بقلم: عبد الصمد الشنتوف
وأنا جالس فوق أريكة خشبية، نظرت إلى فناء الدار. كانت ليلة صيفية هادئة تغري على السمر. حدقت طويلا في نافورة رخامية صغيرة ينبعث منها الماء بقوة. شدني مشهد الماء وهو يتراقص في السماء تحت ضوء القمر.
على الجانب القصي من الصالة، كان أبي يدس وجهه وسط صفحات مجلد ضخم. مجلد بلون أزرق داكن مكتوب عليه: تفسير القرآن للشيخ الصابوني. مع تقدمه في العمر، لم يعد أبي منشغلا كثيرا بكتب السياسة كما في سابق عهده، بل أصبح منكبا على التهام كتب الفقه والتفسير دون أن يتخلى عن اقتناء جريدة العلم كل صباح.
كان أبي متيما بزعيمه علال إلى حد الهوس. إذ كان يعتبره قدوته العليا في علوم الدين والسياسة، حتى أنه لم يكن يطيق سماع انتقاد لزعيمه العلامة مهما كان خفيفا ولو على سبيل المزاح.
عندما كنت صغيرا، كنت أطارد الكلاب بلا رحمة رفقة رفيقي رشيد، الذي كان بدوره شرسا وخصما لذوذا للحيوان والكلاب على وجه التحديد. كنا نشعر بنشوة فائقة ونحن نركض خلفها وسط كتبان رملية كثيفة ب”جنان فرانسيس” المترامي الأطراف بغية ملاحقتها والتنكيل بها، ذلك أننا كنا نعتقد أنها كائنات بلا قيمة وبلا روح، وبالتالي لا تستحق الحياة. لكن حين كبرت وسافرت إلى بلاد الإنجليز تبدلت نظرتي من تلقاء نفسها إزاء عدة أمور في هذه الحياة الموحشة. مع اختلاطي بالإنجليز واطلاعي على عاداتهم وثقافتهم رممت علاقتي بالحيوان وغيرت بعض أفكاري المغلوطة، لا سيما عندما تعرفت على ريتا صاحبة ضيعة التفاح وكلبها المدلل “لولو” الذي سيصبح صديقي لاحقا.
كان أبي مدمنا على شرب الشاي بالنعناع إلى حد الثمالة. غالبا ما كان يمزجه بعشبتي أزير والزعتر ليتحول إلى مشروب مختلف بنكهة مميزة. بمجرد ما يقذف الكوب الأول في جوفه يشرع في الحديث عن أهوال يوم القيامة. بعد ذلك، يتبعه بكوب ثان وثالث إلى أن يعدل مزاجه، ثم يبدأ في التفلسف على طريقة أتباع المتصوف الحلاج.
لم يكن أبي يطيق رؤية الجرذان في البيت، ومع ذلك كان يعترض علي حين أهم بمهاجمتها وأنوي إذايتها. أذكر أن جرذا ضخما بشلاغم طويلة تسلل إلى داخل بيتنا واختبأ تحت كنبة خشبية، فما كان مني إلا أن هرعت إلى المطبخ لأحضر عصا غليظة وأخذت في مطاردته، لكن أبي كان له رأي آخر. أمرني أن أفتح الباب وأتركه مشرعا على مصراعيه. فجأة، أتى بمنديل أبيض وأحنى ظهره ليطل تحت الكنبة على الجرذ المرتجف. وكأنه أراد أن يحاوره ويبعث له رسالة اطمئنان. بدأ يلوح له بالمنديل في وجهه فيما الجرد بدا مرتبكا، لبث جامدا في مكانه يحدق في المنديل بعينيه اللامعتين. كان أبي يقصد منحه الأمان وحثه على الخروج. لكن الجرذ بسبب الخوف والتردد الشديدين ظل حائرا لا يدري ماذا سيصنع. ما لبث أن شرع أبي يتلو عليه بعض آيات القرآن الكريم، ليغمغم بعدئذ بكلمات لم أتبين معناها. وما هي سوى لحظات حتى انطلق الجرذ كالسهم وفر مسرعا تجاه الباب المشرع. لم أتمالك نفسي فركضت وراءه بعصاي الغليظة لملاحقته. خلت نفسي مثل “سبارتاكوس” وهو يتأهب لمبارزة خطيرة، بينما أبي كان يصرخ خلفي بصوت عال: دعه يذهب، دعه يذهب! لديه الحق في الحياة! دعه يعيش ويقتات من خشاش الأرض. سرعان ما انعطف الجرذ جهة اليسار واختفى في لمح البصر وسط أحراش محاذية للدار.
أكاد أجزم أنني عشت طفولة مسلية. حينما كنت طفلا، كنت ألحظ مدى تسامح أبي ورقة قلبه تجاه الحيوان. ذلك أنه يختلف عني كثيرا، ويمتلك كاريزما مغايرة. ولديه من المفاهيم والقناعات ما يجعلك أحيانا عاجزا عن إدراكها وهضمها، وكأنك أمام استيهامات يصعب تفكيك شفراتها.
أبي يعتقد أن الجرذان حيوانات مسالمة، ولديها الحق في الطعام والتزاوج والعيش الكريم، ولا غرو أنها أفكار تصيبني بالضيق والإحراج، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالكلاب الضالة، ناهيك عن الجرذان القذرة. في نظره، الجرذان لا تقتحم البيوت سوى بحثا عن الكلأ للبقاء على قيد الحياة، ولا تقصد إذاية أحد، وإلا من أين ستأتي بالطعام إن لم تتسلل خفية إلى بيتك وبيوت الآخرين يردد أبي. عيبها الوحيد هو شكلها المقزز وعيشها بين المجاري والقاذورات وأكوام القمامة.
اعتقدت دائما أنه رغم رجاحة عقل أبي وتوازنه النفسي، إلا أنه أحيانا كان يهذي ويقول حماقات. حماقات أولائك الفقهاء الذين يحفظون عن ظهر قلب آلاف من المتون وأبيات الشعر، ويستقون أفكارهم من كتب عتيقة صفراء تعود لزمن الدمياطي. لكن تلك قصة أخرى.
أحيانا تستحوذ على ذهن أبي أفكار غريبة، فتجده مثلا يقول إن الجرذان تؤدي دورها وفق قوانين ثابتة تخضع لمشيئة الله وناموس كوني لا يحابي أحدا، لأنها تعيش وسط حاضنتها وبيئتها الطبيعية. كما أنها لا تحمل أي عداء مستحكم حيال القطط ولا الإنسان، بل العكس هو الذي يحصل دائما. القطط بأنانيتها وانتهازيتها الفجة هي من تبادر إلى العدوانية بتحريض من الإنسان، ولا تكف عن مطاردة الجرذان بلا هوادة. الحيوان عادة لا يعادي الإنسان إلا نادرا، بل هذا الأخير هو من يناصب العداء ويغدر بأخيه الإنسان. الإنسان عدو الإنسان والحيوان على حد سواء، ولديه نزوع فطري نحو الفساد في الأرض. لا ريب أنه كائن غادر وقح يردد أبي. وإن لم تصدقني فما عليك سوى التنقيب في مراجع التاريخ الغابر والحاضر، لتجد أن نصوصا دينية ووقائع على الأرض تؤكد ما ذهبت إليه…
طنجة 29 شتنبر 2024
عن موقع: فاس نيوز