لم تنفع الضغوط التركية والتهديدات باتخاذ تدابير اقتصادية وتجارية عقابية ضد فرنسا في إثناء مجلس النواب الفرنسي عن التصويت أمس على اقتراح قانون يعاقب إنكار عملية إبادة الأرمن بالسجن سنة كاملة ودفع غرامة 45 ألف يورو. وبعد مجلس النواب، يتعين أن يذهب القانون إلى مجلس الشيوخ للتصويت عليه قبل أن يصبح قانونا، مما يعني أن مهلة من عدة أشهر قبل أن يبدأ العمل بالقانون الجديد.
غير أن أنقرة ووفق ما كانت توعدت به مرارا، سارعت إلى انتقاد الخطوة وأعلنت عن سلسلة من العقوبات السياسية والعسكرية ضد فرنسا. فقد وصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أمس مشروع القانون الفرنسي بأنه عنصري وينطوي على تمييز وكراهية للأجانب وأنه فتح جروحا مع باريس يصعب أن تندمل. وأعلن أن بلاده ستستدعي سفيرها من باريس وستعلق جميع الزيارات السياسية والمشاريع العسكرية الثنائية ومن بينها المناورات المشتركة بين البلدين. وأضاف «من الآن فصاعدا، سنعيد النظر في علاقاتنا مع فرنسا». ومعظم هذه العقوبات التركية على فرنسا، حليفتها في الحلف الأطلسي، هي في المجال العسكري. وأوضح أردوغان أنه ردا على القانون الذي أقره مجلس النواب الفرنسي، فإن تركيا ستنظر في كل طلب عسكري من فرنسا لاستخدام أجواء تركيا أو قواعدها العسكرية، بشكل منفصل. وقال أردوغان إن بلاده لن تشارك في اجتماع اللجنة الاقتصادية المشتركة الذي سيعقد في باريس في يناير (كانون الثاني) المقبل، ولن تشارك في أي مشاريع مشتركة مع هذا البلد في إطار الاتحاد الأوروبي.
كما اعتبر نائب رئيس الوزراء التركي بولند أرينش أن تصويت مجلس النواب الفرنسي على اقتراح إنكار إبادة الأرمن «خيانة للتاريخ». وقال أرينش عبر حسابه على موقع «تويتر»: «أدين البرلمان الفرنسي الذي أقر هذا القانون الذي يمثل خيانة للتاريخ وللحقائق التاريخية». ثم أضاف متسائلا «هل سيطلقون حملة مطاردة ضد الذين يقولون إن الإبادة لم تحصل؟»، آخذا على مشروع القانون الفرنسي سعيه إلى «مصادرة الحرية الفكرية للعلماء». وتابع «هم يعلمون جيدا أنهم بهذا (القانون) يوقعون على عودة محاكم التفتيش (التي كانت ناشطة خلال القرنين الـ15 والـ16، ومهمتها اكتشاف مخالفي الكنيسة الكاثوليكية ومعاقبتهم) إلى فرنسا». ويتوقع أن تعمد الحكومة التركية، إلى الإعلان أيضا عن إجراءات انتقامية بحق الشركات الفرنسية العاملة في تركيا، والتي يصل كثيرها إلى نحو ألف. وبلغت المبادلات التجارية بين البلدين العام الماضي أكثر من 12 مليار يورو.
لكن وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه سارع هو الآخر إلى مطالبة أنقرة «بعدم المبالغة في رد الفعل» على تبني قانون تجريم إنكار إبادة الأرمن. وقال جوبيه «ما أرجوه هو ألا يبالغ أصدقاؤنا الأتراك في رد الفعل»، وذلك بعد إعلان أنقرة سلسلة من إجراءات الرد الدبلوماسية والعسكرية.
وكانت وكالة الأنباء الفرنسية قد نقلت عن مصادر دبلوماسية، أن جوبيه سعى إلى إقناع الرئيس ساركوزي بعرقلة أو تأجيل التصويت على القانون الجديد، خصوصا أن اقتراح القانون جاء من نائبة يمينية تنتمي إلى حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية (الحاكم)، هي فاليري بواييه.
وترافق تصويت أمس مع مظاهرات صاخبة أمام مبنى البرلمان الواقع قريبا من ساحة الكونكورد الشهيرة في باريس قام بها أتراك مقيمون في فرنسا أو جاءوا من بلدان قريبة مثال ألمانيا وبلجيكا.
ومع هذا التصويت، دخلت العلاقات الفرنسية – التركية في أزمة عميقة تذكر بما حصل بين البلدين في عام 2001 عندما أقر البرلمان قانونا تعترف فرنسا بموجبه بحصول الإبادة التي تؤكد المصادر الأرمنية أنها أوقعت ما يقارب 1.5 مليون ضحية. وبالمقابل، فإن أنقرة التي تنفي حصول محرقة بهذا الاتساع، تعترف بوقوع ما بين 300 و500 ألف ضحية من الأرمن سقطوا بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى بدءا من عام 1915 وليس بسبب وجود خطة إبادة جماعية. والفرق مع قانون عام 2001 أن الأخير يجرم عملية إنكار الإبادة، وهو بالتالي يساوي مع إنكار المحرقة اليهودية التي كانت الوحيدة التي يعاقب ناكرها بالحبس أو بغرامة مالية. وسعى وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي جان ليونيتي إلى التقليل من أهمية التهديدات التركية التي وصفها بأنها «كلام في الهواء» باعتبار أن تركيا لا تستطيع أن تتخذ تدابير عقابية بحق الشركات الفرنسية مثل حرمانها من المشاركة في المناقصات العامة ومن الفوز بمشاريع في تركيا بسبب ارتباطها بمعاهدات واتفاقيات دولية وأوروبية أهمها مع المنظمة العالمية للتجارة.
وإذا كان «انتقام» تركيا تجاريا واقتصاديا معروفا، فمن غير المعروف ما ستكون عليه العقوبات الدبلوماسية باستثناء استدعاء السفير التركي في باريس أو إبعاد السفير الفرنسي عن أنقرة. والسؤال المطروح فرنسيا يتناول مدى تأثير الأزمة الناشئة على التعاون والتنسيق بين العاصمتين بشأن أزمات الشرق الأوسط، وخصوصا تطورات الملف السوري.
وسارعت أرمينيا، بشخص وزير خارجيتها، إلى شكر فرنسا على الخطوة التي اتخذتها، بينما تندد تركيا بالدوافع الانتخابية التي تقف وراء الخطوة الفرنسية. وترى أنقرة أن الانتخابات الرئاسية ثم التشريعية تدفع السياسيين الفرنسيين من اليمين واليسار إلى دعم القانون الجديد سعيا وراء الأصوات الأرمنية. واللافت أن الأكثر حماسا له كان نواب المناطق التي تقيم فيها الجالية الأرمنية في فرنسا، والتي تقدر بنصف مليون شخص.
وكان وزير الدفاع جيرا لونغيه الأكثر صراحة من ضمن الفريق الحكومي الذي أبدى انزعاجا واضحا، إذ أعلن أن النواب «ليسوا أفضل المؤرخين» للحكم على حصول عملية إبادة من عدمها.وينضم القانون الجديد ليزيد الهوة بين باريس وأنقرة التي عمقتها معارضة الرئيس ساركوزي القديمة والقطعية لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.