“هَزَمَتك يا موت الأغاني…”
بقلم/محمد أوزين
دخل جند الخليفة العباسي موسى الهادي على مجلس للطرب والغناء في حضرة بعض الأمراء والشعراء، يتقدمهم أبو العتاهية. وكان الخليفة الهادي قد منع مجالس الموسيقى والطرب والرقص في حربه ضد “الزندقة” وهو ما لم يكن ينظر إليه أخوه وولي عهده هارون الرشيد بعين الرضى. حيث رأى في قرار أخيه الخليفة تشددا وتعصبا ومبالغة. باعتبار الزندقة في الأصل هي محاربة الوثنيين والمشركين والدجالين ومدعيي النبوة.
سأل رئيس الجند أبو العتاهية من تكون أنت؟ فأجاب الشاعر العباسي وهو يرتعد خوفا من بطش الخليفة بقوله الشهير مستعرضا حرفة أهله في صناعة الجرار:
طيان وابن طيان ألا سحقا لهذا الزمان المقلوب الميزان
توفي الخليفة الهادي وتولى الخلافة من بعده أخوه هارون الرشيد الذي عرفت فترة حكمه بالعصر الذهبي الإسلامي، حيث تميز عصره بالحضارة وإزدهار العلوم والدين والثقافة والفنون. بسط الخليفة الرشيد العدل والأمن وأصلح شؤون الرعية. ورغم إختلاف الروايات حول شخصية الرشيد، إلا أن هناك إجماع حول ما تحقق في عهده من نهضة شاملة ورخاء وإرتقاء وامتداد للدولة. حيث أنشد إبراهيم الموصلي، وهو أشهر المغنين في العصر العباسي، قائلا:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة فلما ولي هارون أشرق نورها.
استلهمت شخصية هارون الرشيد الفذة مواضيع العديد من الروايات والقصص والمؤلفات لعل أحدثها مؤلف عبد الأمير مهنا “الطرب والظرف والنشيد في مجالس هارون الرشيد”، وكتاب “الأغاني” لأبي فرج الأصفهاني وهو مؤلف ضخم إستغرق تأليفه زهاء خمسين سنة، يضم، حسب بعض الروايات، مائة أغنية كان هارون الرشيد قد أمر مغنيه الشهير الموصلي بجمعها وتوضيبها، وأعتبرت أساس بناء مؤلف الأصفهاني الذي لم يخل من إثارة الجدل حول بعض المضامين وصحة السند.
لنعد إلى الحاضر. خلال الأسبوع الجاري إعتقلت السلطات الإيرانية الفنان الشاب مهدي رجبيان
على خلفية تهمة تحريض نساء على الرقص والغناء. والتحريض حسب التهمة: ألبوم جديد يضمّ مغنيات إناث. حيث يمنع القانون الإيراني غناء النساء أمام الرجال، في حين يسمحُ لهن بالغناء أمام النساء فقط. حيث سبق للشرطة الدينية الإيرانية أن أوقفت مجموعة فنية لموسيقى البوب بعد أن عزفت فتاة أغنية منفردة لبضع ثواني في حفل موسيقي بطهران. كما ثم إعتقال مسؤول بارز في وزارة الثقافة لمجرد ظهور فيديو لصبيان وفتيات يرقصون في مكان عام.
الغريب أن المستشفيات بإيران تحولت إلى مسرح للرقص بهدف شن حرب نفسية على الأجواء “الكورونية” نقلتها مقاطع فيديوهات متعددة تظهر مشاهد الرقص الجماعية لنساء ورجال فيما يعرف ب “تحدي الرقص”. وهو مشهد غير مسبوق منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، بحيث لم تحرك السلطات ساكنا ولم تشهر الحزم المألوف إتجاه “الحادث”.
أصابت عدوى الرقص مستشفيات إيران أكثر مما أصابها الوباء. فكسر “تحدي الرقص” المحظور، واستوطنت الفيديوهات العالم الأزرق وهي تسوق مشاهد راقصة بين طواقم طبية ومرضى مصابين بالوباء. ولمواجهة الظروف النفسية الصعبة التي تمر بها البلاد في ظل العدوى، انتقل الإيرانيون من “تحدي الرقص” إلى “تحدي الضحك”. إلا أن هذا الأخير لم يلق إقبالا كبيرا بفعل الإهتمام والإقبال الكبيرين الذي حظي بهما “تحدي الرقص”.
وخارج أي رد فعل رسمي، فقد كان لرقص الأطقم الطبية من الرجال والنساء وحتى المرضى نصيبا من الإحتجاج: حيث نعت بعض المنتقدين تحدي الرقص “بالعمل الحرام”، فيما شبهه آخرون بشرب الجنود للخمر في جبهات القتال. وغرد أحدهم قائلا: “المستشفى الذي يعتز بالمعصية (في إشارة إلى تحدي الرقص) يخلو حتماً من الشفاء”, مستطردا “من يغض الطرف عن المعصية لاسترضاء الآخرين دون اعتراض، فقد باع دينه”. لتتناسل الردود: كيف لتحدي الرقص في ظروف صعبة وإمكانيات محدودة أن يوصف بالمعصية؟ وكيف لرفع المعنويات لأطقم طبية منهوكة تحت وطأة ساعات طويلة من العمل، ومرضى مصابون بالإحباط والإكتئاب أن يوصف بالإسترضاء وبيع الدين؟ ورغم كل الإنتقادات، فإن غالبية ردود الفعل كانت إيجابية ومرحبة ومشجعة لتحدي الرقص في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهو في الواقع، حسب العديد، تحدي للمحظور وكسر حاجز الممنوع. فهل سيمهد تحدي الرقص لتحول إجتماعي في إيران؟
نفس المشهد، هذه المرة من العراق: طاقم طبي من الرجال والنساء يستعرض رقصة من الفلكلور الكردي. و من الفيليبين، طاقم سفينة الرحلات الفاخرة “أميرة الألماس” يرقص على مقطع من أغنية الفنان الكندي جاستين بيبر “عيد الحب” في محاولة ترفيهية على الركاب البالغ عددهم 3700 والذين ظلوا عالقين على متن السفينة بعد أن ظهرت أعراض الوباء على العديد منهم.
وحتى تطبيق TikTok الواسع الإستعمال لدى الفئات اليافعة، انتشر بشكل غير مسبوق في مشاهد متعددة للرقص والغناء والتواصل والإرشاد والتحسيس عبر استعراض لقطات فنية ولوحات إبداعية كان لها تأثير كبير في نفوس الصغار كما الكبار.
ترك لنا أجدادنا إبداعات فلكلورية شعبية ورثناها عنهم، غنينا على نغماتها ورقصنا على إيقاعاتها. كانت معظمها نتاجا لمعاناتهم وتجاربهم وإختبار فصول الحياة لهم في أوقات مختلفة: خلال مواسم الحصاد والأعراس والأعياد والأفراح، وحتى الموت لم يغب عنه الشدى الحزين. حكى العديد عن واقعة إبان الحرب العالمية الثانية لما حوصرت لينينغراد من طرف قوات دول المحور لأكثر من سنتين وتظافر الحصار والرصاص والمرض والجوع في قتل زهاء المليون روسي، ظلت الأوبرا الروسية، رغم قساوة الظروف، حاضرة مدوية، متجاهلة قهر وسطوت الموت على زقاق المدينة. إنتهت الحرب وتعافت لينينغراد وأصبح إسمها سانت بطرسبيرغ رابع أكبر مدن أوروبا وأكبر مراكزها الثقافية، وإستمرت الأوبرا.
ترك الشاعر والأديب الراحل محمود درويش قصيدة رائعة عرفت ب “الجدارية” يخاطب فيها الموت، قبل عملية أجراها في المستشفى، قائلا: “أيها الموت إنتظر حتى أعود”. عرفت الجدارية بقول درويش “هَزَمَتك يا موت الفنون جميعها”، “هَزَمَتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين” في إشارة إلى تفوق الفن بمختلف مضامينه الهادفة على الموت. كان صراع درويش مع الموت مقابلة الند للند ولو أن الأقدار شاءت أن تقرع طبول الحرب على مسرح جسده المنهوك فوق سرير مستشفى أمريكي بتكساس قبل أن يستسلم قلبه لعناد الموت. رحل درويش، لكنه هزم الموت بالخلود. ليس خلود الذات وإنما خلود الروح. فالموت يعدم الجسد لكنه لا يهدم الروح.
رحمة الله وصلواته على أرواح موتانا!
عن موقع: فاس نيوز ميديا