هي لازمةٌ انفعاليةٌ وانطباعيةٌ جامحةٌ تتكرّر كلّما كتبتُ أو حاضرتُ عن موضوع يتعلّق بالأزمة الراهنة بين المغرب والجزائر ووضع جبهة البوليساريو وقرارات الأمم المتحدة. وبحكم تشبّع المزاج المغاربي بتفريعاته الجزائرية والصحرواية والمغربية بثقافة “النّيف”، و”الدّم سخون”، “ولو طارت معزة”، وبقية الأنَفَات المتعالية ومزاج التعصب وركوب أعلى الشجرة، تنمّ الرّدود والتعليقات في أغلبها عن تصوّرات متباعدة واستقطابات، بل وانشطار إلى شيع وقبائلَ تتنافس على احتكار “المعرفة” وملكية “الحقيقة”. وتتعسّف بالتّالي في تأويل ما أكتب، بل وتَتِيهُ في تصنيفي إمّا “مخزنيا”، أو “عيّاشيا”، أو “انفصاليا”، أو “كرغوليا”، وبقية الألقاب الشّاردة التي يسقطها أصحابها في الجو. وهذا أسلوب من لا حجّة لديه!
من يعمل مثلي في مجال تسوية الصراعات يتمسّك بالتّنقيب عن الوقائع الباردة، بعيدًا عن حرارة المواقف الحماسية والقوميات الانفعالية، خاصّة عندما تنمّ بعض الأفعال والمناورات عن بُعدٍ رمزيٍ أو استغلالٍ إعلاميٍ لتسجيل نقاط معينة أمام الكاميرات من أجل تصفيق الرّأي العام المناصر لهذا الطرف أو ذاك، كما حدث في اجتماع “تيكاد 9” في طوكيو خلال اليومين الأخيرين. وثمة مسؤولية أكاديمية وأخلاقية أيضا بضرورة تشريح القرارات والخطابات السياسية لتصفية الوقائع من الإسقاطات السياسية أو التوشيات الأيديولوجية باعتبار أنّ كلّ طرف يلوّح بمجرّد “نصف الحقيقة” وبهندسة مواتية في تركيب الخطاب، وليّ عنق المنطق السياسي، وتطويع التاريخ، والتلاعب بسيكولوجيا الجماهير حسب تعبير غوستاف لوبون. وبذلك، تتحرّك عملية استقراء المعطيات والمدخلات واستخلاص النتائج والمخرجات داخل مثلّث ملتهب حماسي في أغلبه، ولا يقبل الرأيَ المستقلَ أو الخلاصةَ غير المحابية. فيقلّ الأمل في أن أطرافًا معاندةً متشنجةً بطبعها قد تستوعب قياس العقل والتواضع للحقيقة، باستثناء فئة قليلة من ذوي الألباب.
لا غرابة أن يثير تحليلي لمشهد العراك غير الدبلوماسي وسوء تقدير الوفد الجزائري في طوكيو تضخّما في تشنّج أنصار طرف معين، مثلما ثارت حفيظة أنصار طرف آخر عندما انتقدتُ الإعلان الرئاسي للرئيس السابق دونالد ترمب الذي وعد به ب”الاعتراف بمغربية الصحراء” و”تشييد قنصلية أمريكية في الداخلة” في 10 ديسمبر 2020، باعتبار أنه لم يستند إلى قاعدة دستورية قوية مادام أنه لم يغدو معاهدةً يُوقع عليه أعضاء مجلس الشيوخ، وبالتالي تلتزم بها الولايات المتحدة، وليس مجرد حكومة ترمب، أو كما قلت وقتها “التحفيظ السياسي” بمنطق “التحفيظ العقاري”.
أتمسّك بعقلانيتي وأخلاقيات الفعل الأكاديمي وحياد فلسفة تسوية الصراعات والوساطة والتحكيم وبقية آليات الحدّ من التّصعيد. ولا أمِيلُ ولا أُسْتَمَالُ نحو تأليب المشاعر والنفخ في قِرَبٍ مثقوبة هنا أو هناك. ويكون من الأجدى بمن يُغذق عليّ تلك الصّفات القدحية، أو يُسقط عليّ جامّ لعناته وأحقاده، أن يردّ على مضمون ما كتبت أو يدحضه إنْ وجد فيه أي مغالطات. ويحرص التحليل على أن يكون قائما بذاته بمقومات الاستقلال والضوابط الأكاديمية. فإن وجد أنصار هذا الفريق فيه ضالّتهم، اعتبروه “أكاديميًا وموضوعيا”. أمّا إذا كشف لهم ما لا يودّون سماعه، سارعوا بهرولة الانفعال إلى تصنيفه “دعائيا”. وهو تذبذبٌ متأرجحٌ مألوفٌ من كافة أنصار المواقف المتنافسة مادام هناك مغاربيون تستهويهم الجذبة السياسية والعمى الأيديولوجي.
قال أحدهم: يُشْتَمُّ من مقالتك “رائحة الميل نحو الطرح المغربي”. فرددتُ إن هناك حواسّ متأرجحة الشمّ والذوق لديكم، مثلما “شمّ آخرون في الأمس القريب “رائحة الميل نحو الطرح الجزائري”. وقد حان الوقت لكم جميعا لعلاج أنوفكم المزكّمة عند أقرب عيادة وصيدلية. وبعد العلاج، ستنفذ رائحة تحليل الصراعات والطرح المستقل إلى ألبابكم دون عناء…”
تحوّلت المؤتمرات اليابانية الأفريقية للتنمية، سواء في الجولة الثامنة في تونس في أغسطس 2022 أو الجولة التاسعة حاليا في طوكيو في أغسطس 2024، إلى مناورات متجددة من قبل الجزائر في إقحام ممثل “الجمهورية الصحراوية” المعلنة من جانب واحد، ولا تعترف بها الأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وأيضا اليابان التي شدّد وفدها في المؤتمر على أن “حضور أي كيان لا تعترف به اليابان كدولة ذات سيادة في اجتماعات تيكاد 8، بما في ذلك اجتماع كبار المسؤولين واجتماع القمة، لا يؤثر على موقف اليابان فيما يتعلق بوضع هذا الكيان.”
يتسم موقف حكومة طوكيو بالوضوح بعدم الترحيب بوفد البوليساريو، ويلغي ما ذهبت إليه صحيفة الشروق الجزائرية التي كرست تبشيرا سياسيا غير واقعي بقولها “محاولة من وفد النظام المغربي الاعتداء الجسدي على الوفد الصحراوي، وهو التصرف الذي تحوّل إلى فضيحة في العاصمة اليابانية، استسلم في الأخير ممثلو النظام العلوي للأمر الواقع، أمام صمت السلطات اليابانية التي لم تتجاوب مع المطالب المغربية بإقصاء الوفد الصحراوي.”
أتمسّك بعقلانيتي في تحليل ما حدث في اجتماع طوكيو خلال جلستيْ الجمعة والسبت، وأبدأ بشريط الفيديو الذي يستعرض ما حدث داخل قاعة الاجتماع. ويثير مسعى الوفد الجزائري للتحايل على مشهد الاجتماع و”زرع” بطاقة “الجمهورية الصحرواية” قبيل بدء الجلسة بعض الملاحظات والأسئلة الباردة:
- جسّد عراك طوكيو تشنّجا وسوء تقدير متوازييْن لدى الدبلوماسية المغربية والدبلوماسية الجزائرية معا. وبدلا أن يحاول الدبلوماسي المغربي استبعاد إسم “Sahara Republic” ببادرة عنف فجّ، كان للوفد المغربي أن يسجل تحفظه لدى سكرتارية المؤتمر ووزارة الخارجية اليابانية، وهو ما تقتضيه الأعراف الدبلوماسية الدولية. وما بُني على تشنج سيأتي بتشنج مضاعف عندما أمسك به الدبلوماسي، أو المصارع الجزائري، وأسقطه أرضًا. وهذه حالةٌ لا تؤكد انقلاب الفعل الدبلوماسي إلى فعل لادبلوماسي ممعن في ضحالته فحسب، بل وأيضا تثير إشكالية جديدة في تحديد المفاهيم المتحورة: هي الدبلوماسية المغاربية بشقيها المغربي والجزائري من تصنيف “عراك رياضة الجيدو” أم “عراك المصارعة الرومانية”، أم من صنف جديد ابتكره هؤلاء المغاربيون، ويمكن الاصطلاح عليه ب”بدبلوماسية المناطحات الجسدية” للتبشير بظهور رياضة جديدة عند تقاطع السياسة والرياضة في الأدغال المغاربية.
- إذا كانت سكريتارية المؤتمر ووزارة الخارجية اليابانية قد وجّهتا الدّعوة إلى وفد “الجمهورية الصحرواية” أو “جبهة البوليساريو” رسميا، فهل يحتاج السفير الامين باعلي لأن يُخرج إس“ Sahara Republic” من محفظته ويُقحمها في غير موضعها من الترتيب الابجدي الاعتيادي “S” عنوةً بين دول “Z” وهي زامبيا وزمبابوي. يقول بعض المشاركين في المؤتمر إن السيد بعلي “يحمل جوازا جزائريا”، وأنه رفض الرد على سؤال ما إذا كان قد تلقى الدعوة من الحكومة اليابانية دعوة بصفته ممثلا عن “الجمهورية الصحراوية”. يمكن للسيد باعلي حسم الجدل بنشر نسخة “الدعوة الرسمية” في هذا الصدد؟ تحضر الدول عادة بمكانتها الاعتبارية والاعتراف الدولي بوجودها تلقائيا، فهل أصبح تهريب “جمهورية” يتمّ في حقيبة يدوية على طريقة تهريب البشر في حاويات؟
- أوضحت الحكومة اليابانية موقفها بالقول: “حضور أي كيان لا تعترف به اليابان كدولة ذات سيادة في اجتماعات تيكاد 8، بما في ذلك اجتماع كبار المسؤولين واجتماع القمة، لا يؤثر على موقف اليابان فيما يتعلق بوضع هذا الكيان.” وقد تفادت سكريتارية المؤتمر حدوث استعراضات عضلية أخرى في جلسة السبت التي تحدث فيها وزير الخارجية الياباني كاميكاوا يوكو وممثل موريتانيا وممثل الاتحاد الأفريقي. وقال مسؤول ياباني لمراسل أراب نيوز إننا “سنتخذ القرار المناسب.” وحضر السيد بعلي في جلسة السبت بعد جهود وفديْ الجزائر وجنوب أفريقيا إقناع سكرتارية المؤتمر ومسؤولي وزارة الخارجية اليابانية الذين أوضحوا مجدّدا أنّ بلادهم لا تعترف ب”الجمهورية الصحرواية”. وينبغي التذكير بأن هندسة الخطاب أو تركيب الصورة المنشودة لا تغير برغماتية الحكومة اليابانية في هذه المرحلة.
- أن وزارة الخارجية الجزائرية لم تأخذ العبرة مما حدث في اجتماع تونس قبل عامين، وإنما تمسّكت بعنادها وانفعالها بأن تتحدى إرادة اليابان وقرار الاتحاد الأفريقي، وتتعامل بمنطق الفوقية ومحاولة فرض الأمر الواقع على دولة أسيوية ذات سيادة ومنظمة إقليمية لها ضوابط العضوية وشروط التمثيل في المؤتمرات الدولية. ويدرك وزير الخارجية أحمد عطاف ومسؤولو الاستخبارات الجزائرية جيدا أن بروتوكولات المؤتمرات الدولية لا تخضع لاندفاعات #التحايل أو بهلوانيات التمويه والخديعة في اللحظة الأخيرة من بدء المؤتمر، أو التنطّع لما تقرر مسبقا في ترتيب القاعة وتسلسل مقاعد التمثيل للدول حسب الترتيب الأبجدي، وأيضا تحديد جدول الأعمال وأسماء رؤساء الوفود الذين سيلقون الخطابات.
- لا ينال مشهد التراجيديا السياسية بحدوث مصارعة بدنية فعلا ووقوع بعض المشاركين أرضا من سمعة الحكومة اليابانية ومستوى تنظيم المؤتمر، بل يضع الدبلوماسية الجزائرية في “خانةاليكّ”، كما يقول أصدقاؤنا الشّوام. ويسقط عليها انطباع الانفعال والتعنت، وليس الفعالية أو المنحى البراغماتي في تدبير أحد الملفات الرئيسية في سياستها الخارجية من سجالات الاتحاد الأفريقي.. إلى اجتماع طوكيو.. إلى جلسات مجلس الأمن الدولي.
- كانت الجزائر تتمسك منذ 1975 بأنها ليست طرفا في الصراع وأنه ثنائي حصريًا بين البوليساريو والمغرب، بل وتنصّلت من الاستجابة لدعوات الأمم المتحدة بالمشاركة في مفاوضات ينبغي أن تتمّ “بحسن نية ودون شروط”، كما أوصت قرارات مجلس الأمن خاصة في السنوات الأربع الماضية. بيد أن ما قام به الوفد الجزائري، سواء من خلال مشهد التحايل في الجلسة أو تمرير بطاقة هوية أحد الدبلوماسيين الجزائريين إلى ممثل البوليساريو عند التقاط الصورة التذكارية الجماعية في اجتماع طوكيو، يعزز القناعة لدى الحكومات والرأي العام العالمي أن الجزائر تتصرّف على أنها صاحبة الوصاية والرعاية الدبلوماسية، وأنها بالتالي مصدر الدعم المالي والسياسي لجبهة البوليساريو. وتمهد لخلاصة حتمية مفادها أن وضع جبهة البوليساريو سلبا وإيجابا رهين بالاستراتيجية الجزائرية، مما يعيد إلى الذاكرة بداية الصراع وسط خلافات وتحديات شخصية بين الراحلين الرئيس الهواري بومدين والملك الحسن الثاني.
- ملاحظة أخيرة وهي الأكثر سلبية عندما تصبح المهام الدبلوماسية أحيانا عرضة لاجتياح مركّب التشنج النفسي والتعصب إلى حد أنهما يُفرغانها من روحها ومحتواها. فلا غرابة أن يكون الوفد الجزائري والوفد المغربي قبل وخلال المؤتمر مشدوديْن بالكامل إلى هذه المعركة الدبلوماسية بأبعاد سياسية في ظاهرها، لكنها مجرد أبعاد رمزية في باطنها. فقد أصبحت قضية تمثيل “الجمهورية الصحراوية” من عدمه أمّ المعارك وأقصى المقاصد أهم من التركيز على الغاية من المؤتمر من أساسه. ولا أحد يسأل عن حصيلة مشاركة الوفدين في باب التعاون وآفاق التنمية ضمن هذا التقارب بين اليابان والدول الأفريقية.
- الملاحظة الأخيرة تفيد بأن ما حدث في تونس وما يحدث في طوكيو يجسد بنية التفكير لدى رأس الدبلوماسية أحمد العطاف في هذه المرحلة، وتوحي بمقارنة ضمنية مع بنية تفكير سلفه رمطان لعمامرة الذي لم يكن ليوافق على الأرجح بتلك المجازفة في مؤتمر دولي وفي ضيافة بلد أسيوي يشتهر أهله بالتدقيق في صغائر الأمور وكبائرها.
قد تكون خلاصاتي بمثابة دوائر تكشف مدى تباعد الرؤى بين الأطراف وتفاعل أنصارهم بحدّة عدوانية، ولا تنفتح لها النفوس المشدودة إلى حماستها وتعطشها لأي “نصر” رمزي. وقد يتصورّها البعض بمثابة مستطيلات بزوايا حادة، ويتخيلها البعض الآخر بمثابة مثلثات ذات زوايا أكثر ضيقا أو حدّة. بيد أن الانغماس العاطفي في نزعات التعصب بسبب ديمومة الصراع يجعل من الصعب التخلي عن أنساق أو بنيات تفكير معينة، وقبول عقلانية باردة محايدة!