عبد الله درميش
نقيب سابق
حينما لا يكون السكوت من ذهب …وجب الكلام
الإحالة: الملف الجنائي المتعلق بتوفيق بوعشرين وتداعياته
إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب، مقولة مشهورة لاكتها الألسن إلى أن أصبحت عادة متفشية في كل الأوساط، واستقرت في الأعماق، وتفرعت عنها مقولة أخرى، ” كم حاجة قضيناها بتركها”؟.
إذا كان هذا هو الوضع الصحيح والعادي، فإن تداعيات الملف الجنائي للمتهم” توفيق بوعشرين”، والاحتقان الذي واكب جلسات المحاكمة، وعرفته هوامش القاعات، وكواليس المحكمة وردهاتها، و امتد خارج أسوار القطب القضائي، من لدن بعض أعضاء هيئة دفاع الطرف المدني، ودفاع المتهم، جعل كُلَّ من له قليل من الغيرة على مهنة المحاماة يخرج من صمته ويتكلم.
إن المتتبع لمسار مهنة المحاماة في كل محطاتها وفي محاكماتها الشهيرة، يلاحظ أن النقاش الساخن بين أعضاء هيئة الدفاع، وبين النيابة العامة أحيانا، وبين هيئة الدفاع، وبين الهيئة القضائية أحيانا أخرى، وبين أعضاء هيئة الدفاع مع زملائهم أحيانا قليلة، كان النقاش يدور حول القانون، واجتهاد القضاء، والكل في إطار الاحترام المتبادل بين الجميع، دون تعكير صفو العلاقة التي تربط أفراد جناحي العدالة، وقلما سمعنا أن المحكمة حررت محضرا خاصا يوثق للخلاف.
وكان هذا هو حالنا، واستمر هذا الحال عقودا من الزمان، وبدأت الأوضاع تتغير بتعاقب الأجيال على مهنة المحاماة، بحيث اختلفت الثقافات، وتنافرت وجهات النظر، وتعددت اللغات، وأصبح المحامي لا يعرف لغة زميله الذي ينتمي إلى جيل آخر من أجيال المهنة.
وعلى الرغم من هذه السُّحب، التي سرعان ما تنقشع، وقع في الآونة الأخيرة ما لم يكن في الحسبان، وحدث زلزال قوي هز أركان مهنة المحاماة، أحدثه بعض أهل البيت من هذا الجانب وذاك.
وحتى لا نقلب المواجع، نكتفي بالإحالة على المنشور رقم 2 بتاريخ 30 يناير 2018 حول “علاقتنا مع الإعلام” و”بيان هام” حول أطوار محاكمة توفيق بوعشرين المؤرخ في 25/5/2018، وهما وثيقتان تجسدان للوضع القاتم الذي وضع فيه هؤلاء المحامون مهنة المحاماة، من خلال تصريحاتهم المجنونة والدنيئة والحقيرة التي نرفضها بقوة وتأباها مهنة المحاماة .
انزلاقات خطيرة ومخالفات جسيمة: المساس بالسر المهني، وغياب الصفات التي يجب أن يتصف بها المحامي طبقا للمادة 12 من قانون المحاماة، والحياد عن الاحترام الواجب للمؤسسات القضائية والمهنية، وخرق لقواعد المهنة، والبوْح بما يخالف القوانين والأنظمة والأخلاق العامة، من خلال الحوارات والتصريحات التي تُمنح لكل من يحمل مكبر صوت وآلة تصوير، دون مراعاة للصفة التي لا تثبت إلا ببطاقة الصحفي القانونية، ودون التقيد بالقرار العارض الذي اتخذته المحكمة بخصوص جعل الجلسة سرية، بعلة أن المعني بالأمر لا يقع تحت سلطان نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء، متناسيا أن هذا النقيب هو الذي يكفل له الحماية، وإلا سقط تحت طائلة مقتضيات الفصل 446 من القانون الجنائي.
إن هيئتنا لم تركن إلى السكوت، كما فعل البعض الذي لاذ بالصمت المطبق، وأصبح متفرجا على مسرحية حقيرة تُمَس فيها أعراض الناس، بمن فيهم الأطراف المدنية والمصرحون والمتهم، وتُخْدش الكرامة، والكل في مسرحية مؤثتة بسفاسف الكلام وإيماءات حقيرة تمجها كل الأذواق البشرية.
تداول مجلس هيئتنا وقائع هذه المصيبة والطامة الكبرى، واتخذ من القرارات ما يجب، وهبَّت جمعية هيئات المحامين من جهتها، وأصدرت بيانا بتاريخ 1/6/2018 واعتبرت مجريات الوقائع تجاوزا للمبادئ العليا التي أُسست من أجلها الجمعية، وقابلت ذلك بالتنديد والشجب، ودعت جميع المعنيين للتوقف فورا عن هذه الخرجات الإعلامية المسيئة للمهنة ولمبادئها، مع حث السادة النقباء على التدخل الحازم حفاظا على حرمة المهنة وقدسية رسالتها النبيلة.
وفي سياق هذه التداعيات وتسارع الأحداث، انبرى نقيب هيئتنا إلى اتخاذ خطوات عملية لتقويم الاعوجاج ورد الأمور إلى نصابها الطبيعي، وتطبيق القانون لإعادة الجلال والقداسة لمهنة المحاماة باستدعاء كل من يجب لاتخاذ المناسب من الإجراءات.
إن مؤسسة النقيب هي المؤهلة وحدها، دون غيرها، للبحث مع المحامين المنضوين تحت لواء هيئة المحامين بالدار البيضاء عن مصدر النيابة والمؤازرة في هذا الملف، باعتبار أن المحاماة، وإن كانت رسالة إنسانية، واجتماعية، فإنها مهنة، وإن كانت ليست كباقي المهن الأخرى، فهي منظمة بمبادئ أعرافها وتقاليدها، وبقواعد القانون الأساسي لمهنة المحاماة، وبضوابط النظام الداخلي للهيئة، ومن بين ما نظمه المشرع وكالة المحامي التي لا تقوم إلا بالتكليف أو بالتعيين.
بالتكليف من الموكل شخصيا أو بواسطة الغير، أو من جمعية ذات منفعة عامة، أو بالتعيين بمقتضى نظام المساعدة القضائية، وهذا يعني أن المحامي لا ينتصب على شخص لم يكلفه بالدفاع عنه قانونيا، أو طُلب منه ذلك في إطار المساعدة القضائية، (المادة 36 فقرة 2 من النظام الداخلي لهيئة المحامين بالدار البيضاء).
لذا فإن المحامين المعنيين باستدعاء من النقيب ملزمون ببيان مصدر وكالتهم والجهة التي كلفتهم بذلك، إذ لا تطوع في مهنة المحاماة.
ومن جهة أخرى، فإن المحامين المعنيين بالاستدعاء، مطلوب منهم بيان الأسباب، والدواعي التي جعلتهم يفشون سرية المناقشات،والمعاينات، ضدا في القرار القضائي العارض، وعدم الإخلاص لِقَسم المهنة، وحيادا عن التشبث بالوقار، كما تقتضي ذلك المادة 36 من قانون المحاماة، وعدم الاستجابة لأوامر النقيب التي جاءت واضحة في “المنشور”، وفي “البيان الهام” المشار إليهما أعلاه.
إن النقيب ظل يتابع المحاكمة عن كثب، ولساعات طويلة إلى الربع الأخير من الليل، يرصد الإخلالات التي تجاوزت هامش التسامح إلى الوقوع في الفعل المحظور الذي يقع تحت طائلة القانون العام، وتريث النقيب إلى أن اجتمع مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب، واستنفذ كل المحاولات، درءا لسلوك أي مسطرة، نحن في غنى عنها، إلا أن دار لقمان بقيت على حالها، بل استفحلت الأمور، وتعقدت الأوضاع، وانطلقت ألسنة الرأي العام بالسخط والتنديد على ما وصل إليه بعض المحامين من قلة الأدب، وتحقير المقرر القضائي، وإهانة المؤسسة وعدم الاستجابة لأوامر النقيب.
ألا تشكل تصرفات هؤلاء المحامين تأثيرا على القضاء من خلال استيلاب الرأي العام عن طريق المرافعات التي يقدمونها خارج قاعة الجلسات؟ بحيث تحدث بعضهم عن الوقائع التي كانت محل مناقشة في جلسة سرية، وتناول التكييف القانوني للوقائع، ووقع الكلام أيضا عن وسائل الإثبات، وتم الكشف عن فحوى التسجيلات وهو ما يمنعه الفصل 109 من القانون الأسمى للمملكة.
إن ما قام به بعض هؤلاء الذين لا يرافعون للمحكمة واختاروا طريقا خاطئا، ورافعوا للرأي العام من خلال وسائل الاتصال، ولا أقول وسائل الإعلام، أليس في كل هذا مساس صارخ للحياة الخاصة للمتهم، ولبعض المصرحات، وللطرف المدني؟ وهو ما يجعلهم مخالفين للقوانين والأنظمة كقانون 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي.
وخير ما نختم به هذه الكلمة ما جاء في حكم كتاب الله العزيز في سورة الإسراء الآية 70: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ صدق الله العظيم
عن موقع : فاس نيوز ميديا