حاوره د. فاطمة الديبي / ذ. نصر سيوب
ــــــــ “مَن أكون” :
حسن المصلوحي، شاب مغربي من مواليد سنة 1985 بمديونة، وهي مدينة صغيرة متاخمة لمدينة الدار البيضاء.. نشأت بهاته المدينة وشهدتها مذ كانت قرية صغيرة قبل أن تجهز عليها لوبيات العقار وتحولها إلى شقق اقتصادية تقتل المكان وتحبس أفق النظر. ترعرعت بدوار بوغابات داخل براريك لا نمتلك فيها إلا دفء الجار، وأكف الدعاء لله الحق بأن ينجينا من حر الصيف وصقيع الشتاء.
تتلمذت في المرحلة الابتدائية بمدرسة مولاي إدريس الأزهر، ثم درست بعدها بإعدادية الإمام الشاطبي وانتقلت لأدرس بثانوية ابن بطوطة. أما الجامعة فقد اخترت متابعة دراستي الجامعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء شعبة الفلسفة، أحرزت على الإجازة وطرت نحو بلاد دافينشي، حيث تعلمت فن الطبخ وفن الحياة وتابعت دراستي بكلية الآداب ببادوفا، شعبة الفلسفة.
شأني شأن أغلب الكتاب كان للمدرسة والمُعلم بشكل عام أثر كبير في حياتي، فبين أسوارها تعلمت الحرف والكلمة وتلقيت النصح من أساتذة أجلاء وثقوا بقدراتي وساعدوني ونصحوني بأن أدمن خمرة الشعر والنثر حتى الثمالة. وعلى ذلك أدمنت القراءة، تأثرت بعيون الشعر العربي وبقصائد جبران وقباني وعشقت سرد نجيب محفوظ والعقاد وحنا مينه وهمينغوي…
أما بخصوص نتاجي الأدبي فقد كان أول منجز لي هو مذكرات “الرغيف الأسود”، وهو سيرة ذاتية تؤرخ لمرحلة الطفولة، صدر الكتاب سنة 2020 عن دار النشر المغربية مقاربات ثم بعدها بسنة صدر عن دار النشر الحيفاوية بفلسطين “مكتبة كل شيء”، ونشر في السودان عن دار عندليب للنشر والتوزيع ثم في تونس نشر عن دار الكتاب. ترجم هذا الكتاب على يد المترجمة المغربية فاطمة أغوراي إلى الفرنسية حاملا عنوان LE PAIN NOIR ونشر في مدينة مرسيليا بفرنسا مع “دار النشر الأمير”، كما يتواجد على منصة أمازون و فناك الدوليتين.
صدرت لي عن دار النشر المغربية الرائدة إفريقيا الشرق رواية بعنوان “كلانديستينو على جسر باسانو”، وأنا بصدد التحضير لنشر ترجمتي إلى العربية لرواية “راقصة الباليه” لصاحبتها الإيطالية ماتيلدة سيراو.
نشرت لي قصائد عديدة وقراءات نقدية متنوعة على مواقع ومجلات إلكترونية في المغرب وخارجه.
ـــــــــ “حلم الطفولة” :
مثل سائر الأحلام بدأ حلمي بسيطا بساطة الطفولة، كنت أحلم أن أكتب شيئا يروق لأساتذتي، فكتبت يوميات عن سفري رفقة العائلة في العطلة الصيفية نحو البادية، كتبت عن الحمار المبردع وعن شجرة التين ورغيف الخبز… وكان أول الزاد في طريق الكتابة أستاذ طاف بي ردهات المدرسة الإعدادية رافعا ذراعي عاليا بيد وملوِّحا بيومياتي البسيطة باليد الثانية. أذكر أن الدفتر كان متسخا من فرط التراب الذي سُجي عليه وأنا أكتب بكل سذاجة ما أراه أمامي، أكتب عن حنّه وهي تخطو نحو الكُشّينة مثل غزالة، أكتب عن البادية، عن الحصاد وشكوة اللبن ونبات الكرينبوش والحُريكة… لكن الحلم بدأ يكبر شيئا فشيئا فصرت أكتب غزلا في حبيبتي صاحبة العيون العسلية… شاركت في مسابقات أدبية عديدة أسمعت فيها صوتي وصفق لي الجمهور ورفعت الجوائز البسيطة، ولأن الطفل أب الرجل كما قال فرويد فقد وجدتني مسكونا بالكتابة أشُد الرحال من أجلها، وأتمنى أن يظل هذا بيتي وشغفي وغاية وجودي إلى أن أموت.
ـــــــــ “من اكتشف في دواخلي موهبة الكتابة وساعدني على ذلك” :
طبعا لائحة هؤلاء العظماء طويلة جدا، لكن أكثرهم أثرا كان أستاذا درّسني السنة الأولى إعدادي مادة اللغة العربية، درّس بالإعدادية سنة واحدة وطار بعيدا وكأنه جاء ليخبرني بأني ابن الحرف والكلمة ويرحل، كان يتوقف كثيرا عند المواضيع التي أكتبها ويحمل ورقتي عاليا ويقول «وكالعادة النقطة الأولى لحسن”، أحرجني دائما بأن أصعد للسبورة وأقرأ ما كتبت.
أعجبته اليوميات التي كنت أكتب وطلب مني أن أحاول كتابة قصة، وفعلا وأنا في سن الثانية عشر كتبت قصة طفولية بسيطة في دفتر من أربعة وعشرين ورقة، وكالعادة صححها لي ونقحها وطاف بها وبي أقسام المؤسسة مباهيا بي وبمنجزي أمام الجميع، بعد بحث طويل توصلت لاسمه لكنني للأسف لحدود الساعة لا أملك أي خبر عنه، كان اسمه الأستاذ عبد الكريم الطيبي. بالثانوية كان الفضل كبيرا لأستاذ اللغة العربية محمد منات الذي أكد علي مرارا وتكرارا بأن أكتب، حيث كان يجتزئ من حصص الدراسة دقائقا لكي أقرأ على الجميع القصائد والخواطر التي أكتب. لا أنسى دار الشباب ولقاءاتها الأدبية ومسابقاتها التي كان ينظمها الرائع سعيد السمراني وأحمد مقبول…
ــــــــــ “جذور تنشئتي الأدبية” :
دعنا نقول إننا أمام سياقات عديدة متداخلة ومترابطة فيما بينها، فطفولة الكاريان مختلفة تماما، إننا نتحدث هاهنا عن طفولة موشومة بوجع البرّاكة وقاطنيها، بألم الرهن الاجتماعي والحرمان من طفولة عادية، ومثل هكذا أوضاع التي يكبر فيها الطفل تخلق لديه مخزونا هائلا يحتاج ليبوح به ذات مرة. إنني أعبر اليوم لكي أقتص من كل من رهن الحياة والابتسامة وأرجأها إلى أجل غير مسمى، وعلى هذا المنوال نتحدث عن سياق اقتصادي موسوم بالفقر الشديد والحاجة الملحة للرغيف، لكن بالمقابل كل هذا لم يمنع ذاك الطفل من أن يستدمج قيم الخير والمحبة والتكافل التي تعيش بين الفقراء أكثر مما تحضر عند بعض الأغنياء الذين يقتاتون على سنتيمات الكادحين… هذا المزيج من القساوة والرقة، البساطة والعمق، الجنون والتعقل أفرزني كنتاج أدعي أنني ما زلت منذورا لأعبر باسمه وأتمنى أن أظل كذلك.
ــــــــــ “تأثير الذﻛﺮﻳﺎﺕ ﻭﺍﻟﻔﻀﺎﺀﺍﺕ ﻭﺍﻷﻣﺎﻛﻦ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺍﻟﻄﻔﻮﻟﺔ” :
لا مراء في هذا، فالفضاءات -مسرح الطفولة- تشكل هوية الإنسان، إذ لا يمكن أن أعرف نفسي دون أن أذكر أنني ابن الكاريان والبرّاكة والسقاية… إن المكان في حقيقة الأمر هو نحن، هو مسرح الذات الذي هامت فيه وشبّت فيه ونضجت فيه، إن الفضاء مُعلمنا الأول لذلك هناك من النقاد من اعتبر كتابي الرغيف الأسود ذاكرة للمكان، شاهد على تفاصيل تلك الفضاءات التي طبعت في دواخلنا وخلجاتنا. إن الأماكن تُفصح وتَبوح وتُعبر عبرنا نحن روادها… تحدثتُ كثيرا في كتاباتي عن الأمكنة وتفاصيلها، عن الطبيعة بمختلف أشكالها وقلت في مذكرة تاغونجة “الطبيعة أفضل مربٍّ للأطفال”، لذلك لا ينفصل العمل الابداعي إطلاقا عن ذكرياتنا الماضية وعن الأمكنة التي احتضنت هاته الذكريات.
ــــــــــ “الكتابة الإبداعية” :
الكتابة بالنسبة للكاتب الملتزم حياة، هي كل الحياة، لقد عرّفتني هاته الكتابة على ذاتي ومنحتني معنى لوجودي، ففي زمن غياب المعنى والرداءة والسفالة وجدتُني في حضن لا يُخيبني، في رفقة لا تشعرني بالوحدة، إنها ملاذي حيث تعصف بي هاته الحياة التي ذاقت على من يعيشها. أكتب فأتحرر من مشاعر الغضب والخوف والإحباط، أكتب فأكتشف أنني في طقس مقدس يليق بي وبمن أحب… أن تكتب معناه أن توقف الوجود لتقول ما تريد أن تقوله، لتعلن بأنك هاهنا قائم بقوة الفعل، حين أكتب أوقن بأنني لن أموت، الكُتاب لا يموتون حتى حين تزهق أرواحهم، فهل مات امرؤ القيس إذ مات، هل مات محمود درويش وميخائيل نعيمة…؟ أكاد أجزم بأنهم ما زالوا أحياء من خلال حروفهم التي ما زالت تسكن الأرض، لقد خلّصتني الكتابة من خوف خالجني طويلا من أن أُنسى.
ــــــــــ “ﺍﻷﻗﻮﻯ ﻓﻲ عملي (ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻭﺍﻟﻤﻌﻴﺸﻲ ﺃﻡ ﺍﻟﻬﻢ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻭﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻭﺍﻟﻘﻮﻣﻲ)” :
وإن كنت غير مخول للحكم على مكامن القوة في أعمالي لكن بإمكاني أن أقول إنه في أعمالي الأدبية يصعب الفصل بين هاته المحددات الثلاث، فبقدر ما يشكل الرغيف الأسود شكلا من أشكال أدب الذات والتعبير عن أناي أنا الكائن الذي عاش تلك الأحداث في الماضي، بنفس القدر تجد أن هم الكتاب الأساسي هو إكساب الهامش والمهمشين لسانا ينطقون من خلاله، إنه أنا الذات التي تعبر من منطلق بروليتاري عن فظاعة الفوارق الطبقية والاستغلال وبؤس الرهن الاجتماعي. ثم في الآن نفسه تحضر تجربة حسن المصلوحي الكاتب السارد، الذي يشتغل على التخييل ويتمنى دائما أن يكتب للفقراء، ولكن بلغة أدبية راقية ينساب فيها السرد في تناغم. وكل هذا لا يمكن أن نفصله إطلاقا عن تجربتي الثقافية كمثقف ملتزم بقضايا الإنسان أينما وجد.
ــــــــ “طقوسي في الكتابة” :
لا أدعي أنني أمتلك طقوسا استثنائية للكتابة، لكنني أتصيد الأماكن واللحظات التي يفيض فيها الخاطر وتتحرر الخلجات وتنجلي القريحة الإبداعية، أحاول اقتناص لحظات التوتر القصوى التي تنضج فيها الفكرة، لذلك فأغلب كتاباتي أخطها ليلا في أسفاري المتنوعة، فبعض أجزاء روايتي “كلانديستينو على جسر باسانو” كتبتها على بعد أزيد من ألف كيلومتر عن مكان إقامتي، أكتب حيثما باغتتني حالة الكتابة، إنها اللحظة الفارقة بين حسن المصلوحي المُكره على تجرع المعيش وحسن الذي يعيش من أجل الكتابة، حسن اللامبالي بالتزامات الحياة ومنطقها المقيت.
ــــــــــ “اهتماماتي الإبداعية” :
اهتماماتي الإبداعية بالتأكيد متنوعة، فأنا أكتب الشعر الحر، وأنوي إصدار ديواني الأول عما قريب، أكتب الزجل والنثر، ومؤخرا خُضت تجربة الترجمة من وإلى الإيطالية، لكنني أجد ذاتي في السرد والرواية، لا أعلم لماذا بالضبط لكنني أشعر فيها بأنني غير مقيد، بأني قادر على أن أُسوق أفكاري، أبوح بعواطفي في فضاء رحب وواسع.
ــــــــــ “المبدع وعزلته النخبوية” :
أعتقد أن العزلة مسألة حيوية ومهمة لكل مبدع، فالكتابة بنت العزلة بالضرورة، على ألا تكون عزلة نخبوية من منطلق التعالي على الجمهور، أنا لا أرى أن العمل الإبداعي شكل من التصوف، لأنه يمكن أن يتحول إلى شطحات وهلوسات لا جدوى منها، فأي عمل لا يحمل بين ثناياه فكرة الغيرية ونصيب الآخر لا يستحق أن يوصف بكونه عملا إبداعيا. فالإبداع الحقيقي هو الذي يضيف للتجربة الإنسانية رؤية جديدة، المبدع الحق هو المبدع العضوي الملتزم بقضايا البسطاء الذين يكتوون بالنار ولا يجدون من يعبر عن حالهم. وهاته أزمة حقيقية عند عدد كبير من مبدعينا، لأنهم يكتبون لأجل مجد شخصي، يعيشون في أبراج عاجية، لكن الأزقة والحارات والدواوير أجدر بأن تكون مقامنا، هنالك نعايش الأحداث والشخوص ونلمس حقيقة الحياة عبر تجارب الآخرين، فهل كان كين كيسي سيكتب رائعته “أحدهم طار فوق عش الوقواق” لولا عمله كبواب في مستشفى عقلي!
ـــــــــ “تحولات على تجربتي الإبداعية عبر المساحات الزمنية” :
لا شك أن مشوار الحياة الذي قطعناه وما زلنا في الطريق قد فرض علينا تحولات كثيرة ولكنها بالنسبة لي لم تكن جذرية، إلا أن تجارب الحياة تغير عندك الرؤية، فحسن المصلوحي الشاب المندفع في فترة المراهقة ليس هو ذاته حسن طالب الجامعة بشعبة الفلسفة، وليس هو حسن المتزوج والمقيم بالديار الإيطالية، ولا حسن الأستاذ في الثانويات المغربية وهكذا…
لم أخالف يوما نهج الكتابة عن المهمشين سواء أكانوا أفرادا كما هو الشأن بالنسبة للرغيف الأسود، أو أمما و شعوبا كما هو الحال في كلانديستينو. لا أتصور نفسي إطلاقا وأنا أبيع قلمي لأكري حنكي وأنطق بما يرضي أولياء نعمتي كما غدونا نرى عند كثير من أشباه الكتاب الذين يكتبون للغرب أو للجوائز أو للبوز. أكتب لتعرية كل متآمر على رغيف البسطاء، ولتمجيد الخير والجمال أينما وجد. لكن رؤيتي لهاته القضايا تحولت كثيرا عبر المحطات التاريخية التي مررت بها.
ـــــــــ “الحرية والرقابة أثناء الكتابة” :
لقد أشرتم في هذا السؤال إلى معضلة حقيقية يعاني منها الكاتب العربي الذي يجد نفسه أمام مفارقة حقيقية، ذلك أن الكتابة في الأصل فعل يفترض أن يكون حرا من كل أشكال القيود، و إلا لما استحق صفة الإبداعية. أن نبدع يعني أن نصنع الوجود بشكل أدبي، أن نخلق حيوات أخرى وعوالم جديدة، لكن هذا الكاتب العربي المغبون يجد نفسه أولا أمام أسقف سياسية موضوعة له باسم المقدسات، فمتى اعترف القلم بالمقدس، لا قدسية تعلو على الحرف الحر الجريء. ثم يجد الكاتب نفسه أمام مجتمع مسكون بالميتافيزيقا، بحيث يتصيد لك الحرف ليقيسه على مقاس دين مفهوم بشكل سطحي ليُشهر بعدها في وجهك ورقة الزندقة بحجة المساس بالمقدسات والضرب في المسلمات. مجتمع مكبوت يحسب كل صيحة عليه، ليلقي بالاتهامات الجزافية على كاتب جسّد قبلة رومنسية في رواية مثلا. إن وصول الرسالة يتطلب كاتبا حرا وقارئا حرا أيضا. فكما قال جون بول سارتر “قدرنا أن نكون أحرار”.
ـــــــــ “وطني الإبداعي” :
وطني وحاضنتي الإبداعية هي الانتصار للحق أولا، ثم للقيم الإنسانية النبيلة التي من شأنها أن تلغي هاته التناحرات الخرقاء. أصبو لعالم لا يأكل فيه القوي الضعيف، لا يقصم فيه الغني ظهر الفقير… طبعا أدرك أن هاته يوتوبيا حلم بها كثير من الفلاسفة ولم تتحقق، ولكنني مؤمن بأن الوعي بهاته القيم من شأنه أن يجعل هذا العالم أقل دموية ووحشية، وأستحضر هاهنا مقابلة تلفزيونية قال فيها الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل: “علينا أن نتعلم شيئا من التسامح والعفو إذا أردنا أن نعيش مجتمعين لا أن نموت مجتمعين”. هذا وطني الذي يحلو لي فيه المقام، مجتمع إنساني يعيش لأجل الحب والسلام. وهذا ما تجدونه في كل أعمالي، فحين نقرأ مذكرات “الرغيف الأسود” نجد الاصطفاف إلى جانب الكادحين في البراريك، وعندما نقرأ راوية “كلانديستينو” نجد مؤازرة دول العالم الثالث التي تُجوّع وتُقتل وتُحتقر من طرف هذا الغرب الذي لا يخجل من تشدقه بالدفاع عن الحريات، وحتى عندما سنقرأ رواية الأديبة الإيطالية ماتيلدة سيراو “راقصة الباليه” التي ترجمتها من الإيطالية إلى العربية سنكتشف معاً أن الهامش هو ما يغريني بالكتابة.
ـــــــــ “الموجبات الكفيلة لتبريز أديب ليصبح من الرواد” :
أظن أن الموجبات الكفيلة بتبريز أديب معين، أن يكون أدبه صورة صادقة للتعبير عن قضايا عصره في هودج التجديد والإبداع بعيدا عن التقليد والتكرار. أن يكتب ويكتب بشكل جيد يمكنه من استيفاء وظائف الكتابة: الوظيفية التعبيرية: أن يعبر الكاتب عن ذاته. الوظيفة التأثيرية: أن يؤثر الكاتب في القارئ. الوظيفة المرجعية: أن يحيل الكاتب على الواقع. الوظيفة الجمالية: وهي الضامنة لكل الوظائف، أن يبدع نصا أدبيا يتغذى من جماليات الكتابة الأدبية مبنى ومعنى ومغزى. الوظيفة الحجاجية: أن يكون العمل الأدبي شاهدا على العصر، على الإنسان. وأعتقد أن هذا كفيل بتمكين الكاتب من أن يصبح رائدا في مجاله.
ـــــــــ “علاقة الأدب بالفلسفة” :
صحيح أن نشأة الفلسفة مع سقراط وأفلاطون كانت قطيعة جذرية مع الميتوس (الأسطورة) التي صيغت في قالب أدبي كما هو الشأن مع هوميروس، قالب يتأسس على الخيال والمجاز ومخاطبة الوجدان لا العقل. إضافة إلى تصوير تلك الأشعار للفضائل الإغريقية المتجسدة في الآلهة بشكل خليع ومفارق للمحسوس، لكن هاته الصورة لم تستمر على نفس المنوال خصوصا مع الفلسفة المعاصرة التي اعتبرت ثورة على فلسفات الوعي والفضيلة، فعلى سبيل المثال اعتبر نيتشه أننا يجب أن نقيم شعريا على هاته البسيطة، أي أن نفسح المجال للعواطف والمشاعر على حساب العقل الذي زكته الفلسفة القديمة والوسطوية والحديثة على حد سواء. هايدغر أيضا ذهب نفس المذهب وكذلك رائد الفلسفة الوجودية جون بول سارتر الذي لم يزعجه في شيء كونه فيلسوفا وأديبا في ذات الوقت، فكتب فلسفة في قالب أدبي (رواية الغثيان)، وهكذا تحولت هاته العلاقة المشحونة والتي كانت قائمة على القطيعة والتضاد إلى علاقة حب وتكامل، فأصبحت الفلسفة رافدا أساسيا من روافد الأدب، وغدا الأدب مجالا يقدم أفقا جديدا وإشارات جديدة للتفكير الفلسفي. ألم يسبر دوستويفسكي أغوار النفس البشرية في رواياته بشكل لا يخفى على عين الدارس وبشكل فلسفي وجودي أصيل ومبدع؟
ولعل هذا ما شكل حسب عدد كبير من النقاد نقطة قوة بالنسبة لكتاباتي، كونها مؤطرة فلسفيا وفيها تذويب فلسفي لافت، وعلى سبيل المثال كتبت في روايتي “كلانديستينو على جسر باسانو”: “وعاد الصوت الخافت يتردد في أذنيه من جديد: “لا تكن عبدا! كن سيدا!”. وجَالَ ببصره في أرجاء المكان، وسرح بخياله مُحاولا تمثُّل صورة محتملة لهذا الصوت الدافئ الحكيم الذي يوجِّه إليه كل هاته العبارات التي تدعوه إلى التحرر، ولا يدري لماذا استحضر لحظتها صورة الفيلسوف الألماني “فريدريك نِيتْشَهْ”، الذي غيَّرت نجوم السماء مواقعها لترسم صورته هنالك عند آخر نقطة يستطيع بصره بلوغها، لقد كان يرى نِيتْشَهْ حقيقة لا خيالا أو هكذا خُيِّل إليه. إنها نفس الصورة التي رآها على غلاف كثير من الكتب التي أُلِّفت حول نِيتْشَهْ، وتذكر آخر ما قرأ من دراسات حول هذا الفيلسوف المجنون الذي لا يُرى إلا والمطرقة في يده؛ كتاب “مدخل إلى نِيتْشَهْ” للمفكر الإيطالي “جَانِي فَاتِّيمُو”؛ نفس الشارب الكث ونفس النظرات المريبة والسحنة التي تدعوكَ للدهشة إزاء هاته الكاريزما النادرة”.
ـــــــــ “علاقة الكتابة الإبداعية بالذاتي والموضوعي” :
أعتقد أنه في كل عمل أدبي نصيب للذات، فالكاتب لا يستطيع بسهولة أن يخلع عباءة التنشئة الاجتماعية و المواقف الشخصية… لذلك فهو بشكل أو بآخر يعبر عن ذاته أو عبر ذاته عن قناعاته. ولا يؤرقني شيء من هذا، لكن المشكلة في اعتقادي أن تكون أفكار هذا الكاتب غير صادرة عن فكر حاد مبني على أساس النقد الذاتي وعدم التورع في هدم معتقدات ومسلمات لا يقبلها العقل. وإلا ستتحول المنجزات الأدبية إلى إيديولوجيا تعوزها الموضوعية. فبالقدر الذي نحتفي به بذواتنا عبر الكتابة، بذات القدر يجب ألا ننسى أن نضع مسافة فاصلة بيننا وبين أفكارنا كي لا تستحيل كتاباتنا إلى “دوغما”.
ـــــــــ “الاحتكاك الثقافي” :
كان أول ما احتككت به هو الأدب العربي القديم، حيث قرأت لشعراء الجاهلية وصدر الإسلام ثم استمتعت بروائع شعراء المهجر، وأما النثر فقد تأثرت كثيرا بما خطه نجيب محفوظ والعقاد… إلى حنة مينه، تأثرت أيضا بالأدب الإيطالي، فقرأت لإيميليو سالغاري ولويجي سافنيوني وألفريدو بانزيني وماتيلدة سيراو… وأعتقد أن ميلنا تجاه الأدب الفرنسي والإنجليزي قد حرمنا من ارتشاف رحيق الأدب الإيطالي والتنعم بكتبه المتنوعة الرائعة، وأكاد أجزم أن كعب هذا الأدب عال إذا قورن بالأدب الفرنسي والإنجليزي. ولا أذيع سرا إذا قلت إنني كثيرا ما أقف مشدوها أمام كتابات عديدة، يصدمني ذلك التفرد والتميز للكاتب الإيطالي الذي يعيش كأوبيرا متكاملة.
ــــــــ “سبل السعادة” :
وهل هناك من الناس من لم تتفرق به سبل السعادة!؟ أنا أزعم أن المهم في موضوع الحياة السعيدة ليس نقطة الوصول بل هي الطريق ذاتها، هو ذلك السعي المحموم والمستمر لنكون حيث نحب أن نكون، فلربما كان شقاء الطريق الوعرة مدعاة للسعادة الحقيقية، سعادة على المقاس الإنساني، لأن القول بوجود سعادة إنسانية بمعناها المطلق، يجعلنا نغامر بتوهم وجود حالة من الاكتمال. نحن كائنات ناقصة تسعى للاكتمال وهنا تكمن عظمة الإنسان الذي يسعى دائما ليتفوق على نفسه ومحيطه.
أما أنا فقد فقدت البوصلة مرارا وتكرارا، تقاذفتني أمواج الحياة على شطآن الخيبة والهزيمة واليأس ولا ميّاح في اليد، تحولت في فترة من فترات الحياة إلى معول صدئ أو قفة بأذنين معقوفتين، لكن ثورة الفلسفة والأدب لازمتني فقررت أن أعود من إيطاليا لأفسح المجال لمرحلة جديدة أعيشها بين أهلي وأحبابي متلمسا دروب الإبداع عبر الكتابة. وممارسا فعل الكتاب كالتزام اجتماعي وإنساني وكهوس شخصي أيضا، الكتابة للأنا والغير وللكتابة نفسها.
ـــــــــ “عجز الكلمات عن استيعاب كمّ الحزن والألم” :
طبعا هناك لحظات كثيرة عشت فيها هذا الإحساس المر، إحساس بأن الكلام ما عاد يجدي نفعا أمام كم الحزن والألم. رغم طفولتي الصعبة التي عشتها إلا أنني استطعت أن أقفز على ذلك الوضع، لكن أشد ما يحز في القلب ويجعلني أنزف الدمع هو هذا الوضع المشؤوم الذي أصبحت تعيش فيه بلداننا العربية. يقتلني هذا التمزق والتشرذم والهوان بين الأمم، هذا السقوط الصارخ من أمة كانت منارة للأنوار في الوقت الذي كانت فيه الأمم الأخرى تعمه في ظلام دامس، من أمة أنجبت ابن رشد والخوارزمي وابن الهيثم والزهراوي وأسطرلابي والجزري والإدريسي إلى أمة غدت العاهات فيها تطفح على السطح كالثآليل على الجلد، من أعلى الأعالي إلى الهاويات السحيقة. و بذات القدر أموت كمدا على كل كادح يعيش الأهوال بشكل يومي، على كل مكلوم قتلته أو تقتله أيادي الغدر والمشاهد عديدة، أهمس إليكم بمقطع من مذكراتي “الرغيف الأسود” حيث انتحر الكلام و لم أعد قادرا على استيعاب كم الشر الذي يختزنه هذا الانسان ليقترف جريمة مروعة كهاته، كتبت: “رأيت السطل مقذوفا بين الشجيرات، عمقت البحث فإذا بي أرى الجنين المسكين مدرجا في دمائه ملفوفا في وشاح تستخدمه لاقطات البطاطس، سالت دموعي، كان المشهد مرعبا، أصابتني دهشة وصدمة ورجة قوية؛ حملت بك أمك هنا، و رماك أولاد الزنا هنا أيضا، تودع الحياة في نفس النقطة التي انطلقت منها، رحلة صفرية، فعلها الكبار وأديت ثمنها أنت، ألقوا بك هناك، ولم يكونوا في حاجة لدفنك، لا شك أن الكلاب الضالة ستنهشك مثلما نهشت لحم أمك… الصغيرة كانت تبحث عن كسرة خبز بين حقول البطاطا دون أن تعلم أنها ستكون لقمة سائغة، لحما آدميا طريا وغصبا تفتح ساقيها بين سيقان الذرة. هذا ما خرجت به من الدنيا، من ظلام البطن، صرخة واحدة ثم يد غاشمة كتمت أنفاسك، فإزار حقير حاولوا أن يخفوا به آثار الجريمة، بحجة أنك يا صديقي ولدت ميتا!”.
ـــــــــ “رواتي: الرغيف الأسود” :
الرغيف الأسود في اعتقادي يدخل ضمن صنف المذكرات التي تحمل داخلها سيرة ذاتية وغيرية في نفس الوقت، وهناك من النقاد من صنفه ضمن صنف الرواية السيرية.
ـــــــــ “أدب السيرة في المغرب” :
رغم بؤس الحال الأدبي في المغرب وباقي البلدان العربية إلا أنني أرى أنه بخير لأن رايته مرفوعة دائما من أشخاص نذرتهم الحياة لأجل ذلك، فنحن مُقلون في إنتاج الكتاب لكننا وأقصد المغرب العربي غالبا ما ننتج فلتات من طينة مائزة.
ـــــــــــ “استحالة الفصل بين السيرة والرواية” :
نعم أنا أتفق تماما مع هاته الرؤية، وأعتقد أن الفصل بين الرواية والسيرة هو أمر غير صحيح بشكل مطلق وغير نافع ما دام أن الرواية تحمل في طياتها تجربة شخصية للكاتب، قد يوزعها في مجموعة من الروايات تفاديا للحرج أمام المجتمع من أن يحكي بلسانه، فيصنع أبطالا وشخوصا ويختلق أوضاعا وأحداثا وسياقات ليحكي عبر ذلك عن تجربته الخاصة، وبالتالي فأنا لا أرى في الفصل بين هذين النوعين أمرا صحيحا ولا مفيدا للمدونة العربية.
ـــــــــــ “مفهوم الاغتراب” :
ربما يحيل الفهم المتداول للاغتراب إلى الحالة التي ينزح فيها الفرد عن وطنه ويقيم في بقاع أخرى مفارقة لثقافته، لكن الاغتراب في اعتقادي يمتلك معنى أكثر عمقا وأكثر التصاقا بالإنسان بمعناه الكوني وليس المحلي؛ ذلك أن الاغتراب بمعنى معين ظاهرة مرتبطة بأناس أسوياء، أناس يشعرون بالاغتراب إزاء مجتمعاتهم، ولا تربطهم علاقة ودية بالثقافة السائدة، فيصبح هنا الاغتراب عدم تطبيع مع الأفكار السائدة والمتوارثة داخل المجتمع. إن الشخص الاغترابي يعيش لعنة الانفصام على الجماعة ونعمة الانتصار للذات المفكرة التي لا تقبل أن تمارس عليها الوصاية.
ــــــــــ “الترجمة والأدب الإيطالي” :
إذا انطلقنا من الأطروحة التالية : “إن فعل الترجمة هو فعل مثاقفة حقيقي”، فإننا سنقول بأن الترجمة هي الباب الأساسي لنقل ثقافات الشعوب الأخرى، والاستفادة من تلك التجارب الإنسانية العميقة، والانفتاح على الآخر بعين ترقب الأمور عن كثب وليس تصدير أحكام عن بعد. ولمّا كانت الثقافة الإيطالية واحدة من أهم الثقافات الإنسانية كان من اللزوم علينا الاشتغال على أعمال هؤلاء الكتاب العظماء. والواقع أن عدد الأعمال المترجمة من الإيطالية إلى العربية هزيل جدا مقارنة بلغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية. إن اشتغالي على ترجمة الأدب الإيطالي جعلتني أقف عند أعمال عظيمة جدا لم تلق نصيبها من الاهتمام عبر الترجمة والقراءة وهاته خسارة كبيرة لنا. فمن منا يعرف كاتبة كبيرة كمتيلدة سيراو، وكاتب مفكر كبير كألفريدو بانزيني…؟ إضافة إلى هذا، فأنا قد كنت مقيما بالديار الإيطالية لمدة طويلة وهذا ساهم بشكل كبير بتلمسي لحساسية الثقافة والموروث الأدبي والفكري الإيطالي، ومنذ تلك الفترة حملت على عاتقي تقريب هاته الثقافة من القارئ العربي قدر المستطاع، وإن كان عمل كهذا يحتاج لدعم مؤسساتي كبير وهذا ما نفتقد إليه صراحة في عالمنا العربي.
أما عن الشعر الإيطالي فأنا أدرك تماما بأنه باب أساسي من أبواب قراءة الأدب الإيطالي، لكنني لحد الآن لم أتجرأ على القيام بذلك، ولنقل أنها مغامرة محفوفة بالمخاطر، فترجمة الشعر غير ترجمة النثر.
ـــــــــ “إيطاليا والغربة و”كلانديستينو على جسر باسانو ” أية علاقة” :
لا شك أنها علاقة وطيدة للغاية، فلو لم أكن قد عشت في إيطاليا وعشت إحساس الغربة فلا أعتقد أنني كنت لأكتب روايتي “كلانديستينو على جسر باسانو”، إن الكاتب يستقي مواضيعه وشخوصه من وضعيات حياتية يعيشها ويتشبع بها، فيكتب بذاته وبالآخرين الذين شاطرهم أوضاعهم ومشاعرهم وهمومهم…
ــــــــــ ” قول الدكتور عبد المالك أشهبون : سبب انتشار الرواية لأنها فن ديموقراطي” :
أتفق تماما مع هذا القول، فالعلاقة بين الرواية والديموقراطية هي علاقة وطيدة للغاية؛ إنها الجنس الأدبي الذي يتماهى مع المجتمع الديموقراطي، فهذا الأخير يقوم على الحوار والاعتراف بالآخر والإيمان بالاختلاف وتثمين حرية التفكير والتعبير والتصرف، وهذا كل ما تحتاج إليه الرواية لكي تنتعش وتتطور. إنها بهذا المعنى الجنس الأدبي الذي لا يؤمن بأحقية شخص على آخر في السرد غير ما يمتلكه هذا وذاك من خيال وقدرة على السرد وتناول القضايا الإنسانية المهمة.
ــــــــــ “الرواية المغربية” :
من الجلي أن الرواية المغربية تعيش لحظة انتعاش كبيرة، فقد أصبح كتابها حاضرون في اللوائح القصيرة والطويلة لجوائز عربية مهمة، وهذا يعكس انفتاحا كبيرا للرواية المغربية على المشرق العربي، كما هو الشأن مع طارق بكاري في رائعته “نوميديا”، وعبد الكريم الجويطي في روايته المهمة “المغاربة”، وحتى إن كان المغاربة حاضرون بشكل أقوى في مجال الدراسات الفلسفية والفكرية والقراءات النقدية إلا أننا لا يمكن أن ننكر الحضور المتصاعد للرواية المغربية في فضاءات عربية عديدة، وقد كنت سعيدا بنشر سيرتي “الرغيف الأسود” في فلسطين والسودان وتونس، ومشاركتها في معارض عديدة، وهذا يؤكد على أن القلم المغربي هو قلم كوني بامتياز لكنني أرى أننا في حاجة ماسة هنا بالمغرب إلى تسويق أعمالنا بشكل أفضل وضرورة تأسيس منصات وندوات تعنى بهذا الدور المهم. وهنا يمكن أن نفتح نقاشا طويلا حول دور الجهات الوصية بالثقافة في إيصال رسالة هؤلاء الكتاب إلى المشرق بل والعالم بأسره، الأكيد أن المجهود المبذول ما زال ضعيفا ونحن في حاجة لأن نعمل أكثر حتى نؤسس لتيار روائي متكامل المعالم.
ــــــــــ “ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ وﻣﻬﺎﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻬﺮﻳﺐ” :
شخصيا عانيت كثيرا من هذا المشكل، معضلة التلقي، وهل يجب أن نخلص للحرف ونكتب ما يجب أن يكتب؟ أم نضع بعين الاعتبار القارئ وخلفياته الثقافية وبالتالي نكتب على حذر واستحياء فيتحول الأمر إلى كتابة ما يستسيغه القارئ؟ هي مشكلة حقيقية وأنا من الكتاب الذين يرون بأن الكاتب الذي لا يستطيع الدفاع عما يكتب من الأفضل له ألا يكتب من الأصل، فالكاتب ليس واعظا في مسجد، ولذلك فمن حب الكتابة ألا نلوي عنقها حتى يقبلها المجتمع المتخم بالدوغمائية حتى النخاع المسكون بالموروث حتى الثمالة. قبل أسابيع من الآن تمت استضافتي من طرف إحدى الندوات لمناقشة روايتي الأخيرة “كلانديستينو على جسر باسانو” واستغربت بشدة لعدم حضور مجموعة من الكاتبات الناقدات لمناقشة روايتي كما جرت العادة مع الروايات التي كنا نناققشها، وحجتهم في هذا الغياب أن روايتي تضمنت بعض المقاطع التي اعتبرن أنها “خليعة” والحال أنها مقاطع لم تكتب عبثا بل وردت لتبرز كيف يبيع الإنسان جسده بحثا عن لقمة عيش، وهو استلاب كان من الضرورة إبرازه. إن الشخصية العربية هي شخصية مسكونة بالميتافيزيقا، ملبوسة بالطابو، تخشى الوقوف عند حقيقة الأشياء، فتمارس الجنس ليلا وتجرمه نهارا… ولكن بعض الدواء يكون عن طريق الكي بالنار..
ـــــــــ “ﺍﻟﻨﻘﺪ الأدبي وإبداعاتي” :
يضطلع النقد بدور بالغ الأهمية فيما يتعلق بتطوير الإبداع إجمالا، وربما تجد الأعمال الأدبية صعوبة في الوصول إلى النقاد المهمين خصوصا في ظل التكتلات (الكليكات) النقدية التي نراها في مشهدنا النقدي اليوم، فالناقد المغربي كائن متعالٍ، ينظر للمبدع من برج عاجي، ويرى أن كتابة قراءة نقدية في عمل أدبي ما هي منة لا يجب أن ينساها الكاتب، والحال أن الكائنين معا هما وجهات لعملة واحدة فلا يكون الأول إلا بالثاني والعكس صحيح. إضافة إلى الكتابات النقدية التي تكتب تحت الطلب بمقابل مادي أو جنسي في بعض الأحيان أو مصالح شخصية وضيعة وكل هذا يبخس الأعمال الأدبية الحقيقية قيمتها.
شخصيا كُتبت قراءة نقدية مغربية واحدة حول كتابي الرغيف الأسود أما باقي القراءات والتي جمعتها في أزيد من ثمانين صفحة فقد جاءت من دول أخرى كتونس ومصر والعراق وبالخصوص فلسطين… أما الناقد المغربي الذي كتب قراءة حول كتابي فقد كان يرمي من وراء قراءته تلك إلى مقابل مادي وأنا لم أدفع له لأن فعل النقد يجب أن يكون عملا حرا لا ينتظر مقابلا وإلا تجرد من موضوعيته، فما كان من الرجل إلا أن حظرني على الفايسبوك وقاطعني تماما…
ـــــــــــ “ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻹﺑﺪﺍﻉ ﺑﺎﻟﻬﻮﻳﺔ” :
لا مندوحة في القول أن الإبداع بشكل عام والرواية بشكل خاص تؤسس للهوية وتثبتها في ظل هاته الهجمات التي توجه ضد الهوية، فحين يكتب كاتب عن بلده فهو يزكي الهوية المحلية أو الكونية ويدافع عنها، فما كتبته في روايتي كلانديستينو هو دفاع عن الهوية العربية ضد النظرة الأوروبية المتمركزة حول الذات وهكذا..
ــــــــــ “ﺍﻟرواية ﻣﺮﻛﺰ ﺍﺳﺘﺸﻌﺎﺭ ﻟﻄﻤﻮﺣﺎﺗﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ” :
من المؤكد أن الرواية تقدم للقارئ رؤية أكثر رحابة واتساعا للمستقبل وللتحديات التي تنتظرنا، فالروائي كائن مفكر بالضرورة، فهو يتأمل الواقع ويمتح من معين رؤيته النقدية ويحيك لنا خيوط نظرته الثاقبة في قالب سردي ومن تم فلا مناص لنا من الأعمال الأدبية حتى نفهم ما ينتظرنا. كما أن العمل الروائي هو خنجر في خاصرة الابتذال والسوقية والسطحية خصوصا في هذا الوضع الذي يبعث على الغثيان الذي أصبحنا نرزح تحته، فحين تقرأ رواية هادفة تدرك معنى الوجود وعمق الحياة فيتسع فكرك وترقى روحك..
ـــــــــ “ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺍلرواية ﻓﻲ ﻇﻞ ﻫﻴﻤﻨﺔ ﺍﻹﻋﻼﻡ ” ﺍﻟﺘﺮﻓﻴﻬﻲ ” ﺍﻟﺼﺎﺧﺐ” :
إن الرواية في اعتقادي هي قطب الرحى في مواجه هذه الهيمنة الملحوظة للمحتويات الترفيهية الصاخبة التي تتصف بالسطحية والإغراق في الابتذال، ذلك أن الشعوب العظيمة تقاس بمدى اهتمامها بالكتاب إجمالا والأعمال الأدبية بشكل خاص، هاته الأعمال التي تعمل على الارتقاء بالذوق العام وبالأخلاق الاجتماعية فتصنع مواطنا صالحا منسجما مع ذاته ومع هويتة عوض هاته الأفواج من الجماهير التائهة التي أفرزها هذا الإعلام الترفيهي التافه الذي أصبح يطفو على السطح من التآليل على الجلد. نحن في حاجة ملحة إلى إعادة النظر في أولوياتنا وفي طبيعة المجتمع الذي نصبو إليه، وهذا يتطلب تكافل الجهود، بين المثقفين والكتاب من جهة والدولة عن طريق أجهزتها الوصية.
عن موقع: فاس نيوز ميديا