الاستثناء المغربي في ظل حكومة “بنكيران”

ما يميز المغرب سياسيا وثقافيا(وحتى بشريا وجغرافيا)، هو التنوع والتعدد. وقد كان هذا التنوع والتعدد، عبر التاريخ، عنصر قوة أكثر مما كان عنصر ضعف، ذلك أنه كان يُنظر، دائما، إلى التعدد في إطار الوحدة. وقد عكس الدستور الجديد هذه الميزة، على الأقل نظريا، من خلال اعترافه بالتعدد اللغوي والتنوع الثقافي للشعب المغربي. كما عكست الوثيقة الدستورية، إلى جانب الحقوق اللغوية والثقافية، التطور الحاصل في المغرب في مجال حقوق الإنسان بمفهومها العام وفي مجال ثقافة الاحتجاج، سواء في شقها السياسي أو في شقها الاجتماعي.  
وقد كان لحركة 20 فبراير الفضل في تسريع وثيرة الإصلاحات الدستورية والسياسية التي كانت الأحزاب الوطنية والتقدمية، وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، تطالب بها، لكن دون أن تجد آذانا صاغية (فقبل انتخابات 2009، قدم الاتحاد الاشتراكي مذكرة مطلبية للديوان الملكي حول الإصلاحات، لكنه لم يتلق عليها أي جواب). وبفعل التجاوب السريع مع مطالب حركة 20 فبراير ، النسخة المغربية للحراك (ولا أقول الربيع) العربي، انخرط المغرب، بعد خطاب 9 مارس الشهير، في مسلسل إصلاحي توج بدستور فاتح يوليوز 2011  وبانتخابات سابقة لأوانها في 25 نونبر من نفس السنة؛ وقد تم كل ذلك في جو، أقل ما يقال عنه أنه مختلف تماما عما عاشته باقي دول الحراك العربي؛ مما جعل جل (حتى لا نقول كل) المتتبعين والمهتمين، داخليا وخارجيا، يتحدثون عن الاستثناء المغربي. 
لا داعي للرجوع لمطالب حركة 20 فبراير التي جعلت من مطلب الملكية البرلمانية سقفا لها، وذلك في تناغم تام مع مطالب الحركة التقدمية. لكن لا بد أن نسجل أن الحراك العربي الذي أتي على أعتى الأنظمة في المنطقة (تونس ومصر وليبيا)، قد وجد في المغرب ظروفا وشروطا غير تلك التي كانت محيطة بتلك الأنظمة التي سقطت. فالشعب المغربي – الذي حقق بعض المكاسب الديمقراطية بعد مواجهة مريرة مع الاستبداد- يعي قيمة ما تحقق في مجال الحرية وحقوق الإنسان، ويسعى إلى المزيد، لكن بطرق حضارية وبوسائل سلمية (أي عن طريق الديمقراطية)؛ والدولة المغربية – التي وعت، هي الأخرى، بعد فشل مخططاتها القمعية والتصفوية، بأن الاستبداد يحمل في طياته أسباب نهايته- جعلت من الديمقراطية اختيارا لا رجعة فيه؛ لذلك، كانت الاستجابة الفورية لمطالب الشارع، وذلك على لسان أعلى سلطة في البلاد، حيث أعلن الملك محمد السادس  استعداد الدولة للاستجابة إلى المطالب الشعبية من خلال إحداث تغييرات عميقة في دستور المملكة.
وقد كان من المأمول أن يدخل المغرب مع دستوره الجديد (الذي نص على الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وربط المسئولية بالمحاسبة واحترام حقوق الإنسان بمفهومها الكوني واحترام المنهجية الديمقراطية في إسناد مهام رئاسة الحكومة واعتماد الجهوية المتقدمة في التقطيع الترابي، وغير ذلك من المستجدات التي نصت عليها الوثيقة الدستورية) في انتقال ديمقراطي حقيقي يقطع، من جهة، مع التذبذب والتردد الذي عرفه هذا الانتقال منذ أن انخرط المغرب في تجربة التناوب (ونقصد، هنا، التناوب التوافقي)، ويعمل، من جهة أخرى، بواسطة إصلاحات هيكلية، على  وضع حد لمظاهر الاستبداد والفاسد أو على الأقل التقليص من حجم استشرائهما.
لكن يبدو أن هذا الأمل قد بدأ يتبخر مع هذه الحكومة؛ فبعد أن سوقت، سواء من خلال البرامج الانتخابية لأحزابها أو من خلال ما سمي بالبرنامج الحكومي، لوعود أصبح يتضح يوما بعد يوم أنها غير واقعية، راح رئيسها يبحث عن مشاجب يعلق عليها فشل الجهاز التنفيذي (المحتمل) في تحقيق ما وعد به؛ وقد وجد “بنكيران” ضالته في التماسيح والعفاريت وفي مخلوقات أخرى، يتستر من ورائها لتبرير فشله (المنتظر) في تنفيذ برنامجه. فبعد أن صم الحزب الأغلبي آذاننا بشعار محاربة الفساد، لم يجد رئيس الحكومة غضاضة في رفع الراية البيضاء، معلنا العفو عن المفسدين بقوله: “عفا الله عما سلف”. وقالوا لنا بأنهم أتوا للإصلاح وليس للسلطة، فإذا بنا نلمس، من خلال الوقائع، العكس تماما؛ ذلك أن الإصلاح ليس حاضرا إلا في الخطاب، بينما نجده، إلى حد الساعة، غائبا على أرض الواقع؛ ما عدا إن كانوا يعتبرون أن تثبيت الأتباع في مراكز المسئولية بالقطاعات التي يشرفون عليها إصلاحا ويرون في الغليان – الذي تشهده بعض هذه القطاعات، احتجاجا على المحسوبية والزبونية التي تمارس بـ”العلالي” (بواسطة لجان مشكوك في نزاهتها) في إسناد المناصب العليا- عرقلة للإصلاح. إننا نعلم أن البرلمان لم يصادق إلى حد الآن، أي بعد سنة ونصف من تنصيب الحكومة، إلا على قانون تنظيمي واحد، سارعت الحكومة إلى إخراجه، هو قانون التعيين في المناصب السامية؛ وقد أصبح التعيين في هذه المناصب (وإذا ظهر السبب، بطل العجب) نقطة شبه قارة في جدول أعمال اجتماع الحكومة الأسبوعي. وإذا علمنا أن القوانين التنظيمية المطلوب التصديق عليها، خلال هذه الولاية، يفوق عددها العشرين، ندرك التأخر المهول الحاصل في المجال التشريعي. وإذا استحضرنا طبيعة هذه القوانين التي هي من صميم الإصلاح الدستوري والسياسي، لكون الوثيقة الدستورية لن تستكمل صياغتها إلا بها، ندرك المفهوم الحقيقي الذي تعطيه هذه الحكومة للإصلاح. إنه “إصلاح” يقع خارج الشرعية الديمقراطية وخارج الدينامية المجتمعية وخارج التعاقد السياسي الذي تم تكريسه من خلال استشارتين شعبيتين. فتعطيل دستور فاتح يوليوز 2011، لا يكمن إلا أن يكون مثار قلق وانزعاج عند كل الديمقراطيين.
   وإذا ما قارنا بين ما يقع في بلادنا وبين ما يحدث في بعض دول الحراك العربي، أمكن لنا العثور على بعض العناصر التي تساعدنا على فهم وضعيتنا. فالاستشارات الشعبية التي جرت في تونس ومصر والمغرب، مكنت الأحزاب الإسلامية (النهضة في تونس، والإخوان في مصر والعدالة والتنمية في المغرب) من الوصول إلى السلطة، “راكبة بدهاء على ثوار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية'(بديعة الراضي، “الاتحاد الاشتراكي”، 6 يونيو 2013)؛ في حين لم يكن لهذه الأحزاب، حسب علمنا، أي فضل لا في انطلاق شرارة الحراك ولا في إذكائها، بل منها من كان ضدها، كما هو الشأن عندنا. ويمكن أن نرجع هذا الفوز، من جهة، إلى الرغبة في التغيير لدى الهيئة الناخبة التي اقتنعت بجدوى الذهاب إلى صناديق الاقتراع (بلغت نسبة المشاركة، في انتخابات 25 نونبر 2011، 45 % من المسجلين)، ومن جهة أخرى، إلى وجود نشاط سياسي في البلدان المعنية قبل اندلاع الانتفاضة العربية الكبرى؛ وإذا كانت النتائج، على الأقل فيما يخص المغرب، قد فاجأت ليس فقط الرأي العام، بل حتى الحزب المتصدر لها، فإن الطبقة السياسية تعاملت، بصفة عامة، مع الوضع الجديد بنوع من الأمل في إمكانية ترسيخ القيام الديمقراطية من خلال التفعيل الأمثل لبنود الدستور الجديد؛ مما جعل مطلب “التأويل الديمقراطي” لهذا الدستور يتصدر مطالب المعارضة التقدمية؛ وهذا المطلب يعكس، في نظرنا، الرغبة في إحداث قطيعة بين تصورين في أسلوب التعاطي مع النصوص: الأسلوب القائم على التأويل السلطوي والأسلوب المعتمد على التأويل الديمقراطي. ويعي أصحاب هذا المطلب الثغرات الموجودة في النص الدستوري والتي قد يتم من خلالها الالتفاف على المكتسبات…التي لم يحصل عليها الشعب المغربي بدون تضحيات. لذلك تعالت الأصوات، بعد تنصيب الحكومة الجديدة، للمطالبة بالتأويل الديمقراطي للدستور. 
 وإذا ما نظرنا إلى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلدان التي تحدثنا عنها وإلى طريقة مواجهتها من قبل الأحزاب الحاكمة، أدركنا، من جهة، أسباب المخاوف التي تم التعبير عنها، في هذا البلد أو ذاك، من توظيف الدين في السياسة، ومن جهة أخرى، الهوة الفاصلة بين الخطاب والممارسة في سلوك هذه الفئة الجديدة من المسئولين.   
لن نخوض لا في الوضعية التونسية ولا في الوضعية المصرية؛ سنكتفي بتناول بعض الظواهر التي نعتقد أنها تهدد ما اصطلح على تسميته بـ”الاستثناء” المغربي، وذلك بفعل  الأنانية المقيتة والعنجهية المفرطة التي يتسم بها الحزب الأغلبي وفريقيه الحكومي والنيابي. لقد كنا نعتقد، في البداية، أن الارتباك والارتجال والاستفراد بالقرارات واعتماد التسويق الإعلامي لقضايا غير ذي أهمية، الخ، كان مرده  إلى قلة التجربة ودهشة البداية؛ لكن بعد سنة ونصف من تدبير الشأن العام وبعد الإصرار على نهج سياسة الأذن الصماء تجاه حتى الحلفاء، فإنه لم يعد ممكنا أن يستسيغ المرء مثل هذه التبريرات؛ لقد أصبح واضحا أن الحزب الأغلبي   يعطي الأولوية، عمليا، للمصالح الحزبية، بينما، خطابيا، لا يكف عن الحديث عن الإصلاحات الكبرى وعن المصالح العليا للوطن (لأنهم، بكل بساطة، يكذبون بصدق، كما قال “محمد رامي”، “الاتحاد الاشتراكي”، 3 يونيو 2013)؛ وذلك بأسلوب فرجوي، لا يميز بين المقامات، لدرجة الخلط بين ظروف الحملة الانتخابية وبين شروط ممارسة المسئولية التدبيرية والتشريعية.
لقد أصبح واضحا أن الأستاذ “عبد الإله بنكيران” لم يستوعب بعد بأنه يرأس حكومة، عليها أن تدبر شئون جميع المغاربة؛ لهذا نجده يتصرف كرئيس حزب وليس كرئيس حكومة وأغلبية؛ فحتى حينما يتحدث إلى البرلمان، فإنه يغلب عليه انتماؤه الحزبي أكثر مما يستحضر دوره كرئيس للأغلبية. ومما لا شك فيه أن هذا الموقف نابع من الخلط الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة؛ فهو وفريقيه الحكومي والبرلماني هم في حكم من هو في حملة انتخابية دائمة ؛ لذلك تراهم يسعون، بُغية الهيمنة على كل شيء، إلى ملء كل الفضاءات، بما فيها تلك التي تعود، دستوريا، إلى غيرهم، تاركين مهامهم الحقيقية، في مجال التشريع والتدبير، التي من أجلها انتخبوا.
لن نخوض في الأزمة الحكومية التي تعود، في جزء منها، إلى التسابق بين مكوناتها الأساسية على تحقيق بعض الكسب السياسي على حساب بعضها البعض. لكن، لا بد أن نسجل، إلى جانب التصدع الحكومي، مقاطعة المعارضة بكل فرقها للجلسة الشهرية لرئيس الحكومة ، وكذا مقاطعة الاتحاد العام لمقاولات المغرب للقاء الذي نظم مع رجال الأعمال الأتراك الذين رافقوا السيد ” رجب طيب أردوغان”، الوزير الأول التركي، خلال زيارته الرسمية للمغرب. وقبل ذلك، نسجل مقاطعة النقابات الأكثر تمثيلية للحوار الاجتماعي ومقاطعة الجمعيات الوازنة في البلاد للحوار الوطني حول المجتمع المدني؛ ونسجل أيضا لعبة الشد والجذب بين وزارة العدل ومكونات منظومة العدالة (الانسحابات أو تعليق المشاركة أو المقاطعة) في الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، إلى غير ذلك من المواقف التي تعبر، بالملموس، عن فشل الفريق الحكومي، وعلى كل المستويات، في تدبير المرحلة.
بالطبع، الحزب الأغلبي يفسر كل شيء بنظرية المؤامرة ويضع كل المواقف وكل الانتقادات في خانة ما يعتبره تشويشا على الحكومة وعرقلة لعملية الإصلاح المنظور؛ وهو بذلك يريد أن يجعل من نفسه ضحية؛ والهدف، فيما نعتقد، واضح: هو الهروب من المحاسبة ومن تحمل مسئولية نتائج تدبيره للشأن العام، التي تنذر (من خلال القرارات المتخذة إلى حد الآن ومن خلال أسلوب التعاطي مع الملفات ومع الفرقاء السياسيين والمهنيين وغيرهم) بأنها ستكون كارثية. ولو تمعنا في دوافع المواقف المقاطعة للحوار مع الحكومة، المشار إليها في القرة  السابقة، لأدركنا أن الحزب، في شخص فريقيه الحكومي والبرلماني، هو بالفعل ضحية؛ لكنه ضحية نزعته الهيمنية التي تتجلى في أسلوبه في التدبير وفي موقفه المتعالي تجاه كل الفرقاء، بدون استثناء…مما يدل على ضيق أفقه في التفكير وقلة حنكته في التدبير(وفاقد الشيء لا يعطيه)؛ إذ لا يعقل أن يكون كل الفاعلين الذين أشرنا إليهم متآمرين على حكومة “بنكيران” أو متحاملين عليها؛ وحتى ولو كان، “فما اجتمعت أمة على ضلال”.
لقد سبق أن تناولنا نوع الخطاب السياسي الذي أصبح سائدا مع هذه الحكومة وأبرزنا بعض سماته. وتأبى الأيام إلا أن تؤكد لنا أن ما قلناه عن ضحالة هذا الخطاب ليس لا افتراءا ولا تحاملا، بل هو عين الصواب في توصيف متنه ومضمونه. وقد كانت المقاطعة للجلسة الشهرية لرئيس الحكومة من قبل المعارضة (احتجاجا على تحويل هذا المكتسب الدستوري عن أهدافه) مناسبة أكدت، وبالملموس، تردي الخطاب وضعف التحليل وعدم استيعاب مضامين الدستور الجديد و عدم القدرة على التعامل مع المستجدات بمنطق المصلحة العامة، الخ. فاللغة المستعملة من قبل أعضاء في الفريق الحكومي وفي الفريق النيابي للحزب الأغلبي  في التعبير عن رد فعلهم على الموقف المشروع الذي اتخذته المعارضة دفاعا، من وجهة نظرها، على المكسب الدستوري الجديد، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تعبر عن بؤس سياسي حقيقي. ولن نجد، للتدليل على ذلك، أحسن من مقال (“هيسريس”، 3 يونيو 2013)  كتبه “دكتور في القانون”(“ياحسراه”) وممثل للأمة وقيادي في الحزب الأغلبي(“عبد اللطيف بروحو”) بعنوان “لما ذا قاطعت المعارضة جلسة رئيس الحكومة؟”، يعكس، بجلاء، شكلا ومضمونا، بؤس الخطاب السياسي السائد مع الأغلبية الحالية. ولو شئنا مجاراة كاتب المقال في الوقاحة (وهذه الكلمة نستعيرها منه، وبالضبط من العنوان الفرعي لمقاله: “وقاحة المعارضة وتمردها على المؤسسات الدستورية”)، لقلنا إن السياسة وصلت، مع أمثاله، إلى الحضيض. فحديثه عن الابتزاز السياسي وعن المزايدة السياسية الرخيصة وعن هروب المعارضة من مواجهة رئيس الحكومة وعن رغبة المعرضة في توقيف الجلسة الدستورية الشهرية حتى لا تظهر عوراتها من خلال أجوبة رئيس الحكومة وعن تخوف المعارضة من تنامي شعبية هذا الأخير وعن أريحية الأغلبية البرلمانية في التعامل مع المعارضة داخل مجلس النواب وتسامحها؛ واتهام هذه المعارضة بخرق الدستور وممارسة سياسة لي الذراع وتقديم مطالب غير دستورية، إلى غير ذلك من الدفوعات (وهي غيض من فيض) التي ليست لا قانونية ولا دستورية ولا سياسية ولا حتى سجالية (بسبب أسلوبها الركيك وتركيبها المهلهل).
وإمعانا في الخلط، يقدم دكتورنا  في القانون المعارضة وكأنها تريد أن تسطو عن حق ليس لها؛ لهذا، فهو يرى في الدفاع عن حق دستوري ابتزازا، واختيار الوسيلة الأنسب لتحقيق المطلب وقاحة، ورفض إفراغ الجلسة الشهرية من محتواها الرقابي هروبا، والتوافق مع فرق المعارضة منة وأريحية، الخ. وبوقاحة أكبر، يتجاهل الفصل العاشر من الدستور الحالي (الذي يعطي للمعارضة مكانة متميزة) ويحيل على الفصل 100 منه، ليُقوِّله ما لم يقله (في “كذبة باينة”، على رأي المغنية الشعبية “نجاة اعتابو”) حيث كتب “أن الدستور والنظام الداخلي ينصان (كذا) صراحة على قاعدة النسبية وعلى حصص زمنية تتناسب مع تمثيليتها”(يقصد فرق المعارضة)، مقحما الصول 57 و58 و157 من النظام الداخلي السابق الذي لا يتناسب والوضع الدستوري الجديد الذي لا يتحدث لا على النسبة ولا عن تناسب الحصص الزمنية مع التمثيلية؛ ما عدا إن كان دكتورنا في القانون لا يعلم بأن البلاد تتوفر على دستور جديد، روحه تختلف عن روح دستور 1996.
وإذا أردنا أن نتتبع ما يقوله وما يكتبه وزراء ونواب العدالة والتنمية عن موقف المعارضة من الجلسة الشهرية لرئيسهم، فسنكتشف العجب العجاب في مجال الخطاب السياسي الجديد الذي، كلما اقتربت منه، زدت قناعة بأنه أضحل خطاب عرفه الحقل السياسي المغربي المعاصر. ونزيد على ما سبق مثالا واحدا، نعتقد أنه سيكمل الصورة، لكونه استعمل، هذه المرة، “مصطلحا” ليس لا من عالم “سيف بن ذي يزن” ولا من عالم “ابن المقفع”، بل من عالم تتداخل فيه عوالم أخرى، لا داعي لاستعراضها هنا؛ لكن لا بد أن نشير إلى أن صاحبة الخطاب، عند استعمالها للكلمة التي نقصدها، كانت، ربما، تفكر في “الفلول”، ما دام الحديث يدور حول المعارضة وفرقها. يتعلق الأمر بكلمة “الخشيبات” التي استعملتها وزيرة  حكومة “بنكيران” لوصف المعارضة.
 جميل أن تتذكر السيدة “بسيمة الحقاوي” تلك الوسيلة البيداغوجية التي، لا شك، أنها أفادتها في تعلم عمليتي الجمع والطرح. لكن ما ليس جميلا هو أن تنسى بأن الخشيبة هي تصغير لكلمة خشبة (يعني عود)، وتنسى أن الحكمة الشعبية تقول: “العود اللي تحقرو يعميك”. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وبما أن  الأمر يتعلق بكل فرق المعارضة، فكان حريا بها أن تستحضر الحديث الشريف “يد الله مع الجماعة” (فالمعارضة قاطعت بصفة جماعية الفرجة الشهرية لرئيس الحكومة) أو تلك الحكمة القائلة:”في الاتحاد قوة وفي التفرقة ضعف”، والمستخلصة من تجربة كسر حزمة من الأعواد متفرقة واستحالة كسرها مجتمعة. فالحكومة، بفعل مفهومها الضيق للنسبية وللديمقراطية، تواجه الآن كل فرق المعارضة مجتمعة. ويا ليتها كانت المواجهة تعتمد خطابا سياسيا عميقا، وليس ما هو سائد اليوم من ضحالة وإسفاف.   
ولتطمئن السيدة الوزيرة، فالاتحاد الاشتراكي لن يكون أبدا خشيبة؛ ولتعم أن بتضحيات رجاله ونسائه (والتي كانت جسيمة ومكلفة بشريا وماديا ومعنويا؛ وإن كان لها شك في ذلك، فلتراجع تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة) انكسرت شوكات وهزمت أنانيات وتحققت مكتسبات، لن تسمح الحركة التقدمية (التي تعرف قيمة التضحيات التي قدمتها من أجل الديمقراطية)، وفي طليعتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بالتراجع عنها.
خلاصة القول:إن حكومة “بنكيران”، بسبب الأزمة التي تسببت فيها مع جميع الأطراف وبسبب تنكرها للمكتسبات الديمقراطية التي يقرها الدستور الجديد، تشكل تهديدا حقيقيا لـ”الاستثناء” المغربي. ومن تداعيات هذه الأزمة العامة، التي يبدو أن “بنكيران” وفريقه غير مكترث بها، أن الثقة التي كان يتميز بها المغرب والتي تعززت بفعل الإصلاحات السياسية والدستورية التي عرفتها سنة 2011، قد بدأت تهتز، حسب ما تتداوله  بعض الصحف، مما يشكل خسارة حقيقية على المستويين السياسي والاقتصادي. وعلى كل، فمقاطعة الاتحاد العام لمقاولات المغرب للوزير الأول التركي (بسبب عقلية الهيمنة لدى حزب رئيس الحكومة)، لن تكون بدون تبعات سياسية واقتصادية بالنسبة لعلاقات المغرب الخارجية. ولا عجب في أن تكون الأمور قد وصلت إلى ما وصلت ولا نرى من مبادرات لوقف النزيف وتفادي المزيد من التردي. فالسيد “بنكيران” وفريقاه الحكومي والبرلماني يهتمون باستثناء آخر غير الاستثناء المغربي المعروف؛ إنهم يريدون ممارسة السلطة والمعارضة في نفس الوقت. وهو “نموذج” في الحكم لا نعلم له مرجعية، ولا يمت لا للديمقراطية ولا للتعددية بصلة. وهذا ما سيقود المغرب، حتما، إذا ما لم يتم تدارك الأمر، إلى كارثة حقيقية وعلى كل المستويات، خصوصا وأن رئيس الحكومة لا يرى في المواقف التي استعرضناها إلا ضجيجا يحيط بحزبه الذي “حقق نجاحات تدعو إلى الاعتزاز والفخر”. فهل هناك عمى أكبر من هذا؟