تازة: لطالما استعصت مدينة تازة على الغزاة والمحتلين عبر تاريخها الممتد من العصور الوسطى إلى فترة الاحتلال الفرنسي. ويعود هذا الصمود إلى موقعها الجغرافي الفريد الذي يتحكم في ممر استراتيجي، بالإضافة إلى تضاريسها ومناخها الصعب، وشجاعة سكانها الذين نشأوا في كنف طبيعة قاسية.
هذا الموقع المميز جعل من تازة محط أنظار الثوار والمنشقين والطامحين في الحكم، كما لفتت إليها سلاطين فاس ومراكش. لذا، ليس من المستغرب حضورها القوي في كتب التاريخ واستمرار تداول اسمها حتى يومنا هذا، كرمز للصمود والاستعصاء في الذاكرة الجماعية.
“مفتاح الغرب وقفله”: نشأة مدينة استراتيجية
نشأت تازة في القرن العاشر الميلادي على يد قبيلة مكناسة الثائرة على حكام القيروان، الذين عمدوا إلى بناء تحصينات عسكرية في هذا الممر الضيق الرابط بين الريف والأطلس. وسرعان ما أقام الثوار رباطًا دينيًا في الموقع الجديد، مُبرزين بذلك أهميته الاستراتيجية وموقعها الجاذب للخوارج القادمين من الشرق. عُرف هذا الموقع لاحقًا بـ”ممر تازة” لقدرته على ربط منطقتي صفرو وفاس ببقية أنحاء البلاد.
وفي القرن الثالث عشر، حافظ بنو مرين، الذين اتخذوا فاس عاصمة لإمبراطوريتهم، على اهتمامهم بتازة التي عرفوا أهميتها خلال تنقلاتهم الموسمية. فقد كانوا يطلقون عليها “مفتاح الغرب وقفله”، وشهدت المدينة دفن السلطان أبو الربيع سليمان عام 1309. وبعد وفاته، انطلق أبو سعيد عثمان من تازة نحو فاس ليُعلن نفسه حاكمًا على سجلماسة عام 1315.
“مدينة محاربة بامتياز” في مواجهة الأطماع
أدرك السعديون، بعد بسط نفوذهم على أجزاء واسعة من المغرب، الأهمية الاستراتيجية لتازة في صد العثمانيين الطامعين في غزو البلاد من الشرق. فعمل السلطان أحمد المنصور الذهبي على ترميم أسوارها وحصونها لتكون “مدينة محاربة بامتياز”. وشيّد في تلك الفترة حصن “البستيون” الشهير الذي يتحكم في طريق استراتيجي ويراقب مصادر المياه في الوادي.
وقد أثار “البستيون” اهتمام المؤرخين والمستكشفين الفرنسيين خلال فترة الحماية، واستخدمته السلطات العسكرية لإيواء قواتها بعد ترميمه. ويشير المؤرخون جان كامباردو وهنري باسيت إلى أن هذا الحصن، الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الخامس عشر على الأقل، طبع تاريخ المغرب.
وفي عام 1665، اتخذ السلطان العلوي المولى الرشيد تازة قاعدة له، مستقطبًا سكانها للانطلاق نحو احتلال فاس. وبعد عامين من الحملات انطلاقًا من تازة، نجح المولى الرشيد في الاستيلاء على فاس، لكنه أبقى على تازة كقاعدة خلفية تحسبًا لأي هجوم مضاد. وظلت المدينة تحظى باهتمام العلويين حتى عهد السلطان مولاي عبد العزيز.
تازة في زمن “بوحمارة” و”البعبع” الفرنسي
لم يكن غريبًا أن تولي فرنسا اهتمامًا خاصًا بتازة قبل فرض الحماية. وقد وصفها المستكشف الفرنسي شارل دي فوكو بدقة في كتابه “التعرف على المغرب”، مُشيرًا إلى موقعها المحصن الذي لا يمكن الوصول إليه بسهولة إلا من جهة واحدة. وقد أدرك “الجيلالي الروكي بو حمارة” أهمية تازة، فاتخذها مركزًا لنفوذه، مُشكلًا تهديدًا كبيرًا للسلطان مولاي عبد العزيز. وقد تمكن بو حمارة من هزيمة قوات السلطان قبل أن يستقر في الشمال الشرقي ويحكم لمدة ست سنوات قبل هزيمته على يد جيش المولى عبد الحفيظ.
لكن تازة لم تستسلم بسهولة حتى بعد رحيل بو حمارة. فقد سيطرت قبيلة غياتة على المدينة، مما استدعى تدخلًا عسكريًا فرنسيًا واسع النطاق. ورغم التفوق العددي والعتاد، تمكن أهالي تازة من استعادة السيطرة على المدينة بعد ثلاثة أشهر من الاحتلال الفرنسي الأول، لتكتسب سمعة “البعبع” المخيف للفرنسيين.
وقد اضطرت سلطات الحماية إلى شن عملية عسكرية واسعة أطلقوا عليها اسم “مهمة تازة” للقضاء على التمرد بشكل نهائي. وعلى الرغم من كثافة العمليات العسكرية، لم يتمكن الفرنسيون من قمع ثوار تازة بشكل كامل. وتشير المؤرخة الفرنسية هنرييت سيلاري إلى المقاومة الشرسة التي أبداها سكان المنطقة، الذين فضلوا العيش في الوديان والغابات وتحمل قسوة الطبيعة على الاستسلام للمحتل. ولم تتمكن القوات الفرنسية من تقليص “المهمة الكبرى” إلا بعد مرور وقت طويل، في النصف الأول من شهر يوليو.
عن موقع: فاس نيوز