تشهد الساحة الدينية في المغرب، بين الحين والآخر، أحداثا تنبئ بالدقة المتناهية للعلاقة بين التصوف والممارسات الروحية، وتؤكد في الوقت نفسه على الحاجة الملحة لصيانة استمرارية الطرق الصوفية على أسسها الروحية الأصيلة ، ومن أبرز هذه الأحداث ما شهدته الزاوية القادرية البودشيشية من جدل، نجم عن المراسلات التي بعث بها أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، بصفته مريدا، إلى الشيخ سيدي جمال الدين القادري بودشيش قدس الله سره، والتي وإن بدت في ظاهرها مشبعة بروح النصح والحرص على وحدة الصف، إلا أنها في جانب آخر كشفت عن تدخلات ذات طابع تنظيمي وإداري مست بالاستقلالية الروحية للزاوية في الوقت الحالي.
وفي مطلع رسالة “التوفيق” المؤرخة بتاريخ فاتح ربيع الثاني 1444 هـ، الموافق لـ 27 أكتوبر 2022، استهلّ كلماته بقوله: «أكتب إليكم هذه الرسالة لأنني متحير في ما أسمعه بشأن أحوال الفقراء وحال الطريق». وهذه البداية، وإن بدت في ظاهرها تعبيرا عن حرصٍ ومتابعة، فإنها تكشف في عمقها عن حالة من الارتباك والقلق تسربت إلى الوزير المريد، وهو أمر لا يليق بمقام السالك، إذ الأصل في المريد أن يطمئن إلى شيخه ويسكن إلى حكمته وتدبيره، لا أن يفتتح خطابه بعبارات التردد والارتياب، لأن الاضطراب في الموقف دليل على ضعف التحقق بالثقة والتسليم.
ثم يمضي في قوله: «أرى أن الواجب المستعجل هو أن تختاروا بأنفسكم خمسين أو أكثر أو أقل من الفقراء الراسخين»، وفي هذا المقطع يتبدى الخطاب بصيغة تقريرية توجيهية تقربه من أسلوب الأمر لا من روح المناصحة، فيغدو المريد كأنه يملي على شيخه برنامج عمل محدد، متجاوزا حدود الأدب التي تقتضي التلقي عن الشيخ لا الإملاء عليه، وهنا تتجلى المفارقة بين النية الحسنة في ظاهر القول والخلل في أدب الخطاب الباطن، لأن طريق السالكين قائم على التلقي والإنصات لا على الاقتراح والإلزام ،ومن هذا المنطلق، فإن مثل هذا الأسلوب ينافي جوهر الأدب الصوفي القائم على التسليم للشيخ والانقياد لحكمته، مصداقا لقول أهل الطريق: «فإن المريد إذا صار مرادا قبل خمود بشريته وسقوط آفته، فهو محجوب عن الحقيقة، لا تنفع أحدا إشارته ولا تعليمه»[1]. فالمريد الحق لا يتحرك إلا بإذن، ولا يتكلم إلا عن صفاء، ولا يقترح إلا بما يوافق إشراق شيخه، لأن الاقتراح من المريد على الشيخ نوع من الاعتراض، والاعتراض حجاب عن نور التوفيق.
ويتابع التوفيق قوله: «فإذا أجابوا بأن الحال مناسبة… فذلك ما يبغي كل مخلص لهذا الدين»، وهو تعبير يفيد في ظاهره ـأن الشيخ في حاجة إلى تزكية الفقراء ورضاهم ليطمئن، غير أن من المعلوم في أدبيات التصوف أن الشيخ هو الميزان والمعيار، والفقراء إنما يسيرون على نهجه ويستضيئون بنوره، لا أن يجعلوه موضوع حكمهم ، فكيف يستقيم أن يقاس صاحب الإذن الإلهي بموازين مريديه؟ومن هذا المنطلق، يأتي التأصيل الشرعي ليؤكد أن الشيخ، بما هو صاحب الولاية التربوية، له المقام الأعلى في التوجيه الروحي، لقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾[2] [59]، وأولو الأمر في اصطلاح القوم هم العارفون بالله الذين ورثوا سر التربية النبوية، وطاعتهم فرع عن طاعة الله ورسوله، لأنها طاعة في المعروف وامتثال للمنهج الإلهي.
ثم يسترسل التوفيق قائلا: «وإذا قالوا إن الأمر يحتاج إلى تصحيح شيء ما، فأنتم قادرون على الإصلاح…»، وهو طرح يضفي على الطريق طابعا إداريا مشروطا بالمشاورة الجماعية، في حين أن التصوف، في جوهره، لا يقوم على اللجان ولا على الاستفتاءات، بل على الإذن والتلقي، كما قال أهل السلوك: «من لم يسلم لشيخه زمام أمره، لم يصل إلى مراده». وهكذا يتضح أن هذا المنظور أقرب إلى الإدارة منه إلى التربية، وأبعد عن روح الطريق التي جوهرها التسليم والانقياد بإخلاص وصفاء، أما قوله: «فمن رأيي أن تبادروا إليه بغير تردد»، فهو مرة أخرى تجاوز، إذ لا يليق بالمريد أن يقول لشيخه “من رأيي”، لأن الرأي عند المريد تابع لا مستقل “وما دام بهذا الوصف: فلا تشريف، ولا تكليف، اللهم إلا أن يرد بما يجري عليه من غير شيء منه، فذلك متصرف في ظنون الخلق، مصرف في التحقيق.”[3]
في مقطع آخر يقترح التوفيق: «أن تقوموا بتعيين جماعة مصغرة من الفقراء… ومن المناسب أن يكون عددهم اثني عشر، وألا يكون من بينهم أي من أولادكم». وهنا يبرز الخلل الأكبر، إذ نصب المريد نفسه مشرعا للطريقة محددا عدد الأعضاء ومواصفاتهم، بل ومانعا أبناء الشيخ من المشاركة، وهذا إقصاء صريح زرع الشقاق داخل الأسرة الروحية، كما أنه تدخل فيما لا يملكه المريد قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [4]وهذا تأكيد على أن الغاية الروحية الحقيقية للتصوف ليست في التحكم بالآخرين أو فرض التصرفات، بل في تنقية القلب واتباع الطريق الصافي لله والشيخ الصالح، فكل فعل يظهر للخلق يجب أن يكون انعكاسا للحق الإلهي والتوجيه الروحي، لا للهوى الشخصي أو الاستعلاء على الناس.
ثم يضيف: «وأن تعينوا على رأس هذه الجماعة مقدّما قويا في الباطن فطنا في الظاهر»، وكأن الشيخ محتاج إلى من يذكره بشروط القيادة، وفي قلب للموازين، يواصل التوفيق عرض اقتراحاته قائلا: «أن تكون مهمة الجماعة هي حماية الطريق وخدمة الشيخ والفقراء…»، ثم يعدد مهامها في نقاط: (نشر الوثيقة التوجيهية، وتفهيم الفقراء أن الشيخ قطب الطريق، وإبعاد الشعوذة، والاستغناء عن الأنشطة الثقافية والفنية، وتنظيم الاجتماعات، وتدبير المال، وتجنيب الطريق المجادلات الإعلامية… إلخ). ورغم وجاهة بعضها، إلا أن طريقة عرضها تظهر المريد في مقام من يصدر لوائح تنظيمية لشيخه، وهو مقام لا يليق بطبيعة العلاقة التربوية بين المريد والشيخ، حيث الأصل فيها الأدب والتسليم لا الاقتراح والتوجيه ،ثم إن الحديث عن إقصاء الأنشطة الثقافية والفنية تضييق غير مبرر لدور الزاوية، التي كانت عبر التاريخ فضاء جامعا للعلم والفكر والفن الروحي، ومركز إشعاع ديني وثقافي ساهم في بناء الوجدان المغربي، وليس من اللائق أن يصدر عن وزيرٍ معروف بانتمائه للطريقة كلام يوهم المريدين بأن الزوايا فضاءات للشعوذة، لأن في ذلك مسا بجوهر رسالتها ومقاصدها التربوية.
فالتصوف المغربي، وفي طليعته الزاوية القادرية البودشيشية، لم يكن يوما مجالا للدجل أو الخرافة، بل مدرسة إصلاح وتربية حملت مشروعا أخلاقيا وروحيا ساهم في تحصين العقيدة وتزكية النفوس وبث قيم السلم والتسامح في المجتمع، وإن هذا التلميح ولو على سبيل التحذير ينطوي على إغفال لدور الزاوية التي حملت مشعل الإصلاح الديني قبل نشأة مؤسسات التعليم النظامي وأنجبت العلماء والفقهاء والقراء والمرشدين، وأسهمت في صون هوية الأمة الدينية والروحية، ثم إن الزاوية البودشيشية، بشهادات وطنية ودولية موثوقة، قدمت نموذجا رفيعا للتصوف الوسطي المعتدل، فجمعت بين العلم والسلوك، وبين العبادة والعمل، وبين الذكر والفكر ، فالحديث عن “الشعوذة” في سياق الدفاع عن الطريقة يعد انزلاقا لغويا ومعنويا، لأنه يربك صورة الزاوية في الوجدان العام، ويفتح الباب أمام خصوم التصوف للطعن في إرث وطني وروحي متجذر
ويبلغ التوفيق ذروة مقترحاته حين يقول: «أن يكون هؤلاء الجماعة هم من يقومون بتعيين الشيخ الذي سيخلفكم… بأغلبية لا تقل عن الثلثين». وهنا تكمن خطورة بالغة إذ يفرغ مفهوم الخلافة من جوهره الروحي ويحوله إلى مجرد آلية إدارية تحسم بالأغلبية العددية، في حين أن التصوف الأصيل قائم على السر الموروث والإذن الرباني الممتد عبر سلسلة المشايخ لا على التصويت أو التوافق البشري، وهذه مخالفات صريحة للشيخ ولمبادئ الزاوية وأسسها.
وقد جاء في الرسالة القشيرية أنه “من خالف شيخه لم يبق على طريقته ، وانقطعت العلقة بينهما وإن جمعتهما البقعـة ، فمن صحب شيخا من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه فقد نقض عهد الصحبـة”[5] بل إنه زاد الأمر التباسا حين أورد: «وحتى لو كان إذنكم الغيبي قد انتقل إلى شخص غير الذي عينه الجماعة فمن واجب هذا الشخص أن يتأدب مع إذنكم…». وهنا يظهر التناقض الصارخ، إذ يعترف بوجود إذن غيبي وسر روحي ثم يلغي أثره بجعل القرار النهائي للجماعة وهو ما يكشف ارتباكا منهجيا وفكريا، بل وتناقضا بين منطق التصوف ومنطق التدبير الإداري الذي يحاول التوفيق إسقاطه على أمر روحي لا يخضع في جوهره لمقاييس الأصوات والانتخابات.
والمثير في الأمر أن التوفيق يخاطب الشيخ بصفة “الجماعة”، في حين أن الأصل أن يكون الشيخ هو المرجعية العليا التي تنصهر فيها الجماعة لا العكس؛ ومن ثم فإن هذا الاستعمال لا يمكن إدراك مغزاه إلا بالرجوع إلى خلفية التوفيق الفكرية، التي استقى منها منطقه من رفيقه السابق عبد السلام ياسين، صاحب مشروع “الجماعة” والذي تنكر له التوفيق من قبل كما تنكر من بعد لسيد الطريقة القادرية، الدكتور مولاي منير القادري بودشيش، وفي سياق متصل يمضي قائلا: «ومما أخشاه هذه الأيام أن يبلغه ما يروجه الناس… فيسألني، وإذا سألني فسيجعلني في موقف حرج»، وهو تصريح يفصح من حيث لا يشعر صاحبه على أن الرسالة منطلقة من هاجس شخصيّ أكثر منها من دافع روحي أو تربوي.
ثم أردف قائلا «وألا يكون من بينهم أي من أولادكم، لأنهم إذا كانوا جميعهم سيتحزب الفقراء بالميل إلى البعض دون البعض، فيقع الخلاف ويتعسر العمل، وإذا كان واحدا من الأبناء فقد يرى فيه بعضهم أنه مرشح الشيخ لخلافته، ولا يناسب أن يقع ذلك من جهة العقل في الوقت الحاضر» والحق أن الوزير كان على علم أكيد بأن خليفة الشيخ سيدي جمال الدين، قدس الله سره، بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، هو سيدي منير، وهذه الحقيقة ليست اجتهادا ذاتيا ولا رأيا عابرا بل هي ثابتة بوثائق من الوصايا والتوجيهات الصريحة التي خلفها الشيخ سيدي جمال الدين، قدس الله سره، والتي نص فيها بجلاء لا غموض فيه على أن وارث سره وخليفته الشرعي هو سيدي منير، ثم إن هذه الوصايا تمتد في عمق السند الروحي للطريقة، من سيدي الحاج العباس إلى سيدي حمزة بن العباس، ثم إلى سيدي جمال الدين قدس الله أسرارهم، وصولا إلى سيدي منير حفظه الله، وهي وصايا متوارثة ومتداولة بين الخاصة والعامة بلغت من الشهرة والتواتر مبلغا لا يترك مجالا للشك، ولا ينكرها إلا جاحد مكابر.
ومن ثم، فإن محاولة التوفيق القفز على هذه الحقيقة أو تقديم تصورات بديلة بشأن الخلافة تمثل تناقضا صارخا بين ما يعلمه يقينا وما يصر على إنكاره عمليا وهو ما يضع خطابه في موضع التهافت؛ إذ لا يمكن الجمع بين الإقرار الضمني بالسر الروحي وشرعيته وبين الدعوة إلى آليات بشرية تفرغه من جوهره ومضمونه، رافضا بذلك أي شكل من أشكال الوراثة الروحية التقليدية رغم أن التقاليد الصوفية غالبا ما تربط الاستمرارية بمستوى الإذن وانتقال السر. وبذلك يكون التوفيق قد أحكم قيودا على الآليات المحتملة للخلافة بطريقة قد تحد من الديناميكية الطبيعية للطريق وتقيد مرونتها الروحية والتربوية ، والوزير بصفته مريدا يفترض أنه ملم بمبادئ التصوف وأعراف الطريقة وأهمها أن انتقال السر الروحي والخلافة لا يتم إلا عبر وصية محددة من الشيخ إلى خليفته وهي الوسيلة الشرعية التي يضمن بها استمرار الطريق وصدق المريدين في السلوك الروحي وليست مجرد ورقة إدارية أو إشارة رمزية، بل هي العقد الروحي الذي يربط بين الشيخ وخليفته، ويعكس استمرارية التجربة الروحية والمعرفة الباطنية للطريقة.
وفي النهاية، يعترف التوفيق قائلا: «وأطلب العفو إن كان في مخاطبتكم بهذه الرسالة… شيء من قلة الأدب» وهذا الإقرار ضمنيا يدل على أنه تجاوز حده كمريد، غير أن هذا الاعتراف لم يمنعه من الاستمرار في تقديم نصائحه التفصيلية مفرغا الاعتذار من مضمونه، ومصرحا «أما من جهة الطريق فهذه الورقة غاية خدمتي إن صحت»، وكأن خدمته للطريق محصورة في هذه الرسالة وحدها بينما الخدمة الحقيقية تكمن في الاتباع الصادق لا في التنظير التنظيمي وحده.
ومن خلال ما سبق فإن رسالة أحمد التوفيق وثيقة مليئة بالغيرة ، لكنها تعكس عقلا إداريا أكثر منه روحا صوفية، فقد وضعت المريد في موقع الناصح الموجه لشيخه واستعملت لغة الأوامر والاقتراحات الإلزامية، وأدخلت اعتبارات سياسية وشخصية ،إذ جعلت المريد مشرعا والشيخ منفذا ، وفي هذا قال العلامة ابن حجر الهيثمي: (ومن فتح باب الاعتراض على المشايخ والنظر في أحوالهم وأفعالهم والبحث عنها فإن ذلك علامة حرمانه وسوء عاقبته، وأنه لا ينْتج قط، ومن ثم قالوا: ( من قال لشيخه لم؟ لم يفلح أبدا)و قال محمد بن حامد الترمذي: -من لم ترضه أوامر المشايخ وتأديبهم فإنه لا يتأدب بكتاب ولا سنة- وقال أبوالعباس المرسي: ” تتبعنا أحوال القوم فما رأينا أحدا أنكر عليهم ومات بخير”[6]
ليأتي بعد ذلك رد الشيخ سيدي جمال قدس الله سره، الذي تميز بالعمق والوضوح إذ لم ينخرط في سجال سياسي ولم يرد على لغة التخويف بلغة مشابهة وإنما ارتقى بالخطاب إلى مستوى أعلى ، مؤكدا أن الطريق الصوفي له منظوره الخاص لا يخضع لحسابات سياسية، والأهم في هذا الرد أنه أعلن بشكل صريح أن خليفته من بعده هو ابنه سيدي منير، مستندا في ذلك إلى ما أكده والده الشيخ سيدي حمزة قدس الله سره، حين عينه أمام المريدين أكثر من مرة باعتباره وارث السر وبذلك يكون أمر الخلافة قد حسم روحيا قبل أن يفتح سياسيا.
ففي مستهل رده أوضح الشيخ سيدي جمال قدس الله سره بصراحة تامة وقوة روحية لا تقبل التأويل، حيث بدأ بتحية صادقة للوزير:“أخي وسيدي، أحمد لقد استفدنا من كتابكم خالص الصدق محبتكم لنا دعوة وغيرتكم على هذه الطريقة المباركة وعنايتكم بشؤونها وشؤون كل من ينتمي إليها ويظل بظلالها الشريفة الوارفة، كما استفدنا على ترسيخ مبادئها والحفاظ على مرورها الروحي والأخلاقي والعلمي، ما سيجازيكم الله عنه أحسن الجزاء وأتمه.” ففي هذه الكلمات وضع الشيخ سيدي جمال قدس الله سره ، إطارا من الاحترام والتقدير للوزير، مؤكدا على قيمة نواياه لكن في الوقت نفسه بدأ في توجيه الخطاب إلى الجوهر الروحي للزاوية، مبينا أن السر الروحي والنقل الروحي لا يخضعان لأي تدخل خارجي:”رغم أنكم أبديتم رغبتكم، تواضعا منكم، ألا أجيب على ما ورد في كتابكم، فقد بدا لي أن أُثبت ما استغلق من موارثة السر، والسر كما تعلمون لا تجليه عبارة، ولا خطاب ….” وهذا توضيح من الشيخ سيدي جمال قدس الله سره على أن انتقال السر الروحي لا يمكن أن يفرض أو يدار وفق مقاييس إدارية.
ويضيف لتوضيح طبيعة السر وانتقاله إن “انتقال السر من روح إلى روح …فلا يقطع فيه إلا بمن تأكد لزومه الأدب ولم يفارقه التعظيم لأفعال أهل الله وأقوالهم وإشاراتهم، ولا دخل فيه لآراء عموم الناس ولا لفيف مقرون ولا لشرع منسوخ. فلا يقول فيه بقول، ولا يفتيه بدلو من لا يدري عن الس… إلا ما جاد به عليه شيخ عارف واصل موصل” وهي إشارة من سيدي جمال قدس الله سره ، إلى أن انتقال السر الصوفي يتم من روح إلى روح، وهذ الانتقال الداخلي لا يقيد بالقوانين الدنيوية ولا بتأثير آراء الناس، بل يقوم على الأدب والتقدير الكامل لمقام أهل الله ، فلا يقدم السر إلا لمن ثبتت فيه الصفات اللازمة من خشية الله وتعظيم أفعال الأولياء وأقوالهم وإشاراتهم والالتزام الكامل بما جاء عن الشيخ الموصل والعارف المتصل، دون اجتهاد شخصي أو اتباع لرأي جماعة أو تقليد شكلي للشرع و ”اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ”[7]
وبهذا التواتر النوراني الذي انتقل من قلب إلى قلب ومن سر إلى سر، تجلت إرادة الحق في أن يكون سيدي منير الخليفة الشرعي والوارث المصون للسر المكنون، فانعقدت له الخلافة بعهد روحاني موصول بالسند العارف لا يدخله شك ولا يداخله اعتراض، وقد أفاض الشيخ سيدي جمال قدس الله سره في بيان هذا المقام على أن الطريق الصوفي محفوظ بعناية إلهية لا تمسه أهواء العامة ولا تنال منه حسابات السياسة، مكرسا مبدأ مركزية السر الروحي، ورد كل دعوى إلى ميزان الذوق والمعرفة والوصية المتصلة، مؤكدا أن الخلافة في الطريق ليست اختيارا إداريا، بل نفس رباني يتوارثه أهل الصدق جيلا بعد جيل.
ولم يقتصر الأمر على تثبيت سيدي منير فحسب، بل إن الشيخ سيدي جمال قدس الله سره ، أكد أن هذه الطريقة المباركة ستظل معصومة من أي تدخلات غير شرعية، وأن كل محاولة لتجاوز الوصية الروحية تعد خرقا للمقاصد العليا للطريق، غير أن ما وقع بعد وفاة الشيخ سيدي جمال قدس الله سره كشف عن تناقضات خطيرة؛ إذ بدلا من احترام ذلك التثبيت الروحي الواضح، برزت محاولات لتنصيب معاذ خليفة، في حين أن هذا التنصيب شكل خرقا صريحا للوصية وفوق ذلك، فإن هذه المحاولات لم تكن بريئة ولا عفوية بل إنها ارتبطت بتدخلات سياسية هدفت إلى إعادة توجيه الزاوية بما يخدم قناعات الوزير ، وهنا بالذات برز دور أحمد التوفيق من جديد، لكن هذه المرة بوضوح أكبر؛ فالوزير الذي كان يحذر من الفتنة هو نفسه الذي أصبح طرفا في صناعتها حين دعم توجها يناقض الوصية الروحية وسعى إلى فرضه بقوة النفوذ ، وهذه الأحداث أفرزت انشقاقا داخل الزاوية: فئة تمسكت بالتواتر الروحي الذي يثبت أن سيدي منير هو الخليفة الشرعي ووارث السر، وفئة أخرى انجرفت وراء ضغط الوزير التي دفع نحو السيد معاذ، وبذلك تحولت الزاوية التي كانت فضاء للوحدة الروحية إلى ساحة تجاذب بين منطق الشرعية الصوفية ومنطق الإملاء السياسي.
وفي الأخير ، واستنادا إلى الوصايا والأدلة الروحية والشرعية والواقعية يمكن القول إن سيدي منير يجسد الوراثة الأصيلة للطريقة القادرية البودشيشية، بحيث انعقد له العهد بوصل موثوق وسند معهود من الأكابر، لا باجتهاد بشري أو ميل دنيوي ، وذكر اسمه في الرد الأخير للشيخ سيدي جمال قدس الله سره، لم يكن تفصيلا عابرا، بل توكيدا على صفاء السلسلة وصيانة نقاء السند واستمرار شرعيته، لأن ذكر الوارث في حضرة الشيخ يعد تجديدا للعهد الروحي وإشهادا على انتقال النور من قلب إلى قلب، وبالتالي، فإن محاولة تنصيب أي كان، وفي مقدمتهم السيد معاذ، وإن لاقت تأييد بعض الأطراف، تظل في نظر أرباب البصائر خارجة عن روح الطريق، لأنها لم تصدر عن إشراق التلقي الصوفي ولا عن إذن باطني مأذون به بل تأسست على حسابات النفوذ وموازين القوة ، وهي معايير بعيدة عن جوهر التصوف الذي يقوم على المجاهدة لا المغالبة، وعلى الوراثة الروحية لا السياسة، ومن خرج عن هذا الأصل فقد ابتعد عن أنوار الطريق، ودخل في ظلمة التدبير البشري، بعيدا عن صفاء السند ونقاء التلقي. (وكل من خالف العمل بمقتضى هذه الوصية فإننا والطريقةَ منه براء)
[1] الرسالة القشيرية ، ص: 434
[3] الرسالة القشيرية ، ص: 192
[4] سورة البقرة ، الآيـة : 224
[5] الرسالة القشيرية ، ص: 362
[6] حقائق عن التصوف ، ص: 59 و 89
[7] سورة الأنعام الآيـة : 124
فاس نيوز – موقع الجهة الاخباري 24 ساعة موقع اخباري لجهة فاس مكناس منكم و اليكم ننقل الرأي و الرأي الآخر