اعتبر الفساد من صنائع الإنسان وابتكاراته، واختراع طرقه وأساليبه، ويغلب عامل الذكاء على طبيعة الفاسدين لقدرتهم على استنباط الحيل والطرق الخفية لممارسة أنواع الفساد، وإحاطة أنفسهم بسياجات من السرية والكتمان، أما الأشخاص متوسطو الذكاء فالملاحظ، غالباً، أنهم لا يورطون أنفسهم في قضايا الفساد، وبخاصة الكبيرة منها، لتخوفهم من الانكشاف، على أنه لا ينبغي أخذ هذه النظرة كقاعدة لتعميمها على حالات الفساد كافة، لأن عنصر الفساد، من حيث المبدأ، يرتبط بأمور مثل قوة الوازع الديني، والخوف من الله، ومدى الشعور بالولاء للوطن وقيادته وأسلوب التربية، ومدى توافر أساليب وأجهزة رقابية فعالة، وأخيرا القدوة، فكل هذه العوامل تؤثر بطريقة أو بأخرى في مدى انتشار الفساد أو انحساره. على أنها عوامل فضفاضة لا يمكن السيطرة عليها، وحسمها بإجراءات مُعرّفة ومحددة سلفا، وتبقى فرص الفساد قائمة ما وجد الإنسان على وجه البسيطة.
وتنحصر مهمة الدول في تضييق منافذ الفساد من خلال تعزيز الأنظمة الضبطية والرقابية، وتطويرها وتحديثها لتواكب التطورات المستجدة في هذا المجال، وإصدار الأنظمة اللازمة لتنظيم مختلف جوانب الحياة العامة، التي ستغطي المجالات التي لا توجد أنظمة تحكمها، وتطوير الأجهزة المعنية بالرقابة والمتابعة على الأعمال التنفيذية، ودعمها بما تحتاج إليه من وسائل واعتمادات مالية، وكوادر بشرية مؤهلة من المشهود لها بالاستقامة ونظافة اليد.
ويأتي في درجة الأهمية لذلك، إنشاء الأجهزة المتخصصة في مكافحة الفساد، ودعم القائم منها، ومنحها الاستقلالية التامة عن الجهاز التنفيذي، وربطها من حيث التنظيم بالسلطة العليا في الدولة، سواء كان البرلمان، أو الملك، أو رئيس الجمهورية، تبعا لنظام الحكم القائم في أي بلد، وعدم إخضاعها لأي سلطة أخرى، بما في ذلك توفير الاستقلال المالي والرقابة الذاتية على نفسها، وقد يختلف مسمى هذه الأجهزة من بلد إلى آخر فهناك من يسميها، هيئة مكافحة الفساد، وهو الغالب، أو يضيف إلى المسمى (وحماية النزاهة) وهناك من يسميها هيئة الشفافية، أو لجنة عليا لمكافحة الفساد، أو حتى يحدث لها وزارة باسم وزارة الشفافية كما هو الحال بالنسبة للبرازيل.
بيد أن الهدف واحد، وهو الوقوف في وجه انتشار الفساد، والحد منه، وملاحقة فاعليه وتقديمهم للعدالة.
وهناك أمر آخر مهم يحد من فرص ممارسة الفساد، وهو التوسع في استخدام وسائل التقنية في ممارسة الأجهزة الحكومية لمهماتها وأعمالها مثل:
1/ نشر المعلومات والبيانات وجعلها في متناول الرأي العام، والباحثين، عبر وسائل الإعلام، وقنوات الاتصال، وشبكات التقنية، لأن من شأن ذلك توظيف مفهوم الشفافية بمعناه الحقيقي، والحد من التكهنات، ومنح الفرصة لجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، لرصد مؤشرات الفساد ومساعدة السلطة المعنية على اتخاذ التدابير اللازمة للحد منه.
2/ نشر تقارير الأجهزة الرقابية على الناس، عبر وسائل التقنية ليطلعوا عليها، ويتعرفوا على ما يجري في المؤسسات الحكومية بسلبياته وإيجابياته، ليكونوا أولا شاهداً على مدى قيام تلك الأجهزة بواجباتها، وثانيا لكي يبعث ذلك فيهم الروح المعنوية والحماس، ليكونوا عونا لتلك الأجهزة في إمدادها بالمعلومات التي تتوافر لديهم عن قضايا الفساد.
3/ الاستعانة بوسائل التقنية في نشر الإعلانات عن المنافسات الحكومية للتوريدات وتنفيذ الأعمال، واستقبال العروض والعطاءات، ونشر نتائج فحصها وتحليلها وقيمتها، وأسماء أصحاب العروض التي حازت على القبول ودخلت دائرة المنافسة، وأسماء من لم يحز على ذلك، والأسباب، وأخيراً المقاول أو الشركة التي فازت بالعقد وقيمته ومدة تنفيذه، وكل ذلك من شأنه أن يبعد الشبهة عن إجراءات تنفيذ الأعمال الحكومية، ويحول دون، أو يضيق، من فرص التلاعب في ترسية المنافسات.
4/ استخدام وسائل التقنية في تحصيل الرسوم والمستحقات الحكومية، وإنهاء أي وسيلة ورقية يدوية مستخدمة لذلك، بل وإنهاء العمل بالمدفوعات النقدية، سواء كانت رسوما أو رواتب أو غيرها، بما في ذلك إنهاء عمل الخزائن والصناديق، والاستعاضة عنها بخزائن وصناديق البنوك التي توجد فروعها في كل مكان، ومن شأن ذلك أن يحقق الأمان والطمأنينة على الأموال، ويحول دون تداول النقد في أيدي الموظفين، أو بقائه في الصناديق الحكومية، عرضة للسطو والسرقة.
5/ تسريع إجراءات تعميم الحكومة الإلكترونية فيما يتصل بالخدمات التي تتطلب استخدام نماذج معينة تملأ باليد، ووضع النماذج المطلوبة عبر الوسائل الحديثة للتقنية مثل المواقع الإلكترونية للأجهزة الحكومية ليتم استخدامها من قبل المستفيدين، وتقديمها من خلال تلك المواقع، مع توفير إمكانية متابعتها ومعرفة ما يتم عليها، وإفادة المستفيد من خلال المواقع ذاتها، على أن فائدة ذلك لا تقتصر على الحد من الأعمال اليدوية وتقليل فرص الفساد، بل إن فيه تقليلا للمراجعين وإراحة لهم من مشقة الانتقال لمراجعة الدوائر الحكومية، وهو ما ينعكس إيجاباً على الحركة والزحام في الشوارع والمدن.
6/ تفعيل الاستفادة من وسيلة الاتصالات الهاتفية، والمقاسم الإلكترونية لدى الدوائر الحكومية، في متابعة مصالح الناس ومعاملاتهم، وعدم الاكتفاء بالرد الآلي، وافتراض معرفة المتصل بتحويلات القسم أو الأقسام التي يرغب الاتصال بها، مع تطوير هذه الأجهزة بحيث يتمكن المتصل من الاستعانة بها لمعرفة الإجراء الذي اتخذ على معاملته، وهذا من شأنه رفع كفاءة أداء الدوائر، وتقليل عدد المراجعين، وإراحة المواطنين.