حوار مع “كوكب الشعر العربي” الشاعرة اللبنانية الدكتورة ‘كوكب دياب’ د. فاطمة الديبي/ ذ. نصر سيوب (الحَلَقة 2 “قصيدتي المستحيلة”)

  • “ماذا يعني لي الشعر”:
    الشعر هو وطن بديل جميل لا قتال فيه ولا حقد، ولا ضغينة، ولا حروب، ولا مصلحة، ولا حرمان، ولا خوف، ولا مرض، ولا حاجة… ألجأ إليه ساعة أشاء، فأجد فيه علاجاً ناجعاً، وصحةً، وأمناً، وأماناً، وحبّاً، وسلماً، وسلامة، وسلاماً.. هو وطنٌ أعيش فيه ويعيش فيّ.. أطير وأحلّق فيه بلا طائرات، ولا أجنحة، وأحطّ أينما أشاء..
    وقد أسافر إلى شعر غيري بلا “فيزا” أقرأه وأتذوّقه، فأجد فيه ملجأ ودواءً…!

وفي هذا قلت في غير مكان :
فالشِّعرُ ليس بِمِصْيَدَةْ
بل دمعةٌ تُطفي الجَوَى وتَنَهُّدَهْ
وتُخفِّفُ النيرانَ تحْتَ الأفئدةْ…
ليس المُهمّْ
أنّا نبالغُ في البلاغةِ والصوَرْ

أو نسكبُ المعنى بألفاظٍ دُرَرْ…
إن الأهمّْ
أن يَسكبَ الشعرُ الدّوا حيثُ الأَلمْ
حيث الجراحُ الخالدَةْ
لا تُبْتذَلْ
حيث المشاعرُ واحدةْ
عند البشرْ
لا تُختزَلْ…
رغم القِدَمْ
لمـّا تزَلْ
مُتجدّدَةْ
مُتزايدةْ

فالشِّعرُ في قلبي لهيبٌ دائمٌ
والشِّعرُ عندكَ ما تجاوَزَ إصبعَكْ

  • “العوائق”:
    أهمّ العوائق هو مجاراة لغة الجمهور وعدم اقتناعه بقدرة المرأة على مجاراة الرجل في الإبداع؛

شاء القدرْ ..
أن تستمرّْ…
أنت الرّجلْ ..
وأظلَّ طيفاً لامْرأةْ..
في سطرِ عُمْرٍ مُختزَلْ
لم يستطعْ غيري أنا أنْ يقرَأهْ…

يا باحثاً عن هَفْوتي
بقصيدتي
هلاّ عثَرْتَ بهَفْوتِكْ…
بقصيدتِكْ؟!
أم صرْتَ تمشي في صفوفِ الأنبياءْ
والشِّعرُ باتَ بخدْمتِكْ
والأولياءْ
باتوا معكْ؟!

  • “الأقوى في عملي”:
    لكلّ من الحضور الذاتي والهمّ الوطنيّ والتجربة الأدبية حصّته من عملي الشعريّ الفصيح والعامي على حدّ سواء… وإن كان الحضور الإنسانيّ والذاتيّ هو الأقوى..
  • “الحرية والالتزام الأدبي”:
    أنا حرّة في شعري ولكن ضمن حدود الالتزام الأدبيّ.. فالإبداع والحرية توأمان.. شرط ألاّ تتحوّل الحرية إلى فوضى هستيرية في بنية النصّ الشعريّ وإطاره الموضوعيّ..
  • “منطقة التوتر بين النثر والشعر”:
    بالنسبة إلى ما يسمّى بمنطقة التوتر بين النثر والشعر فهي غير موجودة عندي.. فالشعر شعر والنثر نثر، وإن تقاطعا ببعض العناصر فبينهما برزخ واضح، فأنا عندما أكتب نثرًا أحترم قواعد النثر، وعندما أكتب شعراً أحترم قواعد الشعر، وإن كنت أميل في كليهما أحياناً كثيرة إلى مواكبة المعاصرة في الشكل واللفظ.. ولكن دون التخلّي عن الأصالة والهوية التراثية..

 – “ما يطالبني بموقف شعري”:
أكثر ما يطالبني بموقف شعوريّ قبل الموقف الشعري هو الوضع الراهن في بلدي.. وقسْ عليه الأوضاع الراهنة في مختلف الأقطار العربية.. فموقف الشاعر قبل كلّ شيء هو موقف الإنسان تجاه أخيه الإنسان بغض النظر عن لونه وانتمائه وبَصْمَته وطوله وعرضه… وقد يظهر موقفي ساخناً بكلمات وهواجس وعبارات قد لا تمتّ إلى الشعر بِصلة.

  • “وطني الشعري”:
    تعدّدت الأوطان ولي منها واحد: هناك الوطن السياسي، ووطن الأحزاب، والوطن الطائفيّ، ووطن الأشخاص ووطن اللصوص … ووطن النصوص…

ووطني الشعريّ هو النصّ الإبداعيّ الذي يجمع الإنسان وأخاه الإنسان إلى أجل غير مسمّى… فبشعري ووفق مخيلتي ورؤاي أمنح وطني خصوصية كخصوصيتي، كما أمنحه لغتي ومخيّلتي .. لهـذا فـإنّ في وطني الشعريّ حرّية، واحتراماً، وعدالة، ومساواة، وحضارة، وإنساناً، وتسامحاً، وإخاء … فوطني الشعري متجدّد ومبدع باستمرار.. وأجمل ما في وطني أن أقف وسط الركام والنار والدمار لأصوغ منه وطناً آخر، بلغةٍ مختلفة، ومخيلةٍ محلقة، وأحاسيس مرهفة …

  • “ماذا تعني لي الكتابة”:
    الكتابة بالنسبة إليّ هي وطنٌ لا ألمَ فيه ولا حزن، بل هي ملجأ آمن لا خوف ولا اضطراب فيه…
    هي نوافذ إلى عالم آخر لا دمار ولا فساد ولا خراب ولا من يحزنون…
    هي ردّ اعتبار للمرأة في خضمّ بحر هائل من أشباه البشر…
    هي امتداد لعالمي الخاص الذي أرسمه في مخيّلتي…
  • “بِمَ تأثرت كتاباتي”:
    كأيّ لبناني، لا بدّ من أن تتأثر كتاباتي بالمناخ السياسيّ السائد.. لكنّ هذا التأثير لم يكن سلبيا .. بل وقفت من بعيد أنظر إلى بلدي ذي الوجه الحضاري المميز، بلدي الذي يجمع بين أحضانه ثقافات عدة، وحضارات عريقة، ويؤاخي بين الإنسان والإنسان، ويربط بين أصالة الشرق وانفتاحه على الغرب.. بلدي الذي تعلّم الحرف وعلّمه للعالمين نوراً.. بلدي الذي لم يألُ جهداً في تقديم أفضل صورة للعالم عن المواطنة، وحرية المعتقد، والتفكير، واحترام بصَمات الاختلاف بين الشعوب والأقوام ..بلدي الذي أراه في الطبيعة، والناس، والعلم، والفكر، والإحساس…
    هذا بلدي الذي صوّرته في معظم قصائدي .. ولم ألتفت إلى ما فعله حضرات الأشخاص به وبشعبه، وهم يلهثون وراء مصالحهم الشخصية، وأنانيتهم الصمّاء.. وهذا ما أشرت إليه في “كلمة صغيرة بنت ساعتها “..
    لبنان كما كان سيبقى.. تعصف به الآن رياح غريبة تأتيه من هنا وهناك.. لكنه سينتصر عليها ككل مرة.. وعلى العكس منها سيفيد منها دون أن تنال منه، وسيعود إلى قبلته الثقافية والعلمية والأدبية… فمهما انحنت أشجاره الباسقة، ومهما أفقدته العلل الحاقدة مناعته، ومهما تكالبت عليه الأطماع والأحقاد والنفوس الدنيئة… سيبقى وسيعود أقوى.. لأن حضارة مميزة عمرها آلاف السنين لا يمكن لها إلا أن تبقى.. وليس بعد الشتاء القارس إلا الربيع المزهر والصيف المثمر..
    وكما كان للمناخ السياسي أثر في كتاباتي كان للمناخ الطبيعي أثر أكبر فيه، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك..
    وغالباً ما تجمع بعض قصائدي بين المناخين السياسي والطبيعيّ، منها قصيدة “قانا الجليل” التي مطلعها: (من الكامل)
    لا تسألوا لبنان عن قانا الجليلْ= وهل السؤال يكون عن مجدٍ أثيلْ؟!

وقصيدة أخرى في عيد الأمّ في أوّل الربيع مطلعها: (من المتدارك)
ها الربيعُ رأى عيدها فارتمى= فوق أقدامها خائفاً فاحتمى

قدّم الورد من شوقه هامساً:= إنني باقة من هدايا السما

ولهذا لا تكاد تخلو معظم قصائدي من الحدث، سواءً كان حدثاً أمنيّاً أو سياسيّاً أو اجتماعيّاً أو ثقافيا أو غيره… فهو لا يشكّل عنصر تحدٍّ لي، بقدر ما يكون باباً للدخول إلى رسم وطنٍ أنموذجيٍّ آخر أصوغ عناصره من ذاكرتي الثقافية والفكرية المصوّرة… لكنني لا أشعر بالرضا عن نفسي، إذ إنني حتى الآن ما زالت القصيدة التي أريد أن أكتبها تراودني .. وعندما آتي لأكتبها أكتب غيرها، وهي ما زالت تنتظرني وأنتظرها!!

  • “قصيدتي المستحيلة”:
    قصيدتي المستحيلة هي التي لم أكتبها بعد.. هي التي تنبع من آلام الإنسان في وطني الكبير، فتصوّر النهايات قبل أن تقع،… وتستقرئ الآلام الآتية، من خلال البدايات.. لعلّها بحرف، بكلمة، بصورة، بحكمة،… تغيّر مسار الأمّة، وتحوّل طريق السير من السفح إلى القِمّة…، وتعيد التاريخ كلّ التاريخ إلى الذاكرة، قبل أن يعيد نفسه على أيدي السماسرة، … وتعيد العقول والقلوب إلى النفوس الشاغرة.. تلك القصيدة التي ستأتي إليّ فتكتبني لأكتبها، وتلقيني لألقيها…
  • “معلقاتي”:
    ما هي إلا كلمات متواضعة تصدر عنّي بحالة لا شعورية مفعمة بصدق الإحساس ودقة التصوير لما فيّ وما حولي من مشاعر وتفاصيل… وكان أغلب هذه “المعلقات” من شعر التفعيلة…
    ولا يسعني هنا إلا أن أضع بعض المقاطع من قصيدة طويلة جدّاً قد فاقت 200 صفحة أو عمود… بعنوان “الله… معك”!
    يا قلبُ، قُلْ، ما أوجعَكْ؟
    تَهوَى إلى الأفْقِ الرَّحيلْ
    وأنا معَكْ؟
    وإلى الزمانِ المستحيلْ؟
    “أللهْ… معَكْ”!
    لا أبْتغي أن أتبعَكْ…
    فأَشَدُّ ما أخشاهُ في
    ذاك الرَّحيلْ
    أن يَنثَني قلبي الوَفيْ
    عنْ حبِّهِ السّامي النّبيلْ
    عن أحْرُفي
    عن مَوقِفي
    فَأودِّعَكْ
    وأنا معَكْ…
    “أللهْ… معَكْ”!

عن موقع: فاس نيوز ميديا