كتاب و آراء – في الوقت الذي لا تزال فيه بعض الحركات الإصلاحية عند نظرتها التقليدية للرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص، من أنها مخدر.. أفيون الشعوب.. لا تقدم ولا تؤخر.. مضيعة للوقت والمال، والناس في حياتهم أحوج ما يكونون إلى الجد والعمل لا إلى الهزل والترفيه والكسل؟. وبالتالي لم تهتم مثل هذه الحركات لا بالرياضة ولا بالسياحة ولا بالفن ولا بالإعلام ولا بغير ذلك من عوامل الإصلاح الناعم، بل بالعكس، عقودا وعقودا وهي تمني النفس بأن يكون لها بعض الإسهام في ذلك دون ممارسة ولا إنجاز، بل تعتبر كل هذا الاهتمام العالمي الشديد بكرة القدم من صحف وقنوات وفرق وتدريبات ودوريات وبطولات وتحليلات واستثمارات وصناعات..، إنما هي غواية شيطانية للإلهاء والانهاك وأعمال وطنية ودولية خارج الملف؟.
في حين أن حركات إصلاحية أخرى، لها نظرة مرنة متقدة، تعتبر الرياضة بشكل عام فطرة إنسانية وكرة القدم لعبة اجتماعية محبوبة عند كافة الشرائح الاجتماعية ممارسة و فرجة بل مقاولة واستثمارا بميزانيات ضخمة وهائلة، وهي كذلك بوابة صحية تواصلية تربوية مشرعة، يتحقق عبرها الكثير من أوجه تنمية الشخصية والمهارة واستثمار الوقت في الترفيه المحبوب والمباح، فاعتمدتها لتربية أعضائها أولا والحفاظ على صحتهم وتجنيبهم الكثير من الأمراض المزمنة التي تسبب العجز والعياء والترهل والشيخوخة المبكرة، واعتمدتها كذلك للانفتاح على شرائح المجتمع ومخالطتها وفهم همومها ولغتها وأشواقها، فكونت المئات والمئات من الفرق الرياضية والفنية المحلية للإسهام في الحياة الثقافية للبلاد وتأطير العديد من مناسبات العباد؟.
هكذا الناس والهيئات والدول اتجاه الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشل خاص، بين معتقد بها.. ممارسا لها.. متفرجا فيها.. مشجعا عليها.. وبين متنكر لها.. محتقر لممارستها.. متجنب لفرجتها.. غير مشجع عليها، إن لم يكن قد أفتى فيها بالتحريم ولا يدخر جهدا في محاربة وعرقلة كل ما يمت لها بصلة كبيرة أو صغيرة؟. إلى أي حد مثل هذه النظرة موضوعية و واقعية؟. وإلى أي حد لم يتجاوز الوقت أصحابها لإعادة النظر فيها؟. هل فعلا تكون الرياضة ضد القيم والأخلاق؟. وهل فعلا، كرة القدم بقدر ما تمنح الناس السعادة بقدر ما لا تغير من واقعهم شيئا؟. هل هي إسراف وتبذير للأموال والأوقات؟.. وهل الناس أحوج ما يكونون في حاجة إلى ما هو أهم وأجدى من أعمدة النهوض والتقدم والازدهار الحقيقي والشامل اقتصاديا واجتماعيا.. بشريا ومجاليا؟.
رحم الله “عماد الدين حليل” وهو يقول عن الفن – ردا عن المستخفين به.. الداعين إلى الجد بدل الهزل – فيقول لهم: “إنه الجد كل الجد حين يحين الجد”؟. وكذلك الرياضة بصفة عامة والكرة منها بشكل خاص، كانت فيها كل الاتجاهات من أقصاها العبثي الاستهلاكي التبذيري إلى أقصاها القيمي الأخلاقي خاصة في مجتمع الأخلاق:
1- الرياضة الجماعية في القاعات وملاعب القرب في الأحياء: ألا تحرر الأفراد من شرنقتهم الفردية الأنانية إلى الروح الجماعية والفريق المتعاون.. فيكون التعارف والتآلف أرضية خصبو لغيرها من الحركات الاجتماعية؟.
2- أليس العقل السليم في الجسم السليم في البيئة السليمة: وهذه البيئة السليمة ألا تطرح على الراغبين فيها تحديات الإيجاد والتخليق والتحصين من مظاهر الانحراف والمخدرات والفساد، وغير ذلك مما يمر كثير منه عبر الرياضة؟.
3- قوانين اللعبة والروح الرياضية: ألا تربي الممارسين على مفهوم القانون والعدل والمساواة وعلى سعة الصدر؟
4- الذكاء الرياضي والذكاء الجماعي: ألا يعتبر ذكاء لا يقل أهمية عن غيره من الذكاءات التي لا يكتمل عملها إلا به.. حتى قيل أن المؤمن يستعين على عبادته بقوة صحته وصلاح رفقته، و قد ورد في الحديث: ” المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف “؟.
وعلى الصعيد الميداني، أليس من القيم والأخلاق الفاضلة، هذه القوافل الخيرية والحملات الاحسانية التي يقوم بها بعض النجوم الرياضيين ومؤسسات الأندية التي يمارسون فيها.. للتكفل بتمدرس الأطفال المحتاجين في قراهم.. لتقديم بعض المساعدات كشق طرق وبناء مرافق اجتماعية من مدارس ومستوصفات؟. وجمعيات المواهب الرياضية لأبناء الجالية، ألا تنتشل أبنائهم من متاهات الإدمان والانحراف والموبقات التي يعتادها أبناء الغرب.. ناهيك عما تعزز به حياتهم بقيم الهوية والارتباط بالجذور الثقافية لبلدانهم؟. قال الشاعر: ” يا عابد الحرمين لو أبصرتنا.. لعلمت أنك بالعبادة تلعب.. منْ كانَ يخضبُ جيدهُ بدموعِه.. فَنُحورُنَا بِدِمَائنَا تَتَخَضَّبُ”؟.
اليوم، يستطيع الرياضيون أن يفخروا بقول مثل هذا بعدما تخلت العديد من قوى الإصلاح الجادة الفردية والجماعية عن أدوارها النضالية أو تكاد، وتواطئ منها العديدون مع قوى الظلم والاستبداد، فلا تكاد تسمع لها في النضال همسا ولا ترى لها في الواقع ركزا؟. لتنهض جماهير الفرق الرياضية الوطنية الكبرى تصل الحاضر بالماضي وتسعى سعيها في التأطيري النضالي والتربية على المواطنة، وعبر مدرجات الملاعب ترفع “التيفوات” وتصرخ بالشعارات التي تبتك آذان من يهمهم الأمر من المسؤولين بأغاني احتجاجية حول قضايا وطنية قومية وإنسانية (فلسطين يا الحبيبة.. في بلادي ظلموني..)، لم تأتي لا من الأحزاب والنقابات ولا من الاتحادات والبرلمانات، ولكنها من الملاعب الرياضية الترفيهية وسرعان ما أصبح يحفظها ويرددها الجميع لنفس الأغراض داخل وخارج الوطن؟.
واليوم أيضا، في كأس العالم قطر 2022، أليس كأس التدافع القيمي والحضاري بامتياز؟.. ألم يمنع البلد المنظم ممارسة الشذوذ والترويج للمثلية رغم سلطان مراكزها الدولية الداعمة؟. وحين يملأ شوارعه بلوحات إشهارية طويلة وعريضة بأحاديث نبوية شريفة لعلها تبلغ الممكن من الآيات بلغات متعددة؟.. حين يمنع تناول الخمور داخل الملاعب وفي محيطها؟، ويفرض رؤيته الرياضية المخلقة على العالم، حيث استدعى أكبر وأشهر الدعاة في العالم الإسلامي وفسح لهم المجال لتذكير العالمين بدين ربهم؟. حين يسمح برفع علم فلسطين في وجه المطبعين الصهاينة حتى يستفيق الواهمون من وهم هرولتهم؟. حين يرفع الفريق المغربي من سقف الإنجاز كما رفعت قطر من سقف الإعداد والتنظيم المحكم، ويسجد كل الفريق والطاقم داخل الملعب سجدة شكر لله إثر كل فوز وانتصار وكل الفضائيات تنقل لشعوبها ذلك؟. أية أخلاق وفضائل أجمل من ذلك.. أي متعة ونضال أجدى من ذلك.. إنها رياضة الساحرة المستديرة.. إنها كرة القدم.. القيم والمتعة والنضال.. “الجد كل الجد حين يحين الجد”؟.
بقلم : الحبيب عكي
المصدر : فاس نيوز ميديا