في التعامل مع الماء، وتوسيع مفهوم التدين ليشمله عقيدة سلوكا وعبادة وهو في كل أصولها وفروعها، وهو نعمة من الله تستوجب الشكر بالحمد والترشيد: ” وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين” الأعراف/31، وتستوجب التوفير والتعبئة بالتشارك و”الأسبلة” يعني صدقة جارية في سبيل الله: “الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ “صححه الألباني، وفي الحديث: “خير الصدقة سقي الماء”، وقبل ذلك وبعده التزام الطاعات وتجنب المعاصي لاستدامته خيرات وبركات من رب السماء، عذبا فراتا برحمته لا ملحا أجاجا بذنوبنا، قال تعالى: “وقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا” وقال (ص): “ما منع قوم زكاة أموالهم إلا ومنعوا القطر من السماء” رواه ابن ماجة؟.
بقلم : الحبيب عكي
المصدر : فاس نيوز ميديا