حين تنقش الروح على جدار العال
في خضم عصرٍ يُقاس فيه الإنسان بما يملك لا بما يُبدي من سموّ في السلوك، ويرتفع فيه معيار التقدير الاجتماعي إلى علوّ الاستهلاك ومظاهر السلطة والمكانة، تظل الذات الإنسانية مهددة بالتحوّل إلى مرآةٍ لغيرها، لا إلى مرآةٍ لذاتها. وحين تُستبدل القيم بالصور، والجوهر بالقشرة، تقف المجتمعات، خصوصًا تلك التي تمتلك رصيدًا حضاريًا متينًا، أمام سؤال:
ما الإنسان؟ وما الهدف من حياته؟ وكيف يعيش بسلام داخلي؟ وهل يمكن أن يجد السعادة خارج دائرة الطمع والشهرة؟
تطرح هذه التساؤلات الكبرى نفسها بإلحاح، لا كترفٍ فلسفي، بل كاحتياجٍ وجودي، وسط عالمٍ يُمعن في تفكيك الإنسان إلى أرقام ووظائف واستهلاك. وهنا تبرز الحكمة الشعبية المغربية، لا باعتبارها تراثًا فولكلوريًا، بل كخطاب اجتماعي وفلسفي، يُجسّد تصورًا عميقًا للكينونة، قِوامه البساطة، والنية الصافية، وسموّ المعنى، وصدق العلاقة مع الذات ومع الآخرين.
الكرامة قبل القوت: حين تتكلم الذاكرة الجماعية
“النية تغلب الحيلة”، “اللي بغا البركة، يحط النية”، “ما يعمر الدار لا ذهب ولا فخار، يعمرها وجه يضحك وخلق يستر”…
هي أمثالٌ تبدو للوهلة الأولى منتمية لعالمٍ بسيط، لكنها في حقيقتها نواةٌ أخلاقية متينة، تُعيد ترتيب أولويات الإنسان. ففي عالمٍ تُختزل فيه القيم في السوق، تُصرّ الحكمة المغربية على أن الكرامة مقدّمة على القوت، وأن النية الصادقة تفوق الحيلة، وأن الخير يُقاس بما يُعطى لا بما يُقال.
ولئن كانت هذه الحِكم تنبع من لسان الجدّات، فإنها تتقاطع في معناها العميق مع أطروحات مفكرين مغاربة بارزين.
محمد عابد الجابري أعاد بناء مفهوم “العقل العربي” على أساس من العقلانية الأخلاقية، والمهدي المنجرة دافع عن الكرامة الإنسانية بوصفها جوهرًا للتطور، لا مجرد مطلب سياسي.
كما تقول الجدّات: “اللي تهان قدّام الناس، عمره يرفع راسو فالسما.”
قواعد للحياة… من رحم الحكمة الشعبية المغربية
من قلب الحكمة الشعبية المغربية، تلك التي لا تُدوَّن في الكتب ولكنها تُحفر في الوجدان، يمكن استخلاص دستور عملي لحياة ذات معنى. هذه المبادئ ليست دروسًا مُعلّبة، بل وصايا عتيقة، اختبرها الناس وباركتها الجدّات بأمثال مفعمة بالبصيرة:
1. استيقظ مبكرًا، وابدأ يومك بنشاط يُوقظ الروح.
“اللي بكّر ربح، واللي نعس فاتُه النصيب.”
2. لا تُبدد عمرك في التسلية الفارغة.
“الساعة اللي تدوز ما ترجع، واخا تندم عليها سنين.”
3. اعمل بجدّ، واسعَ لأحلامك بنفسك.
“اللي ما خدم بيدّيه، ما يشبع فمو.”
4. عِش ببساطة وتجنّب الترف.
“اللي شدّ كثير، يتفلت ليه الكل.”
5. كن صادقًا مع نفسك.
“الكذوب ما عندوش رجلين، يطيح فباب الدار.”
6. تعلّم دومًا.
“اللي ما زاد، ينقُص.”
7. لا تُسرف في المأكل، وراعِ جسدك.
“البطن المشبعة تعيا، والعين اللي تشتهي ما تشبع.”
8. سامح، وامضِ خفيف القلب.
“اللي يعفو، قلبو يتهنّى.”
9. اقرأ ما ينير عقلك.
“اللي يقرا كتاب، يفتح باب.”
10. لا تخشَ التغيير.
“اللي يخاف من البحر، ما يعومش.”
11. ساعد الناس دون انتظار ردّ.
“دير الخير، ورميه فالبحر.”
12. كن متواضعًا.
“الراس العالي ما يشوف الطريق.”
13. اعمل لهدف نبيل.
“النية أبلغ من العمل.”
14. كن مسالمًا، لا ترفع صوتك على الضعف.
“اللي قوي بحق، ما يحتاج يْبان بالصوت.”
15. لا تلهث خلف التصفيق.
“الخير يُدّار، ماشي يُتقال.”
16. احترم الطبيعة.
“اللي يقطع غصن، يحرم طير.”
17. السعادة في العطاء، لا في الأخذ.
“اليد اللي تعطي، عمرها ما تْفضى.”
في مديح البساطة: فلسفة الصمت الفعّال
تُعلّمنا الحكمة المغربية أن في البساطة كل المجد، لا لأنها فقرٌ مقنَّع أو قناعةُ الضعفاء، بل لأنها صفاء النفس وصدق المعنى. فكثيرًا ما كانت الجدّات يردّدن:
“الخبزة بنينة ماشي بالزبدة، بل بالنية لي طيّباتها”،
و“اللي يعيش بالقليل، قلبو ما يتقلّق بزاف.”
البساطة، في هذا السياق، لا تعني انكماشًا عن الحياة، بل هي شجاعة اختيار الجوهر على القشرة، والرضا على اللهاث، والسكينة على الضوضاء. كما في المثل الشعبي:
“اللي شدّ الطريق بالنية، يوصل بلا ما يسوّل.”
هي فلسفة تُعيد للإنسان توازنه، وتُذكّره أن قوام العيش ليس في تكديس المال، بل في راحة البال، كما تردد الجدّات دائمًا:
“الدنيا ساعة، وزينها راحة البال.”
: حين تتكلم الجذور في زمن السرعة
في زمنٍ تتراكم فيه الأشياء وتتآكل المعاني، تبقى الحكمة الشعبية المغربية، بتجلياتها الأخلاقية والفكرية، إحدى آخر الحصون التي تُذكّرنا بأن الإنسان ليس ما يملك، بل ما يُجسّده من قيم.
وبينما تُسابق المجتمعات الزمن لصناعة “إنسان السوق”، تظلّ أصوات الجدّات، من خلف جدران البيوت العتيقة، تهمس بما لم تقله كبرى النظريات:
“الخير يبقى، والوجه الطيب لا يُنسى.”
فهل آن لنا أن نُصغي؟
لا بآذاننا فقط، بل بقلوبنا التي تعرف الطريق حين تصمت العناوين.
بقلم منير لكماني ألمانيا
02/05/25
عن موقع: فاس نيوز