قراءة في قصة “ريم والجدة فاطمة” للمبدعة المغربية الدكتورة فاطمة الديبي :أ. نصر سيوب

          "ريم والجدة فاطمة":

جلست ريم الصغيرة بجانب جدتها على الأريكة الناعمة، كان المنزل هادئاً، لا يسمع سوى صوت عقارب الساعة تتناغم مع صوت التلفاز الخافت في غرفة الجلوس.
نظرت ريم إلى جدتها التي كانت تجلس مستندة على وسادة زرقاء، وهي تشاهد التلفاز باهتمام. شعرت ريم بدفء يملأ قلبها، فطلبت من جدتها بعد انتهاء الاخبار أن تحكي لها قصة عن أيام زمان، ابتسمت الجدة بحنان وبدأت تحكي:
في زماني يا حبيبتي، لم تكن هناك هواتف ذكية ولا أجهزة كمبيوتر ولا تلفاز ذكي كالذي عندكم الآن.. كنا نلعب في الشارع، نركب الدراجات، ونصنع بيوتاً من الرمال. كنا نجمع الزهور البرية ونصنع منها أكاليل وتيجان للرؤوس، ونكتب الرسائل لأصدقائنا ونرسلها بالبريد. وكنا نتابع الرسوم المتحركة التي تتحدث عن القصص والمغامرات كسيف بن ذي يزن الملك اليمني الذي حارب الجن، والسندباد البحري الذي خاض رحلات سبع وكان يعود لبلده بكل ما طاب من أكل وملابس وحلي بعد أن جاب البحار وقام بمغامرات خيالية، وعلاء الدين والمصباح السحري….
في زماننا كان الوقت يسعفنا لصنع أي شيء، كانت أيدي الأمهات تصنع أجمل الهدايا لأطفالهن من بقايا الأقمشة الملونة، والخيوط المتنوعة، والحشوات الطبيعية كالقطن أو الصوف، كانت الأمهات يسخّرن أصابعهن لصنع دمية فريدة لكل طفلة.
كانت كل دمية تحمل لمسة من حب الأم، كانت الدمية أكثر من مجرد لعبة، كانت صديقة، ورفيقة، وسرّاً يشاركه الطفل كل أفكاره وأحلامه.
كانت الأم تصنع الخبز والكعك، وتطحن القمح، وتطهو ما لذ وطاب بحب وحنان… كانت المنازل غير منازل اليوم.
استمعت ريم بشغف إلى جدتها وهي تتحدث إليها عن ما ميز الماضي عن الحاضر..
صمتت الجدة برهة ثم عادت للحكي مرة ثانية بعد أن سألتها ريم عن سبب قولها أن المنازل قديما تختلف عما هي عليه الآن، فأجابت :”كانت المنازل أكبر وأكثر دفئاً، كانت الجدران سميكة، والنوافذ مصنوعة من الخشب. كنا نجتمع كلنا في غرفة واحدة، نشاهد التلفاز، ونلعب الألعاب، ونحكي النكات. لم يكن هناك أنترنت، ولكن كانت لدينا عائلات قوية، وأصدقاء مخلصون، وجيران أقرب إلينا من الأهل.
استمرت الجدة في الحكي وكأنها تعيد ريم إلى زمن آخر، زمن البساطة والسعادة.
يا حبيبتي، في زماننا حتى الحمّام كان أكثر من مجرد مكان للاستحمام، كان ملتقى للنساء، نلتقي فيه كل أسبوع، نحكي القصص، نضحك، ونشرب الشاي الحلو. كنا ننسى هموم الدنيا ونستمتع بصحبة بعضنا البعض،
كانت النساء يتجمعن في مجموعات، صديقات أو قريبات، ليذهبن إلى الحمّام معاً، كان ذلك فرصة للتواصل الاجتماعي وتبادل الأحاديث.
كانت هناك أوقات محددة في الأسبوع أو الشهر تفضّل النساء الذهاب فيها إلى الحمام، وكذلك أيام العيد والمناسبات الخاصة.
كنّ يحملن معهن سلالاً مليئة بالأدوات اللازمة كالصابون البلدي، و”الكيس”، والعطور الطبيعية، والحناء المدقوقة باليد، والشاي والبسكويت لتناولهما بعد الاستحمام.
كنّ يرتدين ملابس قطنية خفيفة وفضفاضة سهلة الحركة، ما كنا نتباهى على بعضنا فقد كانت القلوب طيبة مسالمة، وما كان الحمام بهرجة وعرض للأزياء مثلما عندكم.

استمعت ريم إلى حكايات جدتها عن المحبة والصداقة وحسن الجوار وعن دور العم والخال ولمة الأسرة….
وعندما حانت ساعة النوم، أخذت ريم معها إلى فراشها الكثير من الذكريات الجميلة، وهي تشعر بالامتنان لجدتها وللحكايات التي روتها لها، وعرفت أن الماضي، مهما كان، يظل جزءاً مهمّاً من حياتنا، وأن الحكايات التي نرويها للأجيال القادمة هي كنز لا يُقدر بثمن.
****
ــ مقدمة :
تُعد قصة “ريم والجدة فاطمة” للمبدعة فاطمة الديبي نموذجاً رائعاً يسلط الضوء على العلاقات الأسرية وأهمية الذاكرة الجماعية. من خلال سرد الجدة لذكرياتها، تُظهر القصة كيف أن الحكايات تعتبر جسراً يربط بين الأجيال المختلفة، مُعززةً القيم التقليدية في مواجهة التحولات الحديثة.

ــ في أحضان القصة :

1ــ دراسة العنوان :
العنوان جاء جملة اسمية يتكون من معطوف ومعطوف عليه وبدل؛ ف”ريم”: مبتدأ مرفوع، و”الواو” : حرف عطف مبني على الفتح، و”الجدة” : معطوف على “ريم”، و”فاطمة”: بدل مطابق تابع للمبدل منه في الرفع، والخبر محذوف يمكن تقديره ب “تتسامران” أو “تتحدثان”.
ودلاليا؛ يُبرز العنوان العلاقة الثنائية بين الأجيال، حيث ترمز “ريم” إلى الطفولة والحداثة، بينما “الجدة فاطمة” تمثل الحكمة والتراث. اختيار الاسمين يُشير إلى حوارٍ بين زمنين، ويُؤطِّر القصة كجسرٍ بين الماضي والحاضر. استخدام كلمة “الجدة” بدل اسمها المجرد يُؤكد دورها الرمزي كحافظة للذاكرة الجماعية، مما يعمق فكرة التوارث الثقافي.

2 ــ الأحداث :
تبدأ القصة بجلوس ريم الصغيرة بجانب جدتها فاطمة على الأريكة في منزل هادئ، حيث لا يُسمع سوى صوت عقارب الساعة وصوت التلفاز الخافت. تطلب ريم من جدتها بعد انتهاء الأخبار أن تحكي لها قصة عن الماضي، فتبتسم الجدة بحنان وتبدأ في سرد ذكرياتها. تصف الجدة حياتهم القديمة التي تخلو من الهواتف الذكية والأجهزة الحديثة، حيث كان الأطفال يلعبون في الشارع، يركبون الدراجات، ويصنعون بيوتاً من الرمال، بينما كانت الأمهات تصنع الدمى من الأقمشة والخيوط المتبقية، وتُعدُّ الأكلات التقليدية بحب. تذكر الجدة أيضاً كيف كانت العائلات تجتمع في غرفة واحدة، تشاهد التلفاز، وتضحك معاً، بعيداً عن العزلة التي يفرضها الإنترنت اليوم.
تستطرد الجدة في حكاياتها عن طقوس الحمّام القديمة، حيث كانت النساء تلتقين كل أسبوع ليحكين القصص ويشربن الشاي، محمّلات بسلال من الصابون البلدي والحنّاء، مرتديات ملابس بسيطة دون تباهٍ. تروي أيضاً عن الرسوم المتحركة التي كانت تعرض مغامرات أبطال مثل سيف بن ذي يزن والسندباد، والتي كانت تُغذي خيال الأطفال.
عندما تسأل ريم عن سبب اختلاف المنازل القديمة عن الحالية، توضح الجدة أن المنازل كانت أكبر وأكثر دفئاً، بجدران سميكة ونوافذ خشبية، تجمع العائلة في مكان واحد. تنتهي القصة بحلول وقت النوم، حيث تأخذ ريم معها ذكريات الجدة إلى فراشها، وهي تشعر بالامتنان للحكايات التي سمعتها، وتدرك أن الماضي جزءٌ لا ينفصل عن حاضرها، وأن تلك الحكايات كنزٌ يجب حفظه ونقله للأجيال القادمة.

3 ــ اللغة :
بسيطة وعاطفية تناسب جمهور الأطفال، مع استخدام مفردات حسية مثل: “دفء يملأ قلبها”، “صوت عقارب الساعة”؛ لخلق جوٍّ حميميّ. الوصف التفصيلي للحياة القديمة (كصنع الدمى من الخيوط والقماش) يُجسد البساطة ويُقابلها التكنولوجيا الباردة في الحاضر.

4 ــ الشخصيات :
ــ ريم : الطفلة الصغيرة التي تمثل جيل الحاضر، تتسم بالفضول والشغف لمعرفة الماضي، وهي رمز الأمل في استمرارية التراث عبر الأجيال.
ــ الجدة فاطمة : حارسة الذاكرة، تجسد الحكمة والتراث، وتلعب دور الراوي الرئيسي للقصة الفرعية، وهي جسر بين الزمنين حيث تربط ريم بجذورها الثقافية عبر الحكايات.
ــ شخصيات ثانوية :

  • الأمهات في الماضي : يظهرن كرموز للإبداع والعطاء (مثل صنع الدمى والخبز).
  • الأصدقاء والجيران : يعكسون قيم التضامن الاجتماعي المفقودة في الحاضر.

ــ الزمان والمكان :
١ـ الزمان :

  • زمن الحاضر : ليلة هادئة في المنزل، يُرمز إليه بـ “صوت عقارب الساعة”.
  • زمن الماضي : يُستعاد عبر حكايات الجدة، ويشمل فترات الطفولة والشباب في حقبة ما قبل التكنولوجيا.

٢ـ المكان :

  • منزل الجدة : مكان مغلق دافئ، يجمع بين عناصر الحداثة (التلفاز) والتراث (الأريكة الناعمة).
  • أماكن الماضي :
    • الشارع (فضاء اللعب والتواصل).
    • الحمّام العام (ملتقى النساء للاجتماع وتبادل القصص).
    • المنازل القديمة (الغرفة الواحدة التي تجمع العائلة).

6 ــ السرد والحكي :
اعتمدت الكاتبة رؤية سردية خارجية “الرؤية من الخلف” تُقدم وصفا عاما للأحداث والمشاهد، مثل هدوء المنزل ودفء العلاقة بين ريم وجدتها، مع قدرتها على كشف مشاعر الشخصيات الداخلية، كشعور ريم بالامتنان أو حنين الجدة. لكنّ هذه الرؤية تتحول إلى منظور داخلي “ضمير المتكلم” عندما تبدأ الجدة في سرد ذكرياتها، فتُصبح الحكايات نابعة من رؤيتها الشخصية للماضي، وكأن القارئ يرى العالم من عينيها.
تعمل الكاتبة على ربط الأزمنة والأماكن، فتنقل القارئ بين حاضر ريم الهادئ وماضي الجدة المليء بالحركة، مع تركيزها على التفاصيل الحسية التي تعكس دفء الماضي وبساطته. أما الجدة فتصبح ساردةً ثانويةً عندما تروي حكاياتها، فتؤدي دورا مزدوجا: تنقل التراث والقيم إلى حفيدتها، وتنتقد – من خلال المقارنات – عزلة الحاضر رغم تطوره التكنولوجي.
فالتفاعل بين الساردتين (الكاتبة والجدة) يخلق حوارا بين جيلين؛ فالكاتبة تمنح الموضوعية للقصة، بينما حكايات الجدة تُضفي عليها عاطفة وذاتية تُبرز رسالتها حول أهمية الذاكرة. هذا التناوب يجعل السرد ليس مجرد نقل للأحداث، بل وسيلة للحفاظ على الهوية عبر ربط الماضي بالحاضر، وتذكير القارئ بأن الحكايات ليست للترفيه فحسب، بل لصنع جسرٍ بين الأجيال.

7 ــ الرمزية :
ـ ريم والجدة : سبق ذكر رمزيتهما.
ـ المنزل : يرمز إلى الدفء العائلي والاستقرار.
ـ عقارب الساعة : ترمز إلى استمرارية الزمن ودور الذاكرة في مواجهة نسيان الماضي.
ـ الدمية : ترمز إللى الطفولة والبراءة، وإلى العلاقة الوثيقة بين الأم وابنتها. ـ الحمّام : يرمز إلى التواصل الاجتماعي والتفاعل الإنساني بين النساء.
ـ الحنّاء والأدوات التقليدية في الحمّام : رموز للطقوس التي تعزز الانتماء الثقافي.
ـ الرسوم المتحركة القديمة (سيف بن ذي يزن، السندباد) : تُجسِّد القصص التراثية التي تُغذي الخيال الجماعي، في مقابل المحتوى الرقمي الفردي اليوم.

8 ــ الرسائل :
تقدم القصة رسائل مهمة تتجسد في أهمية الحكايات التي ترويها الأجيال السابقة باعتبارها كنزا يعزز الهوية الثقافية والتراثية، ودور المرأة القوي في حفظ التراث ونقله إلى الأجيال. وكذا بدعوتها إلى الشعور بالامتنان تجاه الأجداد والأشخاص الذين يحملون تاريخ العائلة، بالإضافة إلى تشديدها على أهمية قضاء الوقت مع العائلة وتبادل الخبرات والذكريات.
كما أن الكاتبة تنقد العزلة الحديثة، بسبب تطور التكنولوجيا، التي تسببت في تفكك الروابط الإنسانية (مقارنة بين اجتماعات الحمّام والعزلة المعاصرة)، إلا أنها ليست رافضة له لكنها تدعو لعدم التخلي عن القيم الإنسانية المرتبطة بالتراث.

ــ خاتمة :
تُعتبر “ريم والجدة فاطمة” ليست مجرد قصة للأطفال، بل هي دعوة للتأمل في أهمية التواصل بين الأجيال والحفاظ على التراث الثقافي، وتُعتبر مناجاة شعرية للماضي، تستخدم تقنيات سردية بسيطة لكنها عميقة، لتعبر عن قلقٍ وجوديّ من اندثار القيم الإنسانية. الشخصيات والأحداث والفضاءات جميعها تخدم رسالة واحدة : “الحكايات ليست للترفيه، بل هي أداة مقاومة ضد نسيان الهوية والثقافة والتراث”.