جلست السيدة ليلى على الأريكة وفنجان الشاي الدافئ بالنعناع بين يديها، نظرت حولها في الغرفة، فوجدت عيناها تتجهان تلقائيّاً إلى الصورة العائلية الكبيرة التي تزين الحائط، ابتسمت بحزن وهي تتذكر الأيام التي كانت فيها هذه الغرفة مليئة بضحكات أطفالها الثلاثة. كانت تلك الأيام بسيطة وسعيدة، أيام لا تشوبها هموم.
لم يعد منزلها صاخباً كما كان سابقا، بل حل الصمت مكان ضحكات أطفالها وهم يلهون في كل ركن ويتسابقون.
أخذتها الذكريات إلى زمن ليس ببعيد، حين كان المنزل يعج بالحياة. تتذكر ليالي الشتاء الباردة وهم يتجمعون حول المدفئة، يروون قصصاً خيالية ويضحكون حتى تؤلمهم بطونهم. تتذكر أيضاً أيام الصيف الحارة وهم يلعبون على الشاطئ، يبنون القلاع والقصور الرملية ويغضبون حين كانت أمواج البحر تهدمها.
ابتسمت ليلى وهي تتذكر أول يوم ذهبت فيه ابنتها إلى المدرسة، وكيف كانت سعيدة وفي نفس الوقت خائفة ولم تترك يدها حين وصلت المدرسة وأرادت أن تدخل معها إلى الفصل. وتذكرت أيضاً يوم تخرج ابنها الأكبر وأصبح مهندسا معماريا، وكيف احتفلت العائلة كلها بهذا الإنجاز الكبير.
مرت صور عديدة أمام عينيها، كل صورة تحمل معها مشاعر مختلفة؛ فرح، حزن، فخر، شوق، دموع… كل هذه المشاعر كانت متداخلة في قلبها.
أغمضت عينيها، واستسلمت لذكرياتها الجميلة حين كانت قريبة من أطفالها أكثر من أي وقت مضى.
*****
ــ مقدمة :
تعتبر قصة “نوستالجيا” لوحة فنية مؤثرة تعبر عن تجربة إنسانية جامعة تتمثل في تجربة الحنين إلى الماضي، استطاعت الكاتبة من خلال سردها البسيط أن تستحوذ على عواطف القارئ وأخذه في رحلة إلى عالم الذكريات والحنين إلى الماضي.
1ــ دراسة العنوان :
“نوستالجيا” هي كلمة يونانية الأصل مركبة من : Nostos وتعني عودة، و Algos وتعني معاناة، فنوستالجيا هي معاناة تسببها الرغبة غير المشبعة للعودة، فهي تعبر عن الحنين إلى الماضي والشوق إليه والألم الذي يعانيه جراء ذلك، فهي تعبر عن حالة نفسية معقدة تجمع بين الحزن والفرح والشوق والألم. فالعنوان يشير إلى مفهوم الحنين وهو شعور يتضمن الرغبة في العودة إلى أوقات سابقة، مما يتماشى مع مضمون القصة بشكل دقيق، فهو يهيئ القارئ لاستكشاف مشاعر الفقدان والحنين التي تعيشها الشخصية.
ــ في أحضان القصة :
1ــ اللغة :
تتميز لغة القصة بالبساطة والوضوح، وهي قريبة من لغة الحياة اليومية، وهذا يعكس رغبة الكاتبة في إيصال رسالتها بأسلوب سهل ومباشر.
2 ــ السرد والحكي :
اعتمدت الكاتبة على السرد من منظور الرؤية من الخلف، مما أتاح للشخصية الرئيسية فرصة للتأمل في تجاربها وذكرياتها، ويمنح للقارئ إحساسا بالتقارب مع الشخصية ويساعده على فهم مشاعرها وأفكارها بشكل مباشر. كما أن الحكي السردي تميز في القصة بالبساطة والوضوح مما يسهل على القارئ متابعة الأحداث وتقريبه من عالم القصة.
3 ــ الشخصيات والأحداث :
٢ــ شخصية ليلى : هي شخصية محورية في القصة، وهي أم تعيش حالة من الحنين إلى الماضي، وتتذكر بشوق أيام طفولة أبنائها. تعكس شخصية ليلى تجربة الكثير من الأمهات اللائي يشعرن بالفراغ بعدما يكبر أبناؤهن ويستقلون بحياتهم.
٢ــ الأطفال : شخصيات غير مباشرة، وهم رمز للسعادة والحيوية في حياة ليلى، وغيابهم هو سبب حزنها وشعورها بالوحدة.
٣ــ العائلة : شخصيات غير مباشرة تمثل الدعم.
٤ــ الأحداث : الأحداث في القصة بسيطة ومتسلسلة؛ تبدأ القصة بجلوس ليلى على الأريكة وتذكرها للماضي، ثم تنتقل إلى سلسلة من الذكريات التي تتراوح بين الفرح والحزن.
4 ــ الزمان والمكان :
١ــ الزمان : يتحرك الزمان في القص بين الحاضر والماضي؛ الحاضر هو لحظة الحنين والشوق، والماضي هو مصدر هذه المشاعر.
٣ــ المكان : يقتصر المكان في القصة على الغرفة، حيث تجري أحداث القصة مما يعكس الانطواء على الذات والحنين إلى الماضي.
5 ــ الرمزية :
تستخدم الكاتبة الرمزية بشكل بسيط وفعال؛ فالشاي الدافئ قد يرمز إلى الدفئ العاطفي الذي تبحث عنه ليلى في الماضي. والمنزل/الغرفة يرمز إلى الماضي والحياة السابقة، وهو المكان الذي تحتفظ فيه بجميع ذكرياتها. والصورة العائلية تمثل رمزا للعائلة والسعادة والوحدة في نفس الوقت. والأمواج التي تهدم القلاع الرملية قد ترمز إلى تقلبات الحياة التي تدمر الأحلام والآمال.
6 ــ الرسائل :
تعتبر قصة “نوستالجيا” قصة إنسانية بامتياز، تسعى الكاتبة من خلالها إلى إيصال العديد من الرسائل، منها :
١ــ الحنين إلى الماضي : تعبر القصة عن الحنين الطبيعي للإنسان إلى الماضي، وخاصة إلى الأيام السعيدة.
٢ــ تقدير اللحظات : تشجع القصة القارئ على تقدير اللحظات الجميلة في الحياة والاستمتاع بها.
٣ــ أهمية العائلة : تؤكد القصة على أهمية العائلة في حياة الإنسان، وكيف أن الذكريات العائلية تبقى محفورة في الذاكرة.
٤ــ التغيير كجزء من الحياة : تسلط القصة الضوء على حقيقة أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من الحياة، وأن علينا أن نقبل التغييرات التي تحدث.
ــ خاتمة :
تعتبر قصة “نوستالجا” عملاً أدبيّاً ناجحاً في قدرته على إيصال مشاعر عميقة وبسيطة في نفس الوقت، من خلال لغة أدبية بسيطة وأسلوب سردي سلس، تستطيع الكاتبة أن تلامس قلوب القراء وتجعلهم يعيشون تجربة الحنين إلى الماضي.