حوار ثقافي مع الكاتبة والروائية الفلسطينية هناء عبيد حاورها د.فاطمة الديبي/ ذ.نصر سيوب

س_ من تكون كون هناء عبيد (المولد، النشأة، الدراسة، الشواهد العلمية، المؤثرات الكبرى في حياتك، النتاح الأدبي)؟
ج_ هناء عبيد من مواليد القدس فلسطين، نشأت في الأردن، ودرست فيها المرحلة الابتدائية، ثم انتقلت للعيش في السّعودية مع أسرتي ودرست فيها حتّى المرحلة الثّانوية، ثمّ عدت للأردن وحصلت على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنيّة من الجامعة الأردنيّة، أنشأت مكتبي الهندسي بالأردن، ثم انتقلت للعيش في شيكاغو وما زلت أعيش فيها.
لست ممن يتأثرون بأحد، قد تعجبني أفكار وآراء وسيرة البعض لكنّي لا أتأثّر بأحد، حيث أجد أنّ لكلّ إنسان بصمته الخاصّة به.
نتاجي الأدبي رواية “هناك في شيكاغو” صدرت عام ٢٠٢٠
رواية منارة الموت صدرت عام ٢٠٢٢
أعمال أخرى قيد الطّبع
منها مجموعة قصصيّة
يوميّات في شيكاغو
مقالات متنوّعة
قراءات نقديّة
رواية ثالثة

س_ هل كانت هناء الطفلة تحلم أن تكون كاتبة وروائية؟
ج_ لا أظنّ ذلك
إنّما بدأ الحلم في مرحلة الشّباب، وكنت أفكّر في دراسة الصّحافة لأحقّق هوايتي ورغبتي في الكتابة، لكن وسائل التّواصل الإلكترونيّة أوجدت البديل، فبدأت بكتابة المقالات والقصص حتّى وصلت إلى الرّواية.

س_ بخصوص جذور تنشئتك الأدبية، ففي أي سياقات جاءت؟ ولماذا أوصلتك لتكوني كاتبة وروائية؟
ج_ منذ صغري وأنا أعشق القراءة، لهذا كنت أقتني القصص وأتبادلها مع صديقاتي، كما كنت أذهب إلى المكتبة العامّة بعد انتهاء المدرسة، تفوّقت باللغة العربيّة، وكان لديّ مخزون لغوي جيّد من المفردات، جعلني أتميّز في مادّة التعبير في المدرسة، هذا أثار انتباهي أنني أمتلك موهبة في الكتابة، وربّما عشقي للغّة العربية كان سبباً آخر لشروعي في الكتابة، كذلك وجودي في الغربة كان حافزاً كبيراً أيضاً.
س_ من اكتشف في دواخلك موهبة الكتابة وساعدك على ذلك؟
ج_ والدتي ووالدي رحمهما الله، إضافة إلى مجهودي الشّخصيّ.
س_ ﻫﻞ ﻟﻠﺬﻛﺮﻳﺎﺕ ﻭﺍﻟﻔﻀﺎﺀﺍﺕ ﻭﺍﻷﻣﺎﻛﻦ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺍﻟﻄﻔﻮﻟﺔ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﻋﻠﻰ كتاباتك؟ وهل لها وجود فيها؟
ج_ الطّفولة تحتلّ الجزء الأكبر من ذاكرتنا، ولها تأثيرها الأقوى على مسيرة حياتنا، لهذا بلا شكّ كان لها تأثيرها الكبير في إطلاق مخزونها عبر أعمالي الكتابيّة، فالوطن يختزن بها وذكريات الفرح والألم تختزنان بها، كذلك علاقتنا بأصدقائنا وعائلتنا والمحيط بنا تأخذ مساحتها في ذاكرتنا، كما أنّ الطّفولة هي التّجربة الأولى لنا في مواجهة هذا العالم بما فيه من خير ومن شرّ، فكيف إذن لن يكون لها تأثيرها؛ خاصّة طفولة الفلسطينيّ المهجّر قسراً الّذي وجد نفسه بعيداً عن جذوره وأرضه منذ أن وعى على الأرض؟!

س_ هل هناك وصفة خاصة للكتابة عند مبدعتنا ؟
ج_ لا يوجد وصفة خاصّة، فالمشاعر والأحاسيس والأحداث تفرض نفسها فتنصبّ تلقائيا على الورقة أو الكمبيوتر، لكن لا بدّ لي من مراعاة عدّة أمور فيها، كأن تكون ذات مغزى إنسانيّ وسليمة اللغة.
س_ هل هناك قواعد لكتابة القصة عند هناء عبيد؟
ج_ أن يكون لها هدف إنسانيّ معيّن، أن تكون لغتها سليمة ومتقنة ومتينة قدر الإمكان، وأن لا يتسرّب الملل من خلالها إلى القارئ.

س_ هل للملتقيات والصالونات الأدبية دورا في نشر وتطوير أي عمل إبداعي كيفما كان نوعه؟
ج_ الملتقيات والصّالونات الأدبيّة لها دورها الفاعل الكبير للأدباء، فهي تعطيهم الفرصة للتعرّف على أعمال غيرهم، كما تتيح لنا نحن أبناء الغربة الفرصة الأكبر للالتقاء بأدباء العالم العربي، وأعني هنا النّدوات الّتي تقام عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ، أيضاً ربّما يكون لها دورها في تطوير العمل الإبداعيّ، لكن لا أظنّ بصورة مطلقة، ذلك أن التّطوير لا يمكن أن يخلق دون مجهود المبدع الشخصيّ.

س_ هل لديك طقوس خاصة جدا أثناء الكتابة؟
ج_ لو سارت الأمور كما أريد، لاخترت غرفة هادئة مغلقة، ورافقت كتابتي بالموسيقى، لكن ظروف العمل والأسرة، تجعلني أتقن الكتابة في أيّ مكان، فأنا أكتب في السّيارة وفي الحديقة، وفي صالة التلفزيون، لو أردت أن أخضع لرغبتي بالطقوس التي أفضلها لما كتبت حرفاً.

س_ ما رأيك في التطورات التي وقعت على الأقانيم الثلاث لفن القصةالقصيرة (البداية/الوسط/النهاية ) ؟؟
ج_ العصر المتغيّر يحتاج إلى التّغيير في جلّ الأمور، لهذا لا بدّ أن يطرأ تغيير في تقنيات القّص من مرحلة إلى أخرى، لا أجد أي مشكلة في أيّ تجديد، بل هذا أمر صحّي يتماشى مع وتيرة الحياة المتبدّلة.
س_ على امتداد التاريخ الإنساني كانت الهجرة هي التعبير الشجاع عن عزم الأفراد على تجاوز الصعاب. هكذا وضعت الأمم المتحدة تعريفاً لذلك السعي الذي يضطر إليه بعض البشر في سبيل الوصول إلى الأفضل. ترى ماذا أضاف لك المهجر أستاذة هناء؟
ج_ لا شكّ أنّ الانتقال من مكان إلى آخر يضيف إلى ذخيرة معلوماتنا الكثير، ويثري تجاربنا، ويعّرفنا على العالم الآخر، وعلى منجزاته، وعلى شعوبه المختلفة بعاداته وتقاليده، كما يعزّز فينا قوّة الإرادة، ويهبنا القوّة على مواجهة الصّعاب، فأن تعيش في بلد لغته ليست لغتك، وعاداته وتقاليده لا تمتّ بصلة لك لهو أكبر تحدّ ، فهذا يحفّزك على التّأقلم في أيّ جو كنت فيه. وعنّي شخصيّاً، فقد أضافت الغربة لي نضوجاً فكريّاً من كلّ النّواحي، وأتاحت لي التعرّف على الشّعوب المختلفة بكل ما لديها من معارف وعلوم وعادات وتقاليد، خاصّة أنني أعيش في شيكاغو الّتي يوجد فيها أكثر من ١٨٠ جالية من مختلف بقاع العالم.
س_ يقول المفكر والمنظر اللبحياتهم
يشال شيحا: “بدون هجرة لا يمكننا الحياة، لكن إذا أضحت الهجرة كبيرة فيمكن عندها أن نموت” إلى أي حد تتفقين مع هذا القول ؟؟
ج_ لا أظنّ أننا لا نستطيع الحياة دون هجرة إلّا إذا كانت قسريّة، كما هو الحال في فلسطين الّتي أجبر الاحتلال أهلها على الهجرة، وبعض البلدان العربية الّتي أصبح العيش فيها يشكّل خطراً كبيراً على حياتهم
.
س_ يقول الكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني في مجموعته “موسم الهجرة إلى أي مكان”: (مهمة القصة: إعادة تشكيل العالم وإعادة تفسيره وإعادة تجديد الرؤية وإعادة رسم المجرى للحرية والانطلاق والركض… لأن القصة القصيرة تبقى بحثا فنيا عن معنى الوجود وسعيا حثيثا للإمساك باللحظة المنفلتة وإيقاف الصور والذكريات الهاربة أبدا وتخليدها.) ما هو الشيء الذي تبحث عنه أديبتنا وهي تكتب قصصها وما هي الذكريات التي تحاولين القبض عليها في زحمة ما نعيشه ونعانيه يوميا؟
ج_ أبحث عن تفريغ ذهنيّ من زخم أحداث مؤلمة، تكون وثيقة شاهدة على جرم أخلاقيّ، أو وحشيّ سواء كان فرديّاً أم جماعيّاً، كما أحاول أن أوقف الأوقات السّعيدة حتى وإن كانت مجرّد لحظات؛ كي أستعيدها في يوم تشتاق فيه روحي المتعبة إلى طوق نجاة.
س_ لا يختلف اثنان في كون الخاطرة تكتب عندما يتعرض الإنسان لموقف ( عاطفي مثلا) فتتحرك أحاسيسه، ويبقى هاجس الموقف يلهب خياله، فيكتب أحاسيسه تجاه الموقف.
فما هي المواقف التي توقظ فيك لهيب الخيال لتبدعي خاطرة؟
ج_ الحنين إلى وطن، دمعة طفل مظلوم، بكاء أمّ شهيد، فقد غير متوقع، حبّ مكلوم.
س_ الخاطرة لا يشترط بها قافية ولا تتقيد بوزن إلا أن تأتي على رتيبة واحدة وتشعر بأنها متناسقة اللحن لكن هناك من يسمي مايكتبه شعرا .. فهل نسمي ما تكتبينه خاطرة ؟ أم شعرا حرا؟
ج_ أنا أسمّي ما أكتبه نثراً، قد يتطعّم بالعبارات الشّعريّة، لكنّي لا أطلق عليه شعراً، وأنا ممن يلتزمون بإطلاق الاسم الصّحيح للأجناس الأدبيّة، فأنا مثلاً ضدّ أن يطلق على النّثر قصيدة نثريّة تابعة للشّعر، لكل جنس أدبيّ خانته الّتي يجب الالتزام بها، ولا أعتبر ذلك تقيّداً بالموروثات القديمة أو رجعيّة، فلكلّ مقام مقال، وهذا لا ينتقص من النّثر شيئاً، ولا أدري لماذا يصرّ البعض إطلاق شعر على النصّ النثري، هل للحصول على لقب شاعر مثلا؟!

س_ كمبدعة في مجال الخاطرة أيضا؛ ما رأيك في الحرب الدائرة بين أنصار القصيدة الموزونة وأنصار قصيدة النثر؟ وما قولك في أصحاب الاتجاه الأول الذين لا يعتبرون قصيدة النثر شعرا ويصرون على ضرورة تسميتها باسمها الحقيقي وهو: خاطرة ؟ وكذا قولك في الاتجاه الثاني الذين يعتبرون أن الأوزان الخليلية أصبحت متجاوزة وأنها مجرد قيود تقيد الشاعر وتعيقه، لأنها تلزمه استعمال مفردات بعينها ؟
ج_ أنا مع وضع المسمّيات بمكانها الصّحيح، فالقصيدة النّثرية مثلاً لا يمكن أن أصنّفها شعراً، هي نثر بعبارات شاعريّة. ولست مع الرأي بكون الأوزان الخليليّة مجرد قيود تقيّد الشاعر وتعيقه، ولا أظنّ أنّ الأوزان الخليليّة تقف عائقاً أمام أيّة مفردة، وقد قال أحد الشّعراء البارعون بأنّّه على استعداد بأن يحول أيّة خاطرة إلى قصيدة خليليّة دون الإخلال بمعناها، إذن أرى أنّ عجز البعض عن كتابة الشّعر الخليليّ هو وراء هذه الهجمة على القصيدة الّشعرية الخليليّة.

س_ المسابقات الأدبية في كل دول العالم أصبحت ظاهرة عالمية لما للمسابقات من أهمية، بل هناك من خصصت جوائز مالية وامتيازات كثيرة تشكل حوافز للمبدعين. هل شاركت في إحدى هذه المسابقات ؟ وماذا أضافت لمسيرتك الإبداعية ؟
ج_ أشارك أحيانا في بعض المسابقات، ولا شكّ أنّ لها دورها في نشر عمل الكاتب، رغم أنّي غير مقتنعة بأنّ العمل الفائز يعني التميّز أو الجودة، لكن للأسف الشّديد، القرّاء ينجرفون نحو الأعمال الحائزة على جوائز، ويتركون الكثير من الأعمال القيّمة فقط لأنها لم تحصل على جائزة، ولي مقالة كاملة بهذا الشأن أرفق جزءاً منها هنا :
“ممّا لا شكّ فيه أنّ لهذه الجوائز أهميّتها في التّحفيز على ريّ حقول الأدب والإثمار بالأعمال الإبداعيّة، وفتح باب التّنافس الكبير بين الأدباء لدفع عجلة التّقدم في هذا المجال الإنسانيّ الرّاقي وأن تسهم بشكل فاعل في التّشجيع على ملء رفوف المكتبات بالأعمال القيّمة، وربّما يعزى إليها امتلاء السّاحة الأدبيّة بالرّوايات بالعدد غير المسبوق الذي نلحظه في الآونة الأخيرة.
من الطّبيعي جدّاً أن يتبادر للذّهن؛ أن الرّواية الفائزة بإحدى هذه الجوائز، ستكون بلا شكّ قد وصلت إلى أعالي قمّة الإبداع من حيث استيفاء كل العناصر الّتي يتطلّبها السّرد الرّوائيّ، لكن للأسف ما أن يعلن عن الرّوايات الفائزة، إلّا وتنتشر المقالات النّاقدة لهذه الرّوايات، وتظهر الآراء المخالفة مشيرة إلى عدم استحقاقيّتها للفوز، أو وصولها إلى قائمة التّصفيات الأخيرة، إضافة إلى الإشارة بأنّ هناك روايات قد تمّ ظلمها وأنّها تستحقّ الفوز عوضاً عن الرّوايات المختارة”.
بالنسبة لي لم أحصل على أية جائزة، لكن فازت بعض أعمالي ببعض المراكز المتقدّمة، وبلا أدنى شك، هذا الأمر محفّز للكاتب حتّى يسير قدماً نحو تطوير أدواته المختلفة في الكتابة.
س_ هل لازالت القصة قلعة ٱمنة يلجأ إليها المبدع ليحتمي فيها من إعصار الحزن والاغتراب والشجن والانكسارات ؟
ج:أعتقد نعم، وليس من الضّروريّ أن تكون القصّة هي الوعاء الوحيد الّذي يصبّ فيها الكاتب أحزانه، فقد تكون قصيدة الشّعر أو الخاطرة هي الحضن الأوفى، يعتمد ذلك على طبيعة كلّ شخص وحسب ظرفه. س لكل كاتب أسراره الخاصة أثناء البوح، فما هو الباب الذي يفتحه الإلهام الأبداعي سريعاً عند لقائك به؟ هل هو باب الحنين، باب الحب، باب النسيان، باب الدهشة، باب الوجع، باب الإخفاق والمعاناة … ؟
ج_ كلّ هذه الأبواب تفتح ذراعيها حين البوح، كلّ باب حسب الظّرف الّذي يواجهه والريّح الّتي تقصف به.
س:الاحتكاك الثقافي هو احتكاك أدبي معرفي بحيث يحتك المبدع بـأدباء ومدارس وأساليب أخرى ليبدع بعد ذلك أجمل النصوص وأرقاها. ترى ما هي الثقافات والمشارب المعرفية التي نهلت منها مبدعتنا ؟ ج الكتب، الهجرة، الناس.

س_ هناك من يقول أننا حاليا فى زمن الرواية والقصة القصيرة جدا والومضة .. ما رأيك ؟
ج أتفّق مع ذلك، النّاس سئمت الكتب وخاصّة التاريخيّة منها، نظراً لاصطدامها بتاريخ مزوّر يكتبه المنتصرون، لهذا باتت تصدّق الحكايا الفرديّة الّتي يكتبها أصحابها، فهي شاهدة على العصر وتكتب بماء القلب، ولا ينفي هذا أيضاً أنّ هناك أقلام مموّلة لا تسرد إلّا ما يملى عليها. كذلك القصّة القصيرة والومضة فرضتا حضورهما بقوّة نظراً لسرعة وتيرة الحياة الّتي نعيشها، ونظراً لزخم المواد الأدبيّة المطروحة الّتي لاقت انتشاراً كبيرا بسبب وسائل التّواصل الإلكترونيّ.
س_ يخطئ القلب مرة فيعاقبه العقل سنين..
هل أنت مع قول دوستويفسكي ؟!
ج_:أتّفق، ورغم ذلك لن يتوب القلب يوماً، وستستمرّ هذه الأخطاء وهذا العقاب إلى ما لا نهاية.

س_ قالوا قد يكتب الرجل عن الحب كتاباً ومع ذلك لا يستطيع أن يعبر عنه، ولكن كلمة عن الحب من النساء تكفي لذلك كله. ما رأيك في هذا القول ؟
ج_ لا يمكن التّعميم في مثل هذه الأمور، أرى أن العاطفة الجيّاشة هي من تحدّد مدى قوّة التّعبير عن الحبّ، ولنا في قصائد الرّجال الكثير من تعابير الحبّ والعشق الّذي تكفي منه عبارة واحدة لنعرف من خلالها بئر الحبّ المؤثّر النّابع من شعرهم، وإذا اتّفقت مع هذه العبارة فإنما يكون سبب ذلك كون المرأة أكثر عاطفة من الرجل.

س_ أحيانا كثيرة، لا يجد الإنسان الكلمات التي يستطيع أن يعبر بها عمّ يدور داخله من مشاعر، وعمّ يشتعل في صدره من أحاسيس وتفاعلات، وفي مثل هذه الحالة، يكتفي الإنسان بأن يخرج كل مشاعر الحزن والأسى عبر دموع صامتة، أو من خلال استرجاع شريط الذكريات القريبة والبعيدة…. متى أحسست أن الكلمات ما عادت تستطيع أن تستوعب كم الحزن لديك ؟
ج_ فقْد عزيز هو أصعب ما يمرّ به الإنسان، مهما برعت الكلمات وتدفّقت بالمشاعر لن تستطيع أن تعبّر عن مدى الألم والحزن الّذي يختلج صدورنا، وهذا ما حدث معي عند وفاة أغلى النّاس على القلب.
س_ قاﻝ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺟﻮﺍﺩ ﻳﻮﻧﺲ ﺃﺑﻮ ﻫﻠﻴﻞ ” : ﺍﻟﻨﺜﺮ ﺃﺻﻌﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻠﺒﺲ ﺛﻮﺑﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ﻳﺴﺘﺮ ﺑﻪ ﻋﻴﻮﺑﻪ ..” ﻣﺎ ﺭﺃﻳﻚ؟
ج_ لا أتّفق معه، فكلّ نصّ له جماليّته الخاصّة وخصائصه، ما يهم أن تصل الكلمة إلى القلب كما أرادها قائلها بغض النّظر عن نوع النّص، فإن لم يكن هناك موسيقى للنثر، فإن العاطفة الدّافقة، والمشاعر الّتي تتوّج الكلمات كفيلة بأن يصبح النّص بديعاً سهلاً طيّعاً.
س_ ﻳﺼﻒ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﻬﺎﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻬﺮﻳﺐ، ﺃﻭ ﺃﻧﻬﺎ ﻋﺎﺩﺍﺕ ﻋﻠﻨﻴﺔ ﻣﺸﺮﻭﻋﺔ مسموح ﺑﻬﺎ، ﺗﺨﻔي ﻭﺭﺍﺀﻫﺎ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻘﺎﻝ .. ﺃﻳﻦ ﺃﻧﺖ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺻﻒ؟ ﻭﻛﻴﻒ ﺗﺘﻌﺎﻣلين ﻣﻊ ﺍﻟﺮﻗﺎﺑﺔ ﺳﻮﺍﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎﺭﺳﻬﺎ ﺍﻷﻋﺮﺍﻑ ﻭﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ﺃﻭ ﺍﻟﺮﻗﺎﺑﺔ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ؟ ﻭﻫﻞ ﺗﻘﻮلين ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺨﻄﺮ ﻓﻲ ﺑﺎﻟﻚ؟ ﺃﻡ ﺃﻧﻚ ﺗﺘﻌﻤﺪين ﺇﻗﺼﺎﺀ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻘﺎﻝ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ؟ ﺃﻡ ﺃﻧﻚ ﺗﺘﺤﺎﻳلين ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺗﻘﻮﻟينه ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﺸﻜﻞ ﺻﺪﻣﺔ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ؟
ج_ الرّقابة لها دورها أحياناً في تهريب النّصوص، وقد نجد ذلك في بعض الرّوايات مثلا حينما يتجنّب الكاتب ذكر بلاد بعينها أو زمن بعينه، فتصبح تهريباً لما يراد قوله وكأنّها عائمة وقد تفرّق دمها بين الأمم، وكأننا نطبّق بذلك المثل الشعبيّ القائل “الكلام إلك واسمعي يا جارة” وربّما خضت هذه التّجربة في روايتي منارة الموت، الّتي تجنّبت فيها ذكر بلد بعينها أو زمن بعينه، حتّى أسماء الشّخصيات جعلتها أسماء متداولة في كلّ أنحاء العالم، فبطل الرّواية مثلاً اسمه آدم اسم يمكن أن يكون من أيّة بقعة في الأرض، ولعلّ دور النّشر أوّل من يلفت النّظر إلى ذلك، فهم يخشون من عدم السّماح للكتب بالدخول في معارض دول معيّنة إذا تمّ النّقد المباشر لوطن ما بعينه أو لنظام ما بعينه، هذا من النّاحية السياسيّة، أمّا من النّاحية الاجتماعيّة، فهناك رقيب ذاتي منّي، ولهذا لا أتعرّض إلى بعض عيوب مجتمعاتنا، وأترك ذلك لمن له الجرأة في الحديث عنها، يعود ذلك إلى بعض التحفّظات الّتي لديّ، وهو أمر شخصيّ بحت، كذلك أنا ضدّ نشر عيوبنا المجتمعيّة في الرّوايات الّتي يمكن أن تكون نسبة ترجمتها إلى اللغات الأخرى كبيرة، للأسف بعض الأنظمة في بلاد معيّنة يمكن أن تأخذها كشاهد ودليل على أنّنا أمة تستحق الرّقابة والسّيطرة والتحكّم بنا وكأنهم بتلك الرّواية يقولون وشهد شاهد من أهله، حتّى لو كانت المشكلة عرضيّة وخاصّة، إذ هناك من يعممها وأنا أتحدث عن واقع وحقيقة، فمثلاً مثل هذه الرّوايات المشوّهة لنا تجد طريقها في الشّهرة والانتشار الواسع لأغراض سياسيّة بحتة كما نعلم جميعاً. أمّا من ناحية جرأة بعض المواقف في النّصوص، فأنا أضع لنفسي الخطوط الحمراء بحيث أن يكون أي نص لي قابل للمناقشة في أيّ ظرف ومكان ومناسبة. وهذه أيضا نظرة شخصيّة، إذ أرى أنّه يمكن التّعرض إلى أيّ موضوع مهما كان بعبارات لا تخدش الذّوق العام.
س_ في دراسة للأديب والناقد أيوب صابر صاحب نظرية “دور المعاناة في تحفيز الطاقة الإبداعية” حول العبقرية والخلود، وعلاقتها باليتم، خلص إلى أن سمة الخلود والبقاء هي إحدى مقاييس العبقرية وهي مؤشر على مدى ما يتمتع به المبدع من طاقات كنتيجة لمآسي طفولته.. أين أنت من هذا الاستنتاج؟
ج_ لا أظنّ أنّ القلم السّعيد سيّال، بل هو جاف، لا يمكن أن يبدع نصّاً، إلّا إذا كان مموّلاً بخبث، المآسي والأوجاع هي الّتي تحرّك القلم، ولعلّ وجع الغربة والفقد والظّلم كانوا سبب خلق نصوصي، إذ في أيام السّعادة والّتي هي قليلة في حياتنا، يتمرّد القلم على أصابعي ويتوقف فلا يكتب حرفاً.
س_ ﺍﻟﻠﺤﻈﺎﺕ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍلتي تمر بها فلسطين وشعبها الأبي هل
ﺗﻄﺎﻟﺒﻚ ﺑﻤﻮﻗﻒ أدبي ﺇﺯﺍء ﻣﺎ حدث وﻳﺤﺪﺙ ؟
ج_ بالطّبع هذا أمر مؤكّد، وهذا ما أفعله، فكل نصّ كتبته سواء كان مباشراً، أو غير مباشر، تكون فلسطين فيه حاضرة بتاريخها ووجعها وشعبها ومعاناتها وشهدائها، هذا أقلّ واجب يمكن أن يقدمه القلم الفلسطيني وسط عالم يقوم بتزوير التّاريخ، يسرق الأرض، يقتلع الشّعوب من جذورها.
وما رواية “هناك في شيكاغو” إلا صوت الوجع الفلسطينيّ، وموقف التمسّك بالأرض، وصرخة الحقّ الّتي نتمنّى أن يسمعها العالم لينشد العدل إزاء قضيتنا الّتي يحاولون وضعها على رف النّسيان، وكثير من القصص القصيرة والقصيرة جدّاً كان مضمونها الرئيسيّ حول القضيّة الفلسطينيّة ومعاناة شعبها.
منها على سبيل المثال:
١- في الشّيخ جرّاح :
عادت من المدرسة، تلتمس الرّاحة في بيت الأجداد، اعترضها جسمٌ غريبٌ يتسمّر بقرب الباب، يحمل بندقيّة هشّة، يتحدّث لأبيها بلكنة مهجّنة، تعالى صراخ الأب : هذه جذورنا أيّها الأوغاد، تناثرت بقع الدّم على عتبة الدّار، سقط مفتاحٌ صدئ على الأرض، تناولته، فقأت به عين الوثيقة المزوّرة.

٢- أسير :
استقبلته بالدّموع بعد عشرين عاماً من الأسر، في اليوم التّالي بدأت تحصي الأيّام للقائه من جديد.

٣- مقدسيّة :
انشرح صدرها عندما لمحت الأشعة الذهبية تنعكس من قبة الصخرة المشرفة.. ازداد توهج المدينة المقدسة.. سارعت الخطوات آملة ركوعا وسجودا.. حاولت تسلق الجدار.. تبعثرت حبات تينٍ تحت جسدٍ هزيل.

س_ هل صحيح أن المبدع يحيا في عزلة نخبوية، بعيدا عن الجمهور العام، وغريبا عن المجتمع؟
ج_ لا أستطيع الجزم المطلق بذلك، فالمبدع إنسان كغيره يتعرّض إلى تقلّبات الظّروف النّفسيّة والجسديّة والاجتماعيّة، لهذا فهو عرضة للتغيير المستمر، ولا شكّ أنّّ المبدع يعيش إلى حد ما في عزلة، بحيث أنه لا يستطيع أحيانا الاندماج مع معظم فئات المجتمع، وربّما هذا ما دفع به إلى أن يصادق القلم، أنا أتحدّث هنا عن الكاتب بالتّحديد، ولكن أحياناً قد يشعر بالوحدة المتعبة والمرهقة، لهذا قد يختار بأن يندمج ثانية مع بقية أفراد المجتمع حتّى إن كانوا مختلفين عنه أحياناً في الطّباع والأفكار والاتجاهات، الكاتب في النهاية إنسان، والإنسان اجتماعيّ بطبعه، مهما عاش في عزلة لا بد له أن يتوق إلى الحياة الاجتماعيّة المتعادلة في يوم ما.

عن موقع: فاس نيوز ميديا