السياسات العمومية بالمغرب، مميزاتها، و طرق صياغتها
يعتبر إعداد و صياغة السياسات العمومية من المراحل المحددة لنجاح أو عدم نجاح هذه السياسات، وذلك لما هي عليه من تعقيد تتداخل فيه كل المجالات الاقتصادية منها و الاجتماعية و السياسية. و كذلك لتعدد المتدخلين و المؤثرين في صنع السياسات العمومية. لقد أدركت الحكومات على تباين أنظمتها السياسية واتجاهاتها الفكرية أنها بحاجة إلى دعم ومساندة شعوبها لما تتخذه من قرارات، وما تقوم به من أعمال متنوعة في جميع الظروف والأوقات. وحتى يتحقق لها ذلك، فأنها أخذت تسعى جاهدة إلى حل مشاكلهم والاستجابة لمطالبهم المتنوعة من خلال مجموعة من الخطط والبرامج (يطلق عليها السياسات العمومية) الهادفة إلى تحقيق جملة من المنافع وتخفيف المعاناة عن الغالبية منهم. إن ما يميز السياسات العمومية هو شمولية نتائجها لشرائح واسعة من المجتمع ان لم يكن المجتمع كله، مما يحتم الاهتمام بصياغتها أو رسمها بشكل يؤدي الى زيادة فرص نجاحها وتحقيق المنافع المتوقعة عند تنفيذها، وتقليل احتمالات فشلها الى أقل نسبة ممكنة.
-
تحديد مفهوم و مميزات السياسات العمومية
يعرف المعهد العالي للدراسات العمومية في فرنسا السياسة العمومية ـ على أنها : “هي مجموع القرارات والأعمال والتدخلات المتخذة من قبل الفاعلين المؤسساتيين والاجتماعيين لأجل إيجاد الحلول لمشكل جماعي ما”. بينما يذهب الباحثين الفرنسيين ـ مينه و جون كلود ـ في كتابهما السياسة العمومية ويعرفانها على أن السياسة العمومية برنامج عمل حكومي في قطاع اجتماعي أو مجال جغرافي
باعتبار أن السياسات العمومية تندرج تحت قائمة التخصصات الأكاديمية، فإنها تحمل في دراستها بعض عناصر العديد من مجالات ومفاهيم العلوم الاجتماعية بما في ذلك مجال الاقتصاد، وعلم الاجتماع، والاقتصاد السياسي، وتقييم البرامج، وتحليل السياسات، والإدارة العامة، على أن يتم تطبيق كافة تلك المجالات على المشكلات الخاصة بالإدارة والتسيير والعمليات الحكومية. وفي نفس الوقت، تختلف دراسة السياسات العمومية عن العلوم السياسية أو الاقتصاد، من حيث تركيزها على تطبيق النظرية من خلال وضعها في حيز الإطار العملي.
بما أن السياسة العمومية تتخذ رسميا باسم جهاز الدولة فإن لهذا الاعتبار تبعات مهمة وأساسية، وهذا ما يمنح للسياسات العمومية مميزات خاصة تنفرد بها وتعطيها أهمية بالغة. فالسياسة العمومية تعبر منطقيا وافتراضيا على الأقل عن المصلحة العامة، ثم إنها تصدر في إطار محدد مسبقا من المشروعية، ومن المفترض كذلك أن تعبر السياسة العمومية عن درجة محترمة من الانسجام، وأخيرا فإن ضخامة فعل السياسة العامة وخطورة المصالح التي تمسها تتطلب درجة كبرى من التوقعية لكي لا تؤدي السياسة العامة إلى إثارة آثار عكسية غير مرغوب فيها.
-
صناعة السياسات العمومية
لا يمكن لأية دولة او حكومة مهما كانت امكاناتها المادية والبشرية، ومواردها الاقتصادية من تلبية المطالب التي يتقدم بها مواطنوها، او معالجة جميع مشاكلهم مرةً واحدة، انما يتطلب ذلك العمل بنظام الصفوف او الطوابير، أي تقديم الاهم على المهم من المشاكل والقضايا، وفقاً لجدول الاسبقيات السياسية، الذي يعد بهدف تلبية هذه المطالب، وحل المشكلات الواحدة بعد الاخرى بحسب اهميتها او درجة الحاحها، او قوة الفئة او المجموعة التي تتأثر بها او بنتائجها.
يختلف ترتيب الاولويات حسب برامج الاحزاب و أيديولوجياتها، فالأحزاب ذات التوجه الاشتراكي مثلا ترتب المسألة الاجتماعية على رأس اولوياتها، أما الاحزاب الليبرالية فتهتم بالمسألة الاقتصادية و تجعل الاوضاع الاجتماعية ناتجا لتحسن المؤشرات الاقتصادية. كذلك تساهم عدة عوامل أخرى في التأثير على أولويات السياسات العمومية كالمحيط الجهوي و التحديات الإقليمية والتي تواجهها الدول.
في بلادنا، كانت عملية صنع السياسات العمومية تتسم بالانفرادية و المزاجية، فبعد إجهاض تجربة التخطيط الاقتصادي التي جاء بها وزير المالية المرحوم بوعبيد، عاش المغرب نوعا من التخبط في صنع المخططات الاقتصادية. فبعد فشل الرهان الكلي على القطاع الفلاحي، تم التفكير في إقامة قاعدة صناعية وطنية صلبة. و اصطدم هذا الحلم بنقص في التمويل و بعزوف الرأسمال الوطني عن الاستثمار في القطاع الصناعي. كما تميز صنع السياسة العمومية بالتفكير في القطاعات الاقتصادية دونما ربطها بالقطاعات الاجتماعية و هو ما جعل الفاعل السياسي يخلط بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية المنشودة، فكل هم الفاعل السياسي انصب حول كيفية رفع المؤشرات الإنتاجية في مختلف القطاعات الاقتصادية دونما الالتفات إلى البيئة الغريبة التي أنبتت فيها هذه الوحدات الإنتاجية و التي تشكو الفقر و الأمية و انعدام البنيات التحتية ومحدودية الطلب الداخلي و هو ما آل بالمشروع التنموي برمته إلى الفشل.
في الفترة الانتقالية التي عاشها المغرب بعد مجيئ حكومة التناوب، أصبح الفاعل السياسي يستورد مخططات و موديلات لصنع السياسات العمومية، و أصبح الفاعل السياسي يعتمد على البرامج المندمجة التي تصبو التأثير في المجال الاقتصادي و الاجتماعي. كما تشبع الفاعل السياسي بآليات جديدة لصنع السياسات العمومية او للتأثير في صياغتها كالمناظرات القطاعية و البرامج القطاعية التي تنتج عنها. كما بدأت ثقافة المقاربة التشاركية في صنع السياسة العمومية تظهر في بلادنا، و أصبح بإمكان المجتمع المدني أن يكون طرفا في صياغة و اقتراح السياسة العمومية، بل إن دستور 2011 أعطى للمجتمع المدني القدرة على تقييمها و تتبعها.
لكن مستوى الفاعل السياسي لم يواكب هذه التحولات الماكرو سياسية التي تعرفها بلادنا، و ظلت الأحزاب شاردة عن النص، لا هي واكبت تطور الترسانة القانونية، ولا هي أجابت عن مختلف الأسئلة المطروحة حول السياسات العمومية و التي تهم الارتقاء بالسياسات القطاعية التي تعرف قصورا كبيرا في المرور من التصور و ترجمته على أرض الواقع، أو تنزيل دور المؤسسة التشريعية التي أصبحت مطالبة بتقييم هذه السياسات العامة. ثم كذلك وضع و صياغة سياسات أكثر إقناعا و أكثر واقعية و احترافية من تلك البرامج التي لا ترقى لدرجة السياسات العمومية المندمجة و التي بإمكانها رفع تحديات بلادنا في العشرية القادمة.