رغم أني ضد عقوبة الإعدام ولم أكن قط ، من مؤيدي الحكم به على أي شخص ، وأعتبره سالبا للحياة التي لا حق لأي كان في أخذها إلا خالقها الرحيم بأرواح عباده من البشر وباقي المخلوقات ، حرصا ربانيا عظيما على حياة خلقه ، بموجب قوله تعالى “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” ، الحرص الذي يعززه نبيه ، صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: “والله لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة بيته الحرام” ، فإني أرى أن إباحة الإسلام لعقوبة الإعدام ، وإجازته الحكم بعقوبتها في حالة القصاص وجرائم الحد ، لم يكن إلا من أجل أمن المجتمع وسلامته من أن تحاصره الجرائم من كل جانب فتقتله ، والله يريد الحياة للمجتمعات لا موتها ولذلك خاطب المسلمين جميعهم ، بقوله سبحانه وتعالى : “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” لأن المجتمع الذي يتهاون في زجر المجرمين مجتمع هالك لا محالة ، كما في قوله عز وعلا “يَا أَيها الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى “البقرة 178 ، ولذلك سن القصاص “عقوبة الإعدام” كجزاء من جنس جريمة قتل النفس بغير حق ، ينردع بها الجناة ، ويستقيم المجتمع ، ويُحافظ فيه على “حق الحياة” التي يعتبرها الإسلام وباقي قوانين ومواثيق واتفاقيات منع الإجرام والقتل ، قتلا لجميع الناس كما في كتابه العزيز : “ومن قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً” المائدة: 32 ، صدق الله العظيم..
ورغم إجازة تطبيق عقوبة الإعدام -التي لا يجوز انزالها إلا بمقتضى حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة ، وقاض نزيه ومفت عالم بحدود القضية – فقد نص في مواضيع كثيرة من القرآن الكريم ، على إمكانية العفو والتصالح في عقوبة الإعدام الذي قد يجوز في جرائم فردية ، لما فيه من أمن وسلم مجتمعي ، كما في قوله تعالى : “فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ” لكنه في أحداث كبرى فيها الكثير من المجاز ، كتلك التي حدثت وتحدث في مصر، والتي لا تتوقف دوامتها عن ترويع الأبرياء واستباحة دمائهم بدون حق ، يصبح الحكم بها ، ضرورة ماسة وملحة ، ولها ما يبررها مصداقا لقوله تعالى : “فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ “البقرة ، لأن الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان ، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً وعلى الدولة أن تحمي هذا الحق بالقانون ، الذي يصبح تطبيقه في مثل هذه الحالات من الضرورات الماسة والملحة ، التي عبر عنها شكسبيري بقوله :”نكون أو لا نكون” .
كم استغربت استنكار أولئك الذين يدَّعُون الدفاع عن الإسلام ويتبجحون بالعمل على إعلاء كلمته وتحقيق نصرة أمته وسيادتها على الأكوان ، على مصر تطبيقها القصاص في من هدد سلامة الوطن واستقراره وروع مواطنيه الأبرياء الآمنين ، بالقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وقد كانوا بعد 25 يناير 2011 من ضمن القوى السياسية أو غير السياسية التي رفعت شعار القصاص الذي فرض الله عز جلاله على المجرمين ، كتعبير عن المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن العنف وقتل المتظاهرين .
وعجبت أكثر من مفارقة كيلهم بمكيالين ، حين قسموا القتل إلى حلال وحرام ، يهللون ويكبرون ، دون أن تهتز ضمائرهم ، يوم ملأ قتلتهم بطن الأرض بأجساد أبناء مصر الأبرياء ، بينما يزعقون “الدم بالدم” يوم حكم بالإعدام على إرهابيين منهم ، ذبحوا وسحلوا باسم الدين ، فهل تطبيق القانون في من يقتل عشرات المآت من أبرياء لا ذنب لهم ، إلا أنهم من الشرطة أو الجيش ، حرام وباطل .
وإذا كان عجبي واستغرابي من هؤلاء “كوم ” كما يقول المصريون ، فإن دهشتي وتعجبي من مواقف وردود بعض الدول الغربية -التي يؤكد أكثريتها ، على مبدأ الفصل بين السلطات والتأكيد على استقلالية القضاء وعدم جواز التعقيب على أحكامه ، سواء من جانب أطراف داخلية أو خارجية أيا كانت ، باعتبار أن ذلك يمثل مساسا باستقلاليته – وعلى رأسها الولايات المتحدة ، تجاه الأحكام القضائية الصادرة من محكمة جنايات المنيا بإحالة أوراق 528 «إخوانيا» إلى مفتي الجمهورية ، “كوم ثاني” ، حيث صدمني انتقاد تلك البلدان التي تتبجح بالديمقراطية ، للأحكام الصادرة بحق الإرهابيين الذين روعوا وقتلوا أبرياء مصر، والذي عبرت عنه الناطقة باسم الخارجية الأميركية ماري هارف وكاثرين أشتون الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي، إن عقوبة الإعدام “لا يمكن تبريرها على الإطلاق ، بالرغم من خطورة الجرائم التي أدينوا بها، وان الاتحاد الاوروبي يرفض عقوبة الإعدام في جميع الظروف لأنها لا تتفق مع المعايير القانونية الدولية” ، ناسين ، أو متناسين أنهم بذلك يكيلون بمكيالين ويطبقون المثل الشعبي المغربي “عيبك يا الولية رديه الي”، وذلك لأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في الأميركيتين التي صدرت فيها أحكام بالإعدام خلال عام 2013، حيث شهدت 9 ولايات تنفيذ عمليات إعدام ، مقارنة بـ 13 ولاية في 2011.
وخير ما اختم به مقالتي هته هو هذه الأبيات الشعرية التي تنطبق على الولاية المتحدة والاتحاد الأوربي والتي تقول :
يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ … هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليـمُ
تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا … كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ
وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا … أَبَداً وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ
فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها … فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ
فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي … بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليـمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ … عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيـمُ