حين نكتب عن أحداث ومظاهر حقيقية أو خرافية قديمة وتاريخية، فإننا بحق لا نمتلك عادات وقيم تلك القيم الماضية كما هي. لا نمتلك إلا كلمات الصياغة، وتوابل حرارة التدوين، ومحاولات أن تبقى الكتابة تحمل رموزا تتحرك وفق ما وصلنا من التاريخ الشفهي للمكان والزمان. هي الذاكرة الفردية والجماعية التي قد تنتفض لكي لا تقع في المحو، والسطو على ممتلكاتها الباقية برأس قلم الرصاص. هي الذاكرة التي نحاول أن نوثق بعض أحداثها، ونعمل على حقن مناعة لوعيها الفردي والجماعي.
فحين نكتب عن الخرافة فإننا لا نؤيد الخرافة أو نروج لها بمدار اليأس الاجتماعي، بل نكتب لأجل التصحيح والتغيير. نكتب لأجل البحث عن مكامن الاستفادة من الأحداث مهما كانت. هي ذاكرة الوعي التي يمكن ألا تُحبس بالتوجس، لأجل إرضاء متنطعين عن أحداث آتية من الماضي. هي الذاكرة إن نحن أحسنا تفكيك رموزها المتدفقة من الماضي، فقد نتجنب من خلالها عيش مكر أحداث الحاضر.
فقد كان لزاما علينا إبداء هذه المقدمة بالإحاطة التوسعية، حتى نتجنب فزع الثقة والمصداقية، ونفي أحداث بلهاء من الماضي. اليوم نحكي عن أنساس بسطاء أثثوا مشهد حي الزيتون. عن رجال كانوا يعرفون مثل الدرهم الحسني. إنهم أناس من طينة البسطاء، أناس كانت طيبتهم ومعاملاتهم المستوفية للصفاء، تجعلهم في قلب الساكنة بالاحتضان والرعاية. لن أوزع أسماءهم الحقيقية، بل سأبقي على الصفات والكنية التي اشتهروا بها في حي (قبيلة) الزيتون.
من البدء يحضر اسم المرحوم (سي ضو) وهو الفقيه الكفيف كما عرفناه منذ الصغر. كان حاملا لكتاب الله قراءة وتلاوة. ومن عجيب الذكرى فإنه كان دائما يستند إلى عصاه الحدباء، ويمشي ليلا ونهارا بلا دليل. يعرف الأسماء من خلال نبرات الصوت، يعرف أنساب أهل الزيتون واحدا واحدا. وغير ما مرة ونحن صغار السن قمنا باختباره، ونحن نلون ونغير أصواتنا، لكنه كان (رحمه الله) ذكيا في مواجهة غبائنا وسذاجتنا، ويفحمنا بالجواب الصحيح. كانت سكناه قريبة من برج (غيران الثعالب) خارج باب كبيش، وكان يداوم القراءة على القبور في مقبرة سيدي عياد أيام الجمعة والأعياد، فرحمة منا له.
ثاني وجه مألوف لنا (مول الحوت) المرحوم (بركة) ببنيته القصيرة، ولونه الأسمر الداكن. كان يبيع السردين على (عود الريح / الدراجة الهوائية)، وهو ينادي بلكنته الصحراوية مع تغيير فونيمات الكلمة بالإعلال الفوضوي إلى (آش ندير). من بين الأحداث كما ذكرت لنا بالحكي، فقد تم القبض (بركة) مول الحوت يوم أحداث بوفكران المفزعة قرب باب القزدير، وهو واقف على رأس جثة مستعمر. قبض عليه وفي يده قطعة من حديد، واعتبر من المناوئين للمستعمر، ومن المساهمين في إشعال أحداث وادي بوفكران، وحكم على الرجل بالسجن !!! وبعد خروجه تم الاحتفال به كرمز من رموز الكفاح الوطني بحي الزيتون. ورغم ذلك، فالرجل لم ينل بطاقة المقاوم، ولا تلك التعويضات السخية، ولا حظه من مالية جبر الضر والمصالحة، وبقي يمارس مهنة بيع السردين إلى أن وافته المنية رحمه الله.
رمز آخر من باب كبيش (أبا امبارك) مول الماء، أي حارس ماء السلوقية، والقائم على توزيع حصص الماء على فلاحي العويجة، وقادوس الجامع، والحمام، وباب البطيوي. (أبا امبارك) كان رحمه الله رجلا ذا قامة من جنس العمالقة، كان قوية البنية الجسمانية، وزاده الله بسطة في الحيلة والجسم. كان حكيما ولا ينفعل، ورزينا في المواقف المتحركة، ولا يستغل بنيته الجسمانية في الخصام، ولا في التعدي على الآخرين. كان منصفا عادلا حتى في توزيع أقساط مياه السقي بأمانة.
يُحكى لنا، أن كان في حريسة الخيول (لارمود) حصان صعب المراس، لا يقدر أحد على ركوبه، ولا الاقتراب منه من شدة عصيانه. وفي مكتب رئاسة الحريسة فرنسي، فقد اقترح اسم (أبا امبارك) عليه في ترويض الحصان بالتجريب. هو اقتراح بطبعه كان فخا لكي ينالوا من (أبا امبارك) ضحكا، والحصان يسقط جسمه الضخم أرضا، لكنه فطن لشياطين الإنس الذي أرادوا تمريغ أنفته أرضا. فطلب مكافأة مليحة، وبدون تفكير تم قبول طلبه. لأنهم متيقنون أنه هو الخاسر، ويمكن أن تنكسر عظامه من الحصان العاصي للأوامر.
كان لقاء المنازلة بين (أبا امارك) والحصان المتنطع، ببلاد العويجة صباح يوم جمعة. فقد استغل (أبا امبارك) ذكاء الحيلة لا بسطة الجسم، واستغل أرضا محروثة لورثة الحاج عبد الكريم، وقام بحبكة ذكية ماكرة، حيث قام بتعويمها بالماء ليلا. حضرت جمهرة من المتفرجين من حي الزيتون، ومن الفرنسيين، وحضر الحصان الذي (يطير مع الجن). ضحك (أبا امبارك) وأخذ لجام الحصان، وبذكاء الرجل دفع بالحصان إلى الأرض المحروثة المغمورة مياها. هنا بات الحصان قبل أن يرفع رجلا تغرق الرجل الأخرى في الوحل الطيني الغارق. بات الحصان يبحث عن مسلك للخروج من (الطين الوحل)، بعدها قفز(أبا امبارك ) على ظهره ثابتا كالفارس الصنديد، والحصان يتنطع بدون سبيل إلى إسقاطه. عمل (أبا امبارك) على تحريك الحصان في الأرض المحروثة والمغمورة بالمياه جيئة وذهابا، إلى أن سال عرقه وانهارت قواه المتنطعة. بعدها أخرج (أبا امبارك) الحصان المنهوك القوى أمام أهل قبيلة الزيتون، ومسؤولي الحريسة من الفرنسيين، ونال تصفيقات الحاضرين، ونزل منه ثم ركبه، ثم رفع رجل الحصان ومرَّ من تحته بلا خوف، والحصان المسكين فاقد لقدرة المناورة ثانية.
ربح (أبا امبارك) الرهان وربح أنفة قوته التي كان يأمل رجال من حي الجبابرة الضحك عليها. هي وجوه متفردة بالبساطة وأخرى فرحمة الله عليهم جميعا.
(حلقات رمضانية عن حي الزيتون)
عن موقع: فاس نيوز ميديا