صراع القيم والمواقف في مسرحية “مقال افتتاحي” بقلم: ‘الكبير الداديسي’

احتضنت قاعة مسرح مدينة الثقافة والفنون بأسفي مساء الأحد 22 يناير 2023 عرضا لمسرحية “مقال افتتاحي” لفرقة “حوار” في إطار الجولة التي تقوم بها الفرقة دعما من وزارة الثقافة والشباب والتواصل قطاع الثقافة… المسرحية من تأليف محمد زيطان، تشخيص كل من هشام بهلول في دور حمزة العرفاوي، حسناء المومني ي دور الصحفية فريدة، حنان الخالدي في دور الفانة التشكيلية كنزة زوجة الطاهر الخشباوي، وعبد الله شيشة في دور نادل بالمقهى…

نشير في البداية إلى أننا سنكتفي بملامسة العرض المسرحي المقدم للجمهور في تلك الليلة بعيدا عن النص المكتوب ولغته وحواراته، من خلال عشر ملاحظات سريعة نطل من خلالها على مضمون المسرحية ورسائلها  وبعض الخصائص الفنية. وهي ملاحظات متفرج شاهد العرض لأول مرة، ولم يقرأ النص ومن تم فهي ملاحظات آنية ظرفية وليدة المشاهدة الأولى، ليست تقويما أو تقييما للعمل، بعيدة عن أحكام القيمة عسى تكون محاولة لإثراء النقاش حول عمل مسرحي استقطب جمهورا غفيرا تفاعل بإيجابية مع العرض وصفق كثير للتشخيص، وقد تتغير هذه الملاحظات بعد مشاهدة ثانية أو قراءة متأنية للنص:

1 – محتوى العرض: ترفع الستارة على فضاء مسرحي يملأ الركح فيه أثاث مقهى (كراسي، طاولات منضدات…) سيكتشف المتلقي أن مقهى “الحافة” في ملكية حمزة العرفاوي، ليبدأ ذلك الفضاء في استقبال الشخصيات في مشهد أولي رتيب على إيقاع نغمات آلة شيلو أو الفيولونسين (كمان كبير) ويكون أول حوار بلغة عربية فصيحة  وملابس راقية وحركات ثقيلة بين حمزة وفريدة توحي بنص كلاسيكي… قبل أن ترمي المسرحية بالمتفرج في عوالم مختلفة بعد أن غيرت لغتها إلى العامية، وتكشف عن العلاقة التي كانت تجمع المقاول حمزة بالصحفية فريدة ، وقد تخلى عن مبادئه وعن الشعارات النضالية التي كانت تجمعهما أيام الكلية قبل ثلاثين سنة، فيما ظلت فريدة  مخلصة لمبادئها لذلك رفضت بحزم قاطع طلبه  بأن تكتب عنه مقالا افتتاحيا يرجح كفته على منافسيه، رغم إغراءاته المادية وابتزازه لها  بادعائه التوفر على صور وفيديوهات لها مع عشيقها قادرة على  تلطيخ سمعتها داخل وسطها العائلي والمهني،  وفي ظل هذا المشهد المتوتر تطل على الجمهور شخصية كنزة منصور الرسامة المشهورة،  الهاربة من بطش زوجها  (الخشباوي غريم ومنافس العرفاوي) المتسلط والذي دبر لها أمر إدخالها مستشفى للأمراض العقلية حتى لا تنافسه في الانتخابات  بترشحها مع حسب منافس… وبما أن المصائب تجمع المصابين فقد توحدت البطلتان (فريدة وكنزة) للدفاع عن قضايا وحقوق المرأة المعنّفة المقموعة  وتكشف المسرحية عن رسائلها المتمثلة في محاربة الفساد والاضطهاد والقمع والاستبداد والفكر الذكوري المتسلط…

2 –   ففكرة المسرحية النواة (التقاء صديقين كان يجمعهما النضال بالكلية وقد تسلق أحدهما اجتماعيا بعدما غير مواقفه وتخلى عن شعارات النضال الجامعي) فكرة متداولة عرضت في أفلام ومسلسلات مغربية وعربية كثيرة مذ طرحها شريط اللص والكلاب المقتبس من رواية نجيب محفوظ منتصف القرن الماضي… لكن لمسة مبدع النص محمد زيطان، والمسؤول عن السينوغرافيا  ياسين الزاوي أبعدتا الفكرة عن نمطيتها، وربطاها بما يقع ال”آن” وبال “هنا” مع توهيم المتلقي بإمكانية حدوثها في أي زمان ومكان، ما دامت أذرع الفساد ومظاهر التسلط والقمع واحدة…  

3 – قيام المسرحية على الاقتصاد: وقد اتخذ ذلك الاقتصاد تمظهرات كثيرة منها:

–  اقتصاد في توظيف الممثلين (أربع ممثلين فقط مع الإصرار على قتل شخصية الخشباوي زوج كنزة مسرحيا رغم خضوره القوي في الحوار، وإجبار ممثلة على أداء أدوار مختلفة (حنان الخالدي تلعب دورالرسامة كنزة ودور نورا عشيقة النادل)

– واقتصاد في اللغة والحوار بتوظيف جمل أقرب إلى الحكم والأمثال تختزل الكثير، وتوجز في مناح متعددة لدرجة يحس المتفرج أن المسرحية تريد قول أشياء كثيرة، وقد يصل الإيجاز حد التلميح واعتماد بلاغة الصمت أو التعبير بمقاطع موسيقية أجاد يوسف الدغوغي في حياكة نوتاتها لتتناسب والمشاهد المشخصة… وهو اقتصاد مقصود جعل المسرحية تلمح ولا تصرح، فكان ما لمحت إليه أكثر بكثير مما صرحت به وتلك إحدى وظائف المسرح الذي يسعى إلى توريط المتلقي واستدراجه للمساهمة في نقاش المسرحية ومتابعة ما كان والتفكير في ما يمكن أن يكون…

4 – إيجابية المرأة وسلبية الرجل: قدمت المسرحية صورة سالبة عن الرجل فهذا حمزة العرفاوي انتهازي مسلق، وذاك الخشباوي رمز للتسلط والقمع وهما وجهان لعملة واحدة تمثل الفساد واحتقار المرأة، وحتى شخصية النادل لم تكن سوى صورة للشخصية المقهورة التي تتقلب في مهن وضيعة (من راقص سويريتي إلى نادل) كل حلمه الهجرة إلى ألمانيا منذ أن تلقف وعدا من العرفاوي وهو يتحمل الإهانة والضرب في انتظار تحقيق حلم لا يتحقق.. وهي شخصيات سالبة تعاني صراعا داخليا، وصراعا خارجيا محتدما بينها جميعا، وعاجزة عن إيجاد الحلول لمعاناتها، في مقابل ذلك تم تقديم البطلتين في صورة إيجابية (فريدة صحفية ملتزمة، وكنزة فنانة صريحة طموحة) متّحدتين لإيجاد الحلول، وهما شخصيتان ناميتان لا تكفان عن فضخ الفساد وقادرتان على تغيير واقعهما رغم ما يعترض سبيلهماهما من عراقيل، ( تمكنت كنزة من بناء شخصيتها رغم اعتراض أبيها وأخيها على اختياراتها، وظلت فريدة مخلصة لمبادئها رغم مرضها وحاجتها..)

5 – المسرحية وإن كانت نظريا مكونة من عدة مشاهد، فالديكور لم يطرأ عليه أي تغيير، صحيح إن الديكور كان متحركا ومصنوع بطريقة تنم عن حرفية مصمم ديكور جعل لكل قطعة عجلات تسهل تحريكها… لكن عدم تغير العناصر التي تملأ الفضاء المسرحي يوحي وكأن المسرحية مكونة مشهد واحد تابت تتحرك فيه الشخصيات الأربعة التي مسرحت لأحداث. لا يغير المشهد إلا ظهور شخصية أو اختفاؤها من على الركح، أو بعض الإرجاعيات ( flash back)التي تعود بالمتفرج إلى ماضي الشخصيات.  

6- حركية الديكور لم توازيها حركية الشخصيات التي ظلت تتحرك بتؤدة وأناة بعيدا عن القفز والصراخ، او التعبير الجسدي… وهي حركة تعكس الأدوار المنوطة بالشخصيات (صحفية، رسامة ومقاول..) وظلت شخصية النادل وحدها الأكثر حركية تسعى إلى تكسير رتابة على الركح، وقد اختير لها لباس أقرب إلى المهرج ليتناسب وحركيتها، وسمح لها بالقفز أحيانا على الطاولات أو التموضع أسفلها بحسب مقصدية الكاتب/المخرج ، كما أتيح للرسامة كنزة في بعض المشاهد بتقديم رقصات تعبيرا عن تمردها…

7 – العنف والعنف الرقمي: النص المسرحي يقارب قضايا متعددة، منها العنف ضد النساء من خلال ما عاشته شخصية كنزة وفريدة، وتطور العنف إلى العنف الرقمي المتمثل في التهديد والابتزاز ولو بصور وأشرطة وهمية، وما يمكن أن يحدثه هكذا في الشخصية ويدفعها إلى تغيير موقفها مكرهة، فلم تجد الصحفية فريدة سوى الرضوخ لطلبات حمزة لما ابتزها بصور وفيديوهات قد تلطخ سمعتها، ولم يوقف هذا الابتزاز إلا تهديد كنزة له وإخباره بتسجيل تهديداته وابتزازه للصحفية وهي التفاتة موحية من المسرحية لعنف جديد غدا يتسلل لحياتنا ويهدد توازننا….

8 – قيام المسرحية على الصراع واختلاف المواقف والتصورات: تجلى الصراع أولا في اختلاف جنس الأبطال(بطلين في مواجهة بطلتين)  وفي اختلاف الرؤية للعالم واختلاف المواقف، فكثيرة هي مظاهر الصراع التي تقدمها المسرحية من خلال ثنائيات النزاهة/ الفساد. الصدق/ الكذب . الالتزام/ الانتهازية…  ينضاف إلى ذلك الصراع الداخلي الذي تعيشه كل شخصية على حدة (مناضل فتّش في ذاكرته فلم بجد سوى شعارات وبقايا كتب ووجوه فقرر النضال بطريقة مخالفة لإنقاذ أمه من المرض اشتغل في البناء وتسلق في مراتب السلم الاجتماعي… رسامة مزورة ركبت على إبداع فنان إفريقي لتلميع صورتها باستغلال فقره…) وهو ما جعل الشخصيات تعيش معاناة تأنيب الضمير ، وحتى تلك الصحفية التي قدمتها المسرحية رمزا للالتزام والوقوف في وجه الفساد والمقاولين الذين يتعاملون بمنطق الإسمنت يهدمون المآثر والمنشآت الثقافية لبناء مشارعهم (حمزة بنى مقهى الحافة على أنقاظ مسرح قديم) فقد ظهرت في الأخير مريضة مرضا خطيرا ينبئ بنهايتها. 

9 –  المسرحية والتطهير: المسرحية ترمي المتفرج في إتون الوهم حيث تختلط الحقائق بالأوهام ويغدو من الصعب عليه التمييز بين الحق والخطأ ، وبين الصدق والكذب فيعتقد أن كل ما تقوله الشخصيات حقيقة: (الصحفية شخصية قوية ، الرسامة فنانة كبيرة، المقاول يملك صك إدانة وتشويه الصحفية، والرسامة لها فيديوهات وصور للمقاول…)  قبل أن تأتي لحظات للاعتراف والسقوط فتظهر الصحفية مريضة عمرها الافتراضي قصير جدا لا يتجاوز أياما معدودات، وتبدو تلك ا الأسلحة التي كانت الشخصيات تهدد بها بعضها البعض غير حقيقية، لتبرر كل شخصية اختياراتها في ما يشبه جلسة اعتراف لبست فيها الشخصيات أقنعة وتمكنت منها خلالها كسب تعاطف المتفرجين وهم مقتنعين أن تلك الأدوار مجرد تمثيل،  

10 – بين البداية والنهاية: في ما يشبه البناء الدائري للنص  كانت الخاتمة مثلَ البداية على إيقاع العزف على آلة الفيولونسين و البوح بالمستور والتخلص مما يثقل الذات ويعذبها، وتلخيصا لكل الرسائل المعلنة والمبطنة، وما إنهاء المسرحية بمشهد  انكفأت فيه كل شخصية على ذاتها وكنزة تطفئ الشموع بعبارات مشحونة برمزية البحث عن الشخصية المتوازنة والعيش في توازن دون التضحية بالقيم إلا تلخيص لمعاناة الإنسان المعاصر الذي يكد من أجل الصعود إلى الأسفل، والسعي نحو الحافة (اسم المقهى)  في مسرحية  كل شيء فيها مختار بقصدية  اسم المقهى / أسماء الشخصيات، لباسها  أدوارها، رقصاتها تبدو مظهريا من علية المجتمع لكنها تحمل في دواخلها جبالا من الهمم ومشاكل تضيق عنها الصدور وهو ما قد يبرر تصرفاتها ويكسبها تعاطف الجمهور…

هذه عشر ملاحظات سريعة حول مسرحية “مقال افتتاحي” كمسرحية واقعية، تتجاوز الواقعية الانتقادية  التي تكتفي بانتقاد الواقع ورصد عيوبه واختلالاته إلى واقعية تثور فيها الشخصيات الإشكالية على واقعها وتغيّره بإرادة داخلية ورغبة في أن تكون تلك الشخصيات كما تريد وليس كما يراد لها، وهو ما يتطلب دراسة خاصة للشخصيات والصراع في المسرحية قد تتم العودة إليها… 

عن موقع: فاس نيوز ميديا