تنشر اسبوعية "تريبونا" مقالا لخبير معهد الدراسات الاستراتيجية سيرغي دِميدِنكو ، جاء فيه أن الأحداث الليبية تختلف اختلافا جذريا عن غيرها من "الثورات العربية" لأن العامل الخارجي يلعب الدور الحاسم فيها.
لقد كان للمعارضة حضور على الدوام في ليبيا، وخاصة في الجزء الشرقي من البلاد، ولكن زعيم الجماهيرية عرف كيف يتعامل معها. أما الأخطاء الرئيسة التي ارتكبها فكانت على صعيد السياسة الخارجية. في العام 2000 تخلى القذافي عن المواجهة المباشرة مع حلف الناتو، وأوقف العمل ببرنامج إنتاج أسلحة الدمار الشامل ومساعدة المتطرفين. ومع ذلك تبين أن من دواعي سرور العقيد أن يذل الدول الأوروبية المهتمة بالوصول إلى سوق النفط الليبي، فقد فرض عقوبات على سويسرا، وأرغم إيطاليا على دفع تعويضات عن فترة استعمارها ليبيا، و"تكرم" على ساركوزي وأوباما بإعطائهما دروسا في كيفية إدارة العالم، مخاطبا الأخير بكلمة "ابننا". إن تحسس العواصم الغربية من القذافي بلغ حده ، ونضجت خطة إسقاط نظامه، فعقيدٌ خارج السيطرة ويمتلك 40 % من احتياطات النفط في افريقيا، هو شخص لا يناسب الغرب. وما أن اندلع في برقة تحرك جديد للمتمردين الإسلاميين في سياق موجة "الثورات العربية" حتى لقي الدعم الشامل من الخارج، علما بأنه كان تحركا عاديا تماما. وفي الفترة من كانون الثاني / يناير وحتى آب /أغسطس عام 2011 ، استطاع الخبراء العسكريون من الناتو وبلدان الخليج العربي تحويل فصائل المتمردين الشرقيين والإسلاميين العاجزة عسكريا إلى قطعات ذات قدرة قتالية نسبية. غير أن جهودهم لم تكن كافية لإطاحة القذافي، فالشعب كان يساند العقيد. كما أن حرب الناتو "الجوية" لم تؤد إلى تغير جوهري على الوضع العملياتي. وفي هذا السياق ازدرى التحالف قرار مجلس الأمن رقم 1973، وأقدم على استخدام قواه الأخرى. وليس سرا اليوم أن الهجوم الكاسح على طرابلس كان بمساعدة مباشرة من طرف خبراء الغرب العسكريين، فتحت ضغط الوقائع اضطرت أوساط الناتو للاعتراف بأن مشاركتها في العملية لم تقتصر على الاسناد الجوي وتمويل المقاتلين. واليوم تتحدث "بي بي سي" ، و "سي ان ان" ، عن قوات خاصة ومرتزقة أوروبيين وعرب، اي أن الغرب يؤكد مرة أخرى أن دكتاتورية القوة كانت وتبقى بالنسبة له أعلى من دكتاتورية القانون. ان السؤال عن مستقبل ليبيا يتصف اليوم بقدر كبير من الأهمية، خاصة وان النتيجة الفعلية الوحيدة لما يُسمّى بـ "الثورة الليبية" هي ازاحة القذافي. وليس من المبالغة القول إن التناقضات بين المتمردين أخذت تتعاظم (والمثال على ذلك ، اغتيال عبد الفتاح يونس ، أحد قادة المعارضة المسلحة) ، لاسيما عندما سيدور الحديث عن اقتسام سوق النفط ، أو شحنات الغذاء الى ليبيا. كما لا ينبغي أن ننسى القبائل. إن ملامح الصراع القادم بدأت بالظهور جزئيا منذ الآن، فالقبائل تبدي استياء جديا من نية المتطرفين الدينيين تأسيس امارة اسلامية في مدينة درنة. وفي ظروف غياب السلطة قد ينخرط أبناء القبائل الليبية المختلفة في قتال ليس ضد الاسلاميين فقط، بل ضد بعضهم البعض. وبدورهم سيقوم الثوار بتصفية حساباتهم مع الذين أيدوا القذافي حسب رأيهم (وهم ليسوا قلة)، وهذا ما يجري الآن. من الواضح ان ليبيا تنتظرها سنوات من المحن العصيبة. إن الغرب الذي أخذ على عاتقه تأمين الاستقرار في هذا البلد، يأمل بأن يقدم للعالم نموذجا آخر من "الديمقراطية المثالية" ، ولكن من الأرجح أن تسير الأمور في الجماهيرية السابقة وفق السيناريو العراقي.