ذ. الكبير الداديسي
ظل المغرب منذ جلوس محمد السادس على عرش المملكة المغربية ينهج سياسة اليد الممدودة نحو الجزائر وما انفك العاهل المغربي والخطاب الرسمي بالمغرب يعبر عن رغبة في فتح الحدود وتطبيع العلاقة مع جيرانه في الشرق . لكن لم تكن هذه الدعوات تقابل إلا بالمزيد من التردد والنفور من الأشقاء الجزائريين .. وما أن يلوح في الأفق بصيص من الأمل حتى يقع ما يطفئ هذا البصيص ويعيد التوتر جديد في العلاقة بين الجارين إلى نقطة البداية …
استبشر كل سكان بلدان المغرب الكبير خيرا بالتقارب بين المغرب والجزائر وتبادل وفود البلدين الزيارات ، مقتنعين أن المآسي قد تساهم التقارب بين الإخوة والأهل إذا عجزت الأفراح عن فعل ذلك .
وإذا كان المغرب قد عبر عن هذه الرغبة سواء عقب وفاة عبد الحميد موهري من خلال رسائل التعزية أو التعبير عن التعاطف والمشاركة الوجدانية عقب اختطاف القنصل الجزائري ومعاونيه شمال مالي . فإن وفاة أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر المستقلة كان فرصة مواتية لتعزيز هذا التقارب ، لذلك كان الحضور المغربي في مستوى الجلل الذي ألم بالجزائر في فقدان أحد قادتها البررة …
مثل المغرب في جنازة بن بلة وفد رفيع المستوى يجمع بين رئاسة الحكومة ومستشار الملك ورئيس حكومة سابق وشخصيات مهمة في أجهزة الدولة المغربية …. وكانت كل المؤشرات تنبئ بتمتين العلاقة بين الإخوة الأعداء فقبل وصول الوفد المغربي وصلت إلى الجزائر رسالة تعزية من العاهل المغربي أثنى فيها على الفقيد وعبر من خلالها عن( أحر التعازي وأصدق المواساة في فقدان الجزائر الشقيقة لأحد قادتها التاريخيين ورجالاتها الأفذاذ الذين قادوا معركة تحريرها من براثن الاستعمار ) وذكر بأن الفقيد كان “من المناضلين الأبرار مع رفاقه الأخيار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأبلوا البلاء الحسن وقدموا التضحيات الجسام من أجل حريتها واستقلالها واسترجاع سيادتها”، وأكد أن وفاة هذا الزعيم التاريخي لا تعد خسارة للشعب الجزائري فحسب بل أيضا خسارة المغاربة…
و كان استبقال الوفد المغرب في مستوى ما يتطلع إليه الشعبين وابدى الجزائريون اهتماما بالوفد الذي حضر لتقديم التعازي إذ أكد عبد الإله بن كيران رئيس الحكومة المغربية أن “هذا الاهتمام شكل أحسن الأثر في نفس الوفد”،وأكد( إننا نشعر وكأننا فقدنا أحد قادتنا، فنحن لم نأت لتقديم تعازينا فحسب بل لتقاسم آلام الشعب الجزائري”
وفور وصوله إلى الجزائر العاصمة توجه الوفد المغربي إلى قصر الشعب لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الفقيد ، وحضر حفل الغذاء الذي أقامته السلطات الجزائرية على شرف الوفود خاصة المغاربية منها ممثلة في – إضافة إلى الوفد المغربي – الوفد التونسي الذي كان يقوده رئيس الدولة السيد منصف المرزوقي والوفد الموريتاني الذي كان يقوده الوزير الأول السيد ولد محمد لقظف .
كانت كل الأمور إذن تجري وفق ما يشتهي المغاربة وغالبية المغاربيين وفجأة ودون سابق إنذار تناقلت وسائل الإعلام خبر انسحاب الوفد المغرب من مراسيم تشييع الجنازة إذ أوردت وكالة المغرب العربي للأنباء أن :( الوفد المغربي انسحب من مراسيم تشييع جثمان الراحل احمد بن بلة بسبب الحضور البروتوكولي لوفد من البوليزاريو..) وشكل الحدث مادة إعلامية دسمة ومناسبة أعادت الحديث عن العلاقة المغربية الجزائرية إلى الواجهة و تبادل التهم بين المغاربة والجزائريين واختلفت الآراء من موقف البلدين في هذه الجنازة بين:
*- موقف معظم المغاربة ومسانديهم يلوم الجزائر ويتهمها بالكيل بمكيالين : ادعاؤها أنها لا تعترف إلا بالدول (لذلك لم تعترف بالمجلس الانتقالي في ليبيا ) ومع ذلك تحتضن وتستقبل ممثلا لدولة غير معترف بها في الأمم المتحدة ولا في الجامعة العربية أو أي تنظيم دولي آخر عدا الاتحاد الإفريقي غير المتحد .من جهة وادعاؤها مساندة الثوار وتقرير المصير في الغرب وهو ما يناقض وقوفها مع القذافي ضد ثوار ليبيا في الشرق وضد ثوار الطوارق ودولة الأزواد في الجنوب مقابل … وأن عبارات الترحيب وحسن الاستقبال لم يكن سوى نفاقا ودرا للرماد في العيون ..
* – وموقف معظم الجزائريين ومن في صفهم يلوم المغرب على انسحابه في جو جنائزي مدعيا أن أجواء العزاء كانت تتطلب من المغاربة تجاهل من حولهم ففي كل عزاء قد يجتمع الأعداء مستشهدين بحضور بوتفليقة إلى جانب إهود باراك في جنازة الراحل الحسن الثاني ، ومنهم من اتهم المغرب بالنفاق متسائلا كيف تصافحون البوليزاريو في منهاست وتحاورونهم في جولات المفاوضات التسعة السابقة ولا تطيقون حضورهم في جنازة ؟؟ ومنهم من كان أكثر تعصبا مبرزا أن الجزائر في بلادها لها الحق في استقبال من تريد ولا يمكنها رد أي شخص جاء لتقديم التعازي بل منهم من ادعى أن الوفد المغربي حضر إلى عاصمة الجزائر وهو يعلم أن عبد العزيز المراكشي رئيس الجمهورية ( المزعومة ) سيكون من أوائل المعزيين وأن حضوره كان محسوما …
ما يستنتج من جنازة أحمد بن بلة إذن أن العلاقة المغربية الجزائرية لا يمكن أن تصبح علاقة سوية وعادية بدون جلسات مكاشفة حقيقية وأنها علاقة في كف عفريت . وأن من يستفيد من توترها أقوى بكثير ممن يسعون إلى تطبيعها ، ولن يستفيد من توترها سوى المهربون وتجار الأسلحة والمخدرات وغيرهم ممن يتحكمون في دواليب السياسة العالمية ، أما عامة السكان في المغرب والجزائر فلا فائدة لهم في تأزيم العلاقة بين الأشقاء …