الواقعية والاغتراب في الرواية الفلسطينية
الكبير الداديسي/ المغرب
لا يمكن الغوص في مقاربة الواقعية والاغتراب في الرواية الفلسطينية دون الوقوف حول مفاهيم تعد مدخلا أساسيا للموضوع. فما المقصود بالواقعية؟ وما المراد بالاغتراب؟ وماذا نقصد بالرواية الفلسطينية؟ أهي ما كتبه الفلسطينيون حتى وإن كان موضوعها بعيدا عن القضية أم هي كل رواية موضوعها القضية وإن كتبها غير الفلسطينيين؟ وَسْمُ الرواية بالفلسطينية أهو بحسب هوية الكاتب أم بحسب هوية المكتوب؟
1 – الواقعية كحركة فكرية واعية قامت على أنقاض الرومانسية كدعوة إلى فتح العيون على الواقع والتركيز على ما يجري هنا والآن عكس الرومانسية القائمة على الهروب من الواقع والحلم بقيم ومثل مطلقة يعسر تطبيقها على أرض الواقع، مع ذلك لم يحتدم الصراع بين الرومانسية والواقعية مثلما احتدم بين الرومانسية والكلاسيكية….
مع الواقعية بدأت تميل كفة السرد (قصة ورواية) على حساب كفة الشعر… كانت البداية في فرنسا مع فلوبير وبلزاك الذي جمع 150 قصة في الكوميديا البشرية.. وستتطور الواقعية بعد نجاح الثورة البلشفية كما تجلى في أعمال مكسيم غوركي وتولستوي ودوستويفسكي …
عربيا الرواية الواقعية بدأت مع جيل نجيب محفوظ و توفيق الحكيم و يحيى حقي .. وربما ساد الاعتقاد أن الرواية إبداع لا يمكن أن يكون إلا واقعيا ومهما أوغل في تخوم الخيال والتخييل سيظل يحافظ على مصداقيته بملامسة الواقع… وحتى الاغتراب ليس سوى انعكاسا لواقع، بل قد لا يكون التغريب في الشخصية الروائية إلا للرفع من مستوى الواقعية في العمل الروائي، ما دام كل شخصية أو شخص يتصارع بداخله ثنائيات الكرم/البخل التواضع/ العجرفة الرصانة/ التهور الفجور/العفة الصحة/الإعاقة الاجتهاد/الكسل… الروائي يسعى إلى تسريب تلك التناقضات عبر مخلوقات سردية متعددة متسقة بتغليب كل صفة في شخصية حتى يوهم القارئ بواقعية الأحداث.
2 – الاغتراب تعددت تعاريفه يقول كارل ماركس ” إنّ ظروف العمل القاسية التي أوجدتها المجتمعات الرأسماليّة، ينتج عنها اغتراب العامل، وذلك من خلال حرمانه من الإمكانيّات والفرص الكافية في سبيل تحقيق الرفاهية الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي يسعى لتحقيقها، ويعتبر العامل شخصاً مغترباً عن وسائل الإنتاج طالما أنّه لا يستطيع الوصول إلى السعادة والقناعة في عمله؛ لأنّه لا يستطيع جني ثمرة جهوده وتعبه، فهو بهذا يحقّق معنى الاغتراب عن الطبيعة الحقيقيّة للإنسان”
ويعدد العالم (إيرك فروم) في كتابه (المجتمع السليم)، صفات الاغتراب بطريقة لا تبتعد كثيرا عما أورده ماركس، حيث إنّ الاغتراب بالنسبة لفروم هي تلك الحالة التي لا يشعر بها الفرد بأنّه المالك الفعليّ لطاقته وثروته، بل يشعر بأنّه كائنٌ ضعيف يستند كيانه الوجودي على توفر قوى خارجيّة أخرى لا تمت بأيّ صلةٍ لذاته. كما يذهب هايديجر إلى اعتبار ” الغرابة هي ذلك الحيز المكاني الفارغ الناتج عن فقدان الإيمان بالصورة المقدسة”.
ومن كل ذلك وغيره يتضح أن الغربة والاغتراب مرتبطان بالتمزق وبالمعاناة، وبالتباين الشاسع بين ما يغلي في عمق الذات وما يدور على أرض الواقع، وكأن كل هؤلاء المنظرين يقصدون في تعريفهم للغربة والاغتراب البطل الروائي الفلسطيني: غربةٌ خارجية تفقده كل روابط الانتماء للجماعة سواء كانت أسرة أو قبيلة أو مدرسة، أو مجتمع… واغترابٌ داخلي يضفي على الذات شعورا وبالانوميا فلا يرى في ذاته إلا شاذا خارجا عن العرف وعن المعروف المتعارف عليه، وإن كانت مثل هذه الأحاسيس تولد لدى الشخص في العادة إحساسا باللامعيارية والتفكير الدائم في حالته البئيسة والانفصال الجذري عن كل ما يحيط به، وقد تؤدي به إلى الانسحاب أو الاعتزال أو الانتحار… فإنها لم تزد البطل الفلسطيني روائيا إلا الإيمان بالنضال سبيلا لتحقيق الذات، خاصة بعد أزمة الخليج وثورات الربيع العربي التي خلخلت التوازن والقيم وصار من الصعب التمييز بين الوطني والخائن، بين العدو والصديق، وبين الغريب والشقيق… مما قوى الإحساس بالاغتراب… وشعور الفلسطيني كما قال روسو معبرا عن إحساسه بالغربة: “كل ما هو خارج عني فهو غريب لم يبق لي في هذا العالم قريب، ولا نظراء، ولا إخوة أنا على هذه الأرض كما لو سقطت على سطح كوكب سيار غريب… وإذا كنت أعرف حولي بعض الأشياء فما هي إلا أمور محزنة لقلبي ممزقة له”
إن الاغتراب مرتبط بالصراع الداخلي، وصراع الفرد مع أبعاد وجوده، وهي أبعاد لها ثلاثة تمثلات:
1 – بعد ذاتي حسّي: الصراع فيه مع قوى اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة ويشعر الفرد أمامها أنّه ضعيف مسلوب الذات
2 – بعد جغرافي إقليمي: يشعر فيه الشخص وحيدا غريبا في بعده الإقليمي وقد تخلى عنه الأشقاء
3- بعد ميتافيزيقي: الغربة في الواقع تجعل الفرد يتجه إلى عالم الماورائيّات ففقدُ الثقة في الحاضر والمستقبل تحتم عليه التعلق بالماضي الذي لن يعود وبرموز وشعارات دينية ميتافيزيقية ” ومن هنا يبدأ اغترابه بشكلٍ كلّي عن جميع محيطه ووجوده.”
كل هذا المعطيات وغيرها لن تعكس إلا تنوعا في غربة واغتراب أبطال الرواية الفلسطينية منذ بداياتها الأولى خاصة وأن منطقة الشام كانت السباقة لتفجير عين الرواية العربية مع جيل جرجي زيدان فكانت عودته للتاريخ تعبيرا عن اغتراب فرض عليه الهروب مما يقع في واقعه والعودة إلى التاريخ، وتكرس الشعور بالاغتراب خلال فترة الانتداب البريطاني إذ كان الروائي الفلسطيني يستشعر الخطر قبل وقوعه كما تجلى في روايات نجيب نصار (مؤسس جريدة الكرمل 1908 توفي 1948م) وخاصة رواية “في ذمة العرب” و”وفاء العرب”. وروايات محمد عزة دروزة (1887-1984) ومنها روايته “وفود النعمان على كسرى أنو شروان”، طبعها في بيروت سنة 1911، وألحقها بعد عامين برواية “السمسار وبائع الأرض”
وحتى وإن حتمت النكبة والنكسة والانتفاضة على الرواية الفلسطينية ألا تكون إلا واقعية فكانت روايات غسان كنفاني أكثر جرأة في تصوير واقع القضية كما تجلى في روايات “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا” والمجموعة القصصية “أرض البرتقال الحزين” وغيرها من أعماله السردية ، وعلى نفس النهج الواقعي سارت سحر خليفة في رواياتها الأحد عشر في رصد واقع المرأة الفلسطينية… فإن الاغتراب ظل محتشما ما دامت الرواية الفلسطينية وقتئذ كان هدفها رصد الواقع كما هو بجوانبه المشرقة أو المكسوفة فحضر في الرواية الفلسطينية صورة البطل (الموجب) المقاوم المدافع عن أرضه وشرفه بكل ما أوتي من قوة والمستعد لتقديم الذات فداء للوطن سواء كان يساريا أو بطلا يمينيا (إسلاميا) كما في رواية “ستائر العتمة” لوليد الهودلي، فحتى وإن نقل الصراع من الحاضر إلى الماضي بعد شعور البطل بتآمر الآخرين عليه “وكأنهم زعماء بني قريظة والنضير ، وقينقاع، عندما كانوا يجتمعون للتآمر على الدعوة الإسلامية” فقد ظل البطل رمز للصمود ، صمود لا يوازيه إلا صمود بلال أمام غطرسة كفار قريش يقول: ” ليتهم يعودون للأسلوب القديم.. لقد اشتقت لتجسيد بطولة بلال، أريد أن أضع نفسي على المحك…” وهو تحت التعذيب يستحضر صورة بلال والصخرة على صدره في لهيب الصحراء، وكلما مرت تلك الصورة في مخيلته استصغر عذابه. كما حضرت صورة البطل (السالب) الانتهازي الخائن لوطنه ولقضيته المستلب الذي لا هم له سوى مصالحه الشخصية الضيقة وإن كانت أغلب هذه النماذج شخصيات نامية تتطور لتعود في نهاية الرواية للإيمان بالقضية مثلما تجسد في رواية “زمن دحموس الأغبر” لغريب عسقلاني
لقد هيمنت الواقعية على الرواية الفلسطينية، لكن انطلاق مسلسل أوسلو وتفجير أزمة الخليج واندلاع ثورات الربيع العربي عمق اغتراب أبطال الرواية الفلسطينية، فأضيف إلى اغتراب الفلسطيني في الأراضي المحتلة اغتراب الفلسطيني العائد، والذي طالما حلم بالعودة، واعتقد أن مسار السلام سيحقق له ما ظل يحلم به، لكن العودة إلى وطن غير مكتمل كرس الإحساس بالاغتراب أكثر مما كان ببلاد الغربة…
ففي رواية ” نهر يستحم في البحيرة” ليحيى خلف عاد بطل الرواية إلى الجزء المحرر من الوطن بعد غياب دام سبعة وعشرين عاماً، مفعما بالأمل وهو يعبر إلى أريحا عبر الجسر الخشبي قادماً من الأردن، ويكبر الحلم وهو يمضي إلى غزة، ويتحقق الهدف وهو يرى أعلام الاستقلال المرفرفة تتداخل مع شعارات الانتفاضة التي لم يمض وقت طويل على انقضائها. ثم ينطلق في رحلة العودة التي انتظرها طويلاً، العودة إلى سمخ، ليسكنه الاغتراب وهو يستيقظ على وطن مثخن بالجراح ويقف على تغير ملامح الأمكنة التي أكلتها الجرافات وشوهتها البنايات الإسمنتية، لتلبسه مشاعر الخيبة والضياع، فيشعر بالوحدة والرغبة في البكاء وبغربة أشد من غربة المنفى. وهي نفس المشاعر التي سكنت غيره من الأبطال العائدين مثل رياض في رواية “ليالي الأشهر القمرية” لغريب عسقلاني وبطل رواية “جواد ” لزيد أبو العلا وغيرها من الروايات التي ترصد تفاصيل معاناة العائدين بعد مفاوضات مدريد واتفاق أوسلو. وفي رواية “آخر القرن” لأحمد رفيق عوض اغتراب من نوع آخر حين يحول البطل من معتقل إلى مفاوض في رمشة عين، من خلال شخصية محمود السلوادي بطل الرواية الذي ما كاد يقضي في سجون الاحتلال سنوات قليلة حتى يجد نفسه يجلس على نفس الطاولة مع المحتل، كان قد اعتقل سنة 1988 وأطلق سراحه لينضم إلى قائمة المفاوضين بشؤون اللاجئين مع انطلاق مسلسل مدريد للسلام ، لتصور الرواية اغتراب البطل محمود وهو يفاوض حاييم شلومو من خلال ما يعترك بداخله من إحساس بتفوق الآخر معرفيا وشعوره كأنه أمام محقق يعرف عنه كل شيء، وأمام مفاوض خلفه قوة موحدة في حين كلما التفت تراءى له تشتت أخوته خلفه مما كان يكرس شعوره بالفشل في مهمته التفاوضية….
وإلى جانب اغتراب فلسطيني الداخل فإن الطرد والتهجير والاعتقال والمعاناة عمق غربة واغتراب البطل الروائي الفلسطيني عندما وجد الروائي الفلسطيني نفسه يكتب مبعدا عن الوطن مثلما كان في تجربة جبرا إبراهيم جبرا وهو يكتب من العراق، وإبراهيم نصر الله، ويحيى يخلف من الأردن، نصر الدين النشاشيبي من مصر ، سوزان أبو الهوى من الولايات المتحدة الأمريكية وكانت روايتها (بينما ينام العالم) الرواية الأكثر مبيعا سنة 2010… وغيرهم من الروائيين الفلسطينيين ممن كانوا يكتبون من خارج فلسطين…
والأكيد أن من بقي من عرب 67 يعيشون داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة لن يكون التعبير عن الغربة و الاغتراب لديهم أقل حدة مما هو عند فلسطينيي الشتات ولعل تجربة إميل حبيبي خير تعبير عن ذلك.
إن لقاء مثل هذا الذي يجمعنا اليوم في هذه الندوة وفي مثل هذه الظروف لا يتسع لسرد كل التجارب والوقوف عند كل تجليات الواقعية والاغتراب في الرواية الفلسطينية ويكفي أن نختتم هذه الجلسة بإشارة سريعة لمحتوى ثلاث روايات ليعرف الجهور الكريم بعض مظاهر الاغتراب في الرواية الفلسطينية:
1 – الأولى اغتراب مثلته بطلة رواية “حفنة تراب” لنصر الدين النشاشيبي “هناء الغزاوي” التي فقدت زوجها وهما يدافعان عن أرضهما، ليترك لها ابنا (ثابت) ما كاد يصبح رجلا ويخلف بنتا وولدا حتى قتله الصهاينة، وتصبح هناء جدة همها تربية الحفيدين وتذكيرهما ببطولات والدهما، وتنتهي نهاية مأساوية بعد أن فقدت حفيدتها خديجة، واتهام الصهاينة لها بقتل فتاة يهودية ليحكم عليها بالمؤبد وتصاب بالجنون في السجن… وربما لا يجود اغتراب أقسى من مصاب بالجنون داخل سجن الاحتلال.
2 – الثانية رواية “سنوات العذاب” لهارون هاشم رشيد وفيها يحكي قصة الطفلة (منى) ذات أربع سنوات، يتم ترحيلها مع والديها من يافا وكلما حلت الأسرة بمكان طردهم القصف إلى مكان آخر. فما كادوا يستقرون ببئر السبع عند جد “مُنى” لأمها حتى طالهم القصف من جديد لتستقر العائلة بخان يونس. التحقت منى بمدرسة تعرضت لقصف كثيف ترك عددا من القتلى ونقلت الفتاة إلى المستشفى حيث هاجمهم اليهود وقتلوا كل من بالمشفى لتنجو منى بأعجوبة ….
3 – الثالثة لروائي غير فلسطيني روائي من المغرب العربي إنه وسيني الأعرج في رواية “سوناتة لأشباح القدس” التي عبر فيها واسيني عن أزمة الفلسطيني في الغربة بجلاء من خلال حكاية بطلة الرواية “مي” التي سعت للهرب من أشباح مدينتها، فإذا بها تلاحقها في آخر عمرها، بل وتتمنى أن تعود إلى القدس حتى ولو جثة هامدة. لتعزف الرواية على كل أوتار الوجع والألم الإنساني من شرقه إلى غربه، فالبطلة هنا لا تعاني الاغتراب فحسب، بل وتعيش أسيرة مرض فتاك يقضي على حياتها وتترك ابنها في النهاية أسيرًا لاعترابه يسعى أيضًا للبحث عن أرض أجداده وآثاره هناك في فلسطين.
هذه مجرد نماذج قليلة حاولنا من خلالها مقاربة تيمة الواقعية والاغتراب في الرواية الفلسطينية، قد يستشف البعض من ثنائية واقعية/ اغتراب تقسيما زمنيا يقوم على تعاقب الهيمنة وايس تعاقب الوجود، فهيمنت الواقعية غداة النكبة والنكسة والانتفاضة على الرواية الفلسطينية، لكن انهيار المعسكر الشرقي وحرب الخليج وما تلاها من ثروات الربيع العربي كان تأثيره أكبر وأعمق، فالنكبة والنكسة والانتفاضة نتج عنها ابطال روائيين مؤمنين بالقضية وبالنضال واحتمال النصر. فقد كان العدو واضحا، والصف العربي موحد ولو ظاهريا، ولا عربي يستطيع المجاهرة بصداقة الصيهوني… لكن الهزات الأخرى (انهيار المعسكر الشرقي أزمة الخليج وثورات الربيع العربي) خلخلت كل المقاييس، وصار العدو هلاميا ، وأصبح العربي يهجم على العربي، ويحتمي بالعدو ضد الشقيق، فتقلص الاهتمام بالقضايا القومية والمشاكل الكبرى، فلم تجد الرواية العربية والفلسطينية جزء منها إلا نقل الصراع من الواقع إلى أعماق الذات لتغرق الشخصيات في الاغتراب أكثر… بعد أن أضحى الفلسطينيون –الذين كان مرحب بهم- مضطهدون حتى في الدول العربية التي كانت تؤمن لهم حدا أدنى من الاستقرار كما (العراق، الكويت، ليبيا، اليمن، سوريا، الجزائر…) فصار الاغتراب أكثر هيمنة في الرواية العربية دون أن تنفي تلك الهيمنة حضور الواقعية …
عن موقع: فاس نيوز ميديا