يبدأ التونسيون اليوم إحياء ذكرى 17 ديسمبر، تاريخ اندلاع شرارة الغضب الأولى، التي غيرت مجرى التاريخ في تونس والمنطقة. إذا قبل عام من الآن، اقدم الشاب محمد البوعزيزي على احراق نفسه، ما آثار موجة من الاحتجاجات الشعبية، كانت بدايتها في مدينة سيدي بوزيد ثم سرعان ما اتسعت دائرتها لتشمل المدن والولايات المجاورة، الى ان شملت المناطق الساحلية، ووصلت الى العاصمة، ما تسبب في انهيار نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي وفراره إلى خارج البلاد.
ومحمد البوعزيزي من مواليد 29 مارس 1984، توفي والده وهو في الثالثة من عمره، ما جعل والدته تتزوج من عمه للحفاظ على الرباط الأسري. تلقى تعليمه الابتدائي ثم انقطع عن الدراسة ليساعد على توفير لقمة عيش اسرته الفقيرة، حيث عمل في قطعة ارض على ملك خاله، ثم اتجه الى التجارة الموازية، لتعرفه شوارع سيدي بوزيد بائعا متجولا يقود عربته امامه.
ولم يكن البوعزيزي مهتما بالشأن السياسي، وانما كان منخرطا في الحزب الحاكم آنذاك (التجمع الدستوري الديمقراطي)، من باب البحث عن الأمان، كما كان مثل اغلب شباب المناطق الداخلية المحرومة محبا لموسيقى «الراي» الجزائرية والتونسية التي تتحدث عن الموت والهجرة السرية وحرق النفس قهر الزمان، وغيرها من المشاعر السلبية التي كانت تسيطر على جيل بأكمله شعر بالقطيعة مع الرمز والقيمة في مجتمع طالما عانى من التغريب ومن تهميش الفئات الشعبية.
وحتى السابع عشر من ديسمبر كان الرئيس السابق زين العابدين بن علي يعيش حياته العادية في قصر الجمهورية بقرطاج، يحتضن ابنه محمد زين العابدين، ويتابع بعض ملفاته الخاصة على جهاز الكمبيوتر، في حين كان عدد من المقربين منه يسعون الى اعداد قائمات جديدة للمناشدين الذين يطلبون من ابن علي «تلبية رغبة الجماهير والقبول بالترشح لانتخابات العام 2014».
رواية أم
وتقول منوبية مصباح والدة البوعزيزي: «في ذلك اليوم استيقظ محمد كعادته باكرا ليبيع بعض الفواكه من على عربته التي اصبحت جزءا من حياته، وعندما وصل الى محطة سيارات الأجرة بدأ عمله، غير ان موظفي البلدية اسرعوا اليه وطلبوا منه الابتعاد عن ذلك المكان الذي يقع قبالة مبنى الولاية، وقد شعر محمد بالانزعاج فاتصل بخاله وطلب منه الحضور ليتدخل بينه وبين فايدة حمدي، وفعلا وصل الخال وسعى الى الإصلاح بينهما، وما ان غادر المكان حتى عادت فادية وحجزت الميزان الإلكتروني الذي كان البوعزيزي يستعمله في تجارته بعد ان استلفه من احد اصدقائه».
رواية فايدة حمدي
وتروي فايدة حمدي ما حدث فتقول: «حوالي الحادية عشرة صباحا، اتجهت مع زميلين لي إلى محطة سيارات الأجرة الموجودة قبالة مقر ولاية سيدي بوزيد؛ لمعاينة حالة التجارة الهامشية (البيع غير القانوني) التي كانت سائدة هناك، وقد كان المرحوم البوعزيزي أمام عربته المجرورة التي لم يكن عليها غير صندوق صغير للكمثرى حاول زميلان لي حجزه، إلا أنه منعهما من ذلك فتركاه قبل أن يعودا اليه ليحتجزا الميزان الذي كان يضعه فوق العربة».
وتضيف حمدي: «قدم لي احد الزميلين الميزان لاحتفظ به وانقله الى المستودع البلدي، وهنا غضب البوعزيزي وتقدم مني في محاولة منه لأخذه من يدي ولما عجز عن ذلك جذبني بقوة من الشعار المهني الموجود على زيي الرسمي، ما تسبب لي في جرح بسيط في يدي اليسرى». وتتابع: «في تلك اللحظة كان لا بد من المطالبة بتعزيز أمني لحماية نفسي، وهو ما حدث فعلا بتدخل رجال الشرطة».
وأكدت فايدة حمدي أن محمد البوعزيزي لم يحاول الاعتداء عليها بالعنف الجسدي، ولم يقل لها كلاما نابيا «مثلما روجت بعض الإشاعات، وانما أبدى انزعاجا من إحساسه بالغبن والقهر حيث قال لنا انه عانى من تركيز أعوان الرقابة والشرطة البلدية عليه».
رواية صديق
اما صديقه شوقي فيقول انه كان الى جانب البوعزيزي وهو في تلك الحالة من اليأس، ويضيف: «وجدته مرهقا ومنزعجا بعد حجز الميزان، فطلبت منه الاتصال بالمسؤولين في البلدية ومحاولة استعطافهم عساهم يعيدون اليه الميزان، وقد فعل ولكن لم يستمع اليه أحد، فاتجه الى مقر الولاية، وهناك لم يكن حظه افضل مما كان عليه في البلدية، وعندئذ قال لي دعني في ما انا فيه واذهب الى قضاء شؤونك».
شرارة الثورة
توجه البوعزيزي الى محطة بنزين، واشترى بعض الوقود واخذه معه في قارورة، ثم قام بالجلوس على عربته، وسكب البنزين على جسده واشعل في نفسه النار امام دهشة المارة الذين تجمعوا حوله محاولين اخماد الحريق، ولكن دون فائدة، وبعد دقائق جاءت سيارة الإسعاف لتنقل البوعزيزي الى مستشفى سيدي بوزيد، ثم الى مستشفى الحروق البليغة ببنعروس القريبة من العاصمة تونس، حيث لفظ انفاسه الأخيرة يوم 4 يناير.
كانت حادثة اضرام البوعزيزي النار في جسده يوم 17 ديسمبر كافية لتؤجج الغضب في النفوس، وربما لتحيي جذوة الغضب الكامنة في صدور ابناء سيدي بوزيد، الذين انطلقوا يوم 18 ديسمبر 2010 في تنظيم مسيرات احتجاجية ومظاهرات صاخبة، سرعان ما وجدت صدى لها في وسائل الإعلام الأجنبية وعلى صفحات «فيسبوك»، لتتسع رقعتها نحو مدن وقرى المحافظة مثل الرقاب وسيدي علي بن عون ومنزل بوزيان وجلمة والمكناسي، ثم نحو محافظة القصرين المجاورة، التي اعطت للاحتجاجات زخما بلغ ذروته بسقوط عدد من القتلى برصاص الأمن.
17 ديسمبر أم 14 يناير
يحتد هذه الأيام الخلاف حول ما اذا كانت ثورة 17 ديسمبر 2010 تاريخ بداية المواجهات الشعبية مع ديكتاتورية النظام السابق، ام 14 يناير تاريخ فرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي والإعلان عن انتصار ارادة الشعب.
وانتقد أعضاء لجنة الاحتفال بالذكرى الأولى للثورة التونسية انتقدوا تأريخ «الثورة» بمحطة ثانية واختزالها في يوم 14 يناير، واتفق أعضاء اللجنة على أن لهم الحق في تصحيح تاريخ الثورة التونسية لان اعتماد يوم 14 يناير بدلا من 17 ديسمبر فيه «سطو على ذاكرة التاريخ في ثورة قامت ضد السطو على حقوق الإنسان وعلى ذاكرة الشعب».
واعتبروا أن يوم 14 يناير شهد حدث هروب الرئيس المخلوع وهو فعل اضطراري ناتج عن فعل سابق، وهو 17 ديسمبر تاريخ العصيان المدني وبدء الاحتجاجات التي اعلنت عن انطلاق الربيع العربي من مدينة سيدي بوزيد.
من جانبه، يقول الأمين البوعزيزي، وهو باحث جامعي في الإنثروبولوجيا الثقافية والسياسية وعضو اللجنة، انه «في تأريخ الثورة التونسية بـ17 ديسمبر2010 دونا عن تاريخ 14 يناير 2011 عودة إلى المنهجية المعتمدة، وهي أن تأريخ الثورات يكون ببدايتها، وثورة تونس انطلقت يوم 17 ديسمبر بإعلان العصيان المدني خاصة، وانه بعد احتراق البوعزيزي».