“عقد البيع”
يعتبر العقد أهم مصدر منشئ للالتزام بل أن المصادر الأخرى مجتمعة لا تتناسب معه بمفرده في الأهمية. فهو وحده ينشئ الأغلبية الساحقة من الالتزامات.
لم يعرف ق ل ع المغربي العقد خلافا لما فعله القانون المدني الفرنسي في المادة 1101 حيث عرف بأنه: “اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر و شخص آخر أو أكثر بإعطاء أو بعمل أو بالامتناع عن عمل شيء”.
ويلاحظ أن عدم قيام المشرع المغربي بتعريف العقد يعتبر مسلكا سليما تنهجه مختلف التشريعات المدنية الحديثة، لأن التعريف مسألة فقهية يترك الأمر فيها لاجتهاد الفقه، ولا تدخل فيه مهمة المشرع.
ويمكن تعريف العقد كما يلي: ” توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني معين، سواء كان هذا الأثر إنشاء الالتزام كما في عقد البيع (ينشئ التزامات في جانب كل من البائع والمشتري)، أو نقله كما في الحوالة ( تنقل الحق أوالدين من دائن لدائن آخر أو من مدين لمدين آخر)، أو تعديله (مثل الاتفاق على اقتران أجل بالالتزام أو إضافة شرط له)، أو إنهائه (مثل الوفاء الذي ينتهي به الدين)”.
من خلال هذا التعريف يتضح أنه لقيام العقد يلزم توافر عنصرين أساسين:
· العنصر الأول: توافق إرادتين أو أكثر.
· العنصر الثاني: أن يتجه هذا التوافق إلى إحداث أثر قانوني.
والعقود لا يشملها الحصر، و لا تقف في عددها عن حد, و يظهر منها الجديد كل يوم، ويرجع ذلك إلى أن الحياة العملية في تطور مستمر, والقاعدة القانونية الثابتة أن لأفراد الحرية في إنشاء ما يرون من عقود طبقا لمبدأ سلطان الإرادة على أن لا تخالف النظام العام والآداب.
وتختلف تقسيمات العقود بحسب الزاوية التي ينظر منها إلى العقد.
- أولا: من حيث تكوينها تنقسم إلى عقود رضائية وعقود شكلية وعقود عينية.
- ثانيا: من حيث تنظيم الشارع لها تنقسم إلى عقود مسماة أو معينة وعقود غير مسماة أو غير معينة.
- ثالثا: ومن حيث الأثر الذي تخلقه تنقسم إلى عقود ملزمة لجانبين وعقود ملزمة لجانب واحد.
- رابعا: ومن حيث إمكان تحديد مدى التزام المتعاقد فيها تنقسم إلى عقود محددة القيمة وعقود احتمالية.
- خامسا: ومن حيث المدة كعنصر في التنفيذ تنقسم إلى عقود فورية وعقود مستمرة أو عقود المدة.
- سادسا: ومن حيث ما إذا كان عاقدها يأخذ مقابلا لما يعطي أو لا يأخذ تنقسم إلى عقود بمقابل أو عقود معاوضات، وإلى عقود بغير مقابل أو عقود تبرع.
- سابعا: ومن حيث نطاق العقد حول ما إذا كان يقتصر على عملية قانونية واحدة أو يشمل عدة عمليات إلى عقود بسيطة وعقود مختلطة.
- ثامنا: ومن حيث أسلوب انعقادها وكيفية حدوث التراضي بين أطرافها تنقسم إلى عقود مساومة وعقود إذعان.
- تاسعا: ومن حيث إذا ما كان يتطلب قبول كل واحد من المتعاقدين أو يكتفي فيه بقبول الأغلبية إلى عقود فردية وعقود اجتماعية.
وبما أن المادة التي نحن بصدد دراستها هي العقود المسماة فإننا سنلقي نظرة موجزة على النوع الثاني من هذه التقسيمات والذي يشمل العقود المسماة والعقود الغير المسماة لأن الوقت لا يتسع لدراسة كل هذه التقسيمات.
والعقد المسمى هو ما خصه القانون باسم معين، وتولى تنظيمه لشيوعه بين الناس في تعاملهم.
ويمكن أن نعرفه بأنه “العقد الذي خصه القانون باسم معين وتولى تنظيمه بأحكام خاصة، إلى جانب القواعد العامة التي تحكم العقد بصفة عامة، وذلك لشيوعه و … بين الناس في معاملاتهم”.
أما العقد غير المسمى أو غير المعين فهو ما لم يخصه القانون باسم معين ولم يتول تنظيمه. فيخضع في تكوينه وفي الآثار التي تترتب عليه للقواعد العامة التي تقررت لجميع العقود، شأنه في ذلك شأن العقد المسمى، ولكنه لما كان أقل شيوعا لم يفصل المشرع أحكامه اكتفاء بتطبيق القواعد العامة.
و الحكمة في إفراد تنظيم خاص لبعض العقود ترجع إلى أن العقود المسماة كثيرة الشيوع في المعاملات بين الناس، فرُئي تخصيصها بنصوص تفصل أحكامها تيسيرا على المتعاقدين حتى لا يضطروا إلى الخوض في تفصيلات لا يعرفون، أو لا يعرفون وضعها في عقودهم.
وعدم تسمية عقود أخرى من قبل المشرع لا يعني أنها تفتقد إلى اسم يحدد هويتها. فالواقع عندما يفرض التعامل في إطار عقد معين فهذا يعني أن الضرورة ستفرض تسمية هذا العقد لتمييزه عن العقود الأخرى التي قد تختلط به.
ومن أمثلة العقود غير المسماة عقد النشر الذي يتم بين المؤلف و الناشر، والاتفاق على إيواء نزيل في الفندق، واتفاق إدارة مستشفى مع كلية الطب على أن تضع الأولى تحت تصرف الثانية عددا من الأسرة لكي يباشر طلبة الطب فيها أبحاثهم على من يشغل هذه الأسرة من المرضى.
وقد يتبادر للذهن أن العقود غير المسماة لا تخضع لتنظيم القانون، والحقيقة أن المشرع قبل أن يبين أحكام العقود المسماة يبدأ ببيان الأحكام للعقد في نطاق نظرية عامة تشمل العقود أيا كانت صورها. وهذه الأحكام الأساسية تسري على العقود جميعها ما لم يرد بشأن بعضها حكم خاص.
وفضلا عن ذلك فالعقد الغير المسمى إنما يخضع للأحكام العامة للقانون، وللأحكام التي تستنتج عن طريق القياس بمقارنته بما قد يشابهه من العقود المسماة وهذا ما سار عليه قانون الالتزامات والعقود المغربي. فبعد أن خصص الكتاب الأول للالتزامات بوجه عام جاء في الكتاب الثاني وخصه لأحكام مختلف العقود المسماة وأشباه العقود التي ترتبط بها.
وبالنسبة لق ل ع المغربي فقد راعى المشرع في تبويب العقود المسماة أن يقف عند الموضوع الذي يرد عليه العقد، فهناك عقود ترد على الملكية وهي البيع و المعاوضة والشركة والقرض والصلح، وعقود ترد على المنفعة وهي الإيجار و العارية، وعقود ترد على العمل وهي عقد العمل والوكالة والوديعة والحراسة، وعقود الغرر وهي المقاصرة والمراهنة، والكفالة وهي إحدى عقود الضمان، و الرهن الحيازي.
وتعتبر القواعد التي أوردها المشرع في مجال تنظيم العقود المسماة قواعد خاصة، ولهذا فإنه يتعين الالتجاء إليها لتطبيقها على تلك العقود قبل القواعد العامة، فالنص الخاص يطبق بالأولوية على النص العام.
والعقود المسماة رغم أنها قليلة بالمقارنة مع العقود الغير المسماة التي لا تعد و لا تحصى، إلا أن أهميتها تتفاوت من عقد لآخر. ليبقى أهمها هو عقد البيع الذي يحتل مركز الصدارة ضمن قائمة العقود المسماة.
وما يؤكد هذه الأهمية أن مختلف التشريعات المدنية المعاصرة قد تناولت البيع قبل غيره من العقود الأخرى.
وهذه الأولوية في الترتيب نتلمسها أيضا في إطار الدراسات الفقهية الإسلامية التي عرضت للعقود المسماة. فغالبا ما يستهل هؤلاء الفقهاء كتاب المعاملات بباب البيوع باعتباره أهم هذه العقود جميعا.
ونحن بدورنا لن نحيد على هذا النهج، لذلك ارتئينا أن نحصر هذه الدراسة ـ نظرا لضيق الوقت ـ في عقد البيع من خلال ثلاث فصول نتناول في الأول المقتضيات العامة الخاصة بالعقد الناقل للملكية، ونتطرق في الثاني لتمام عقد البيع، بينما نخصص الفصل الثالث لتنفيذ عقد البيع.
الفصل الأول: المقتضيات العامة الخاصة بالعقد الناقل للملكية.
تشتمل هذه المقتضيات على تعريف عقد البيع (الفرع الأول)، والخصائص المميزة له ( الفرع الثاني)، وأخيرا تمييزه عن غيره من العقود التي قد تشتبه به (الفرع الثالث).
الفرع الأول: تعريف عقد البيع.
عرف المشرع المغربي عقد البيع في الفصل 478 ق ل ع بأنه:”عقد بمقتضاه ينقل أحد المتعاقدين للآخر ملكية شيء أو حق في مقابل ثمن يلتزم هذا الأخير بدفعه له”.
من خلال هذا التعريف يتبين لنا أن المشرع المغربي يشير إلى أهم خاصية لهذا العقد والمتمثلة في التزام البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري، وذلك خلافا للمشرع الفرنسي الذي لم يشر في تعريفه لعقد البيع في الفصل 1582 من قانونه المدني إلى هذه الخاصية.
كما أن الصياغة التي جاء بها المشرع المغربي تشمل بالإضافة إلى نقل ملكية الأشياء، نقل الحقوق المالية الأخرى سواء كانت حقوقا مادية أو حقوقا معنوية ناشئة عن استعمال المجالات الأدبية أو الفنية.
ورغم ذلك فإن هذا التعريف يحتوي على بعض العيوب حددها الفقهاء فيما يلي:
– إغفاله التنصيص على وجوب كون الثمن نقدي تمييزا للبيع عن المقايضة.
– إشارته لكلمة حق “دون تخصيص، إلى جانب عبارة ملكية الشيء” وهي أيضا حق، فكان من الأولى اعتماد عبارة حق آخر تجنبا لكل تكرار، وحتى يكون منطوق الفصل 478 ق ل ع منسجما مع متطلبات الصياغة القانونية السليمة.
ليبقى التعريف الذي جاء به المشرع المصري في المادة 418 من قانونه المدني أكثر دقة وشمولية، حيث عرفه كما يلي: “عقد يلتزم به البائع أن ينقل للمشتري ملكية شيء أو حق مالي آخر في مقابل ثمن نقدي”.
وتتجلى هذه الدقة في أمرين اثنين:
الأول: أن البيع قد يرد على الأشياء وعلى الحقوق الأخرى المترتبة على الأموال.
الثاني: التزام البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري مقابل ثمن نقدي.
الفرع الثاني: الخصائص المميزة لعقد البيع.
يتميز عقد البيع بمجموعة من الخصائص أهمها كونه عقدا ناقلا للملكية ينتمي لصنف العقود الملزمة للجانبين، وباعتباره من عقود المعاوضات، فهو ينبني على الرضائية في انعقاده كمبدأ عام.
أولا: البيع عقد ناقل للملكية.
نقل الملكية من البائع إلى المشتري يعد من أهم الخصائص المميزة لعقد البيع، حتى أن هناك من يسميه بالعقد الناقل للملكية. وإذا كانت هذه الخاصية محل إجماع فقهي وتشريعي في الوقت الحاضر، فإن الأمر لم يكن كذلك في التشريعات القديمة كالقانون الروماني والقانون الفرنسي القديم حيث لم يكن البيع ناقلا للملكية ولا منشأ للالتزام بنقلها. كل ما كان من أثر البيع اتجاه البائع هو أن يرتب في ذمة هذا الأخير التزاما بتمكين المشتري من وضع يده على المبيع دون مانع، أما نقل الملكية إلى المشتري فكان يتم نتيجة إتباع إجراءات شكلية معينة مستقلة عن عقد البيع هي الإشهاد أو التنازل القضائي أو التسليم.
وعند صدور مدونة نابليون سنة 1804م أول ما تم إصلاحه هو جعل عقد البيع ينقل الملكية مباشرة من البائع إلى المشتري دون حاجة للتقيد بأي إجراء شكلي ما عدا في الحالات الاستثنائية التي يتطلب فيها سلوك إشهار أو كتابة رسمية من نوع خاص.
وقد سار ق ل ع المغربي على نفس النهج معتبرا أن عقد البيع يكفي لوحده لنقل ملكية المبيع من البائع إلى المشتري، وهذا ما يستخلص بوضوح من الفصل 491 ق ل ع الذي ينص على أن المشتري يكتسب بقوة القانون ملكية الشيء المبيع بمجرد تمام العقد بتراضي طرفيه.
ثانيا: البيع عقد ملزم لجانبين.
يدخل عقد البيع ضمن دائرة العقود الملزمة للجانبين. فهو ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كل من البائع والمشتري، فيصبح كل منهما دائنا ومدينا اتجاه الآخر.
وهكذا يلتزم البائع بنقل ملكية المبيع وتسليمه للمشتري، في مقابل التزام هذا الأخير بتسليم المبيع ودفع ثمنه نقدا.
ويترتب عن وجود مثل هذه الالتزامات المتبادلة بين البائع والمشتري عدة نتائج نذكر منها:
– أنه إذا وقع التزام أحد الطرفين باطلا لأي سبب كان بطل التزام الطرف الآخر. وإذا انقضى التزام أحدهما لاستحالة الوفاء انفسخ العقد وانقضى التزام الطرف الأخر.
– إذا لم ينفذ أحد الطرفين التزاماته فإنه يجوز للطرف الآخر أن يطالبه ولو قضاءا بالتنفيذ العيني أو بفسخ العقد مع حقه في الحصول على التعويض.
ثالثا: البيع عقد رضائي كأصل عام.
ينص الفصل 488 ق ل ع على أنه: “يكون البيع تاما بمجرد تراضي عاقديه أحدهما بالبيع والآخر بالشراء، وباتفاقهما على المبيع والثمن وشروط العقد الأخرى”.
ومن خلال هذا الفصل يتبين لنا أن عقد البيع كمبدأ عام لا يحتاج لأي إجراء شكلي لانعقاده، بل يكفي فيه حصول التراضي بين البائع والمشتري على المبيع والثمن.
لكن رضائية البيع ليست من النظام العام. فقد يتفق المبايعان على أن البيع لا ينعقد إلا إذا تم في شكل يتفقان عليه كتدوينه في ورقة رسمية أو عرفية.. وفي هذه الحالة لا يكون العقد رضائيا، أي لا يكفي لانعقاده مجرد رضا الطرفين، ولا ينعقد إلا باستيفاء الشكل المتفق عليه.
كما أن الرضائية لا تكفي بالنسبة لبعض الأنواع من العقود كالبيع الوارد على العقار أو الحقوق العينية العقارية، أو الأشياء التي تكون موضوعا للرهن الرسمي، حيث أوجب المشرع تدوين هذه العقود كتابة في محرر ثابت التاريخ، ولا يكون لهذا الغير أثر في مواجهة لغير إلا إذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون (الفصل 489 ق ل ع).
رابعا: البيع عقد معاوضة المقابل فيه نقدا.
يعتبر عقد البيع من عقود المعاوضات، ذلك أن كلا من طرفيه يأخذ مقابلا لما يعطيه. المشتري يحصل على ملكية المبيع، والبائع يحصل على الثمن الذي يلتزم أن يكون نقدا.
لذلك يعتبر عقد البيع من قبيل التصرفات القانونية الدائرة بين النفع والضرر يحتاج طرفيه إلى التوفر على أهلية التصرف.
الفرع الثالث: تمييز عقد البيع عن غيره من العقود المشابهة.
المبحث الأول: التمييز بين عقد البيع وبعض التصرفات القانونية الناقلة للملكية.
أولا: البيـــع والهبــة.
الهبة عقد تمليك في الحال بغير عوض، فهي من عقود التبرعات التي يتجرد فيها الواهب من ملكه دون مقابل.
وهي تقترب من البيع في أنها من العقود الناقلة للملكية، لكن الفرق بينهما يبقى في أن الهبة تكون بغير عوض، أما البيع فيكون بمقابل نقدي. وبرغم من ذلك فقد يقع التباس بين العقدين كما هو الحال في الهبة مع وجود عوض أو تكليف يقع على عاتق الموهوب له.
الأمر الذي يطرح بعض التساؤلات بخصوص الطبيعة القانونية لهذا التصرف، هل هو عقد بيع أم هبة، خصوصا في الحالات التي تكون فيها قيمة العوض موازية أو تفوق قيمة الشيء الموهوب؟
إن الاتجاه الغالب في الفقه يذهب إلى اعتماد نية التبرع كمعيار للفصل بين البيع والهبة.
فإذا كانت هذه النية موجودة في جانب العاقد الذي أعطى الشيء كان العقد هبة مهما بلغ مقدار العوض، وإلا فالعقد بيعا.
ثانيا: البيـــع والمقايضة.
عرف المشرع المغربي المقايضة في الفصل 619 ق ل ع بأنها: ” عقد بمقتضاه يعطي كل من المتعاقدين للآخر على سبيل الملكية شيئا منقولا أو عقاريا أو حقا معنويا في مقابل شيء أو حق آخر من نفس نوعه أو من نوع آخر”.
فبالرغم من أن المقايضة من العقود الناقلة للملكية شأنها شأن عقد البيع، إلا أن الفرق بين العقدين يبقى قائما وكبيرا. ففي البيع تتم مبادلة شيء أو حق بثمن نقدي، في حين أن عقد المقايضة يقوم على أساس مبادلة مال بمال لا يكون أي منهما مبلغا من النقود.
وبالرغم من هذا الفارق فقد يحدث التباس بين العقدين في بعض الحالات العملية نذكر منها:
– الحالة الأولى: هي الحالة التي تتم فيها المقايضة مع زيادة مبلغ نقدي للطرف الذي حصل التبادل معه. ويحدث ذلك عادة عندما يكون موضوع المقايضة شيآن وحقان غير متعادلين من حيث القيمة، فيتعهد أحد المتعاقدين بإضافة مبلغ نقدي للطرف الأخر حتى تكون المعاوضة عادلة.
وقد أشار المشرع المغربي لهذه الحالة في الفصل 621 ق ل ع الذي ينص على أنه: “إذا كان أحد العوضين محل المعاملة أكثر من الأخر قيمة صاغ تعويض الفرق بين المُسلّميْن إذا كان محل المعاملة طعاما”. غير أن السؤال الذي يطرح بخصوص هذه المعاملة هو في مدى اعتبار هذا الفارق ……… في المقايضة بمثابة الثمن في عقد البيع أم لا؟.
لقد اعتمد الفقه في الجواب على هذا السؤال قاعدة تبعية الفرع للأصل التي تقضي بتبعية الفروع للأصول في الأحكام، وتطبيقا لهذه القاعدة إذا كان الفارق النقدي أقل من البدل الأساسي فإن العقد معاوضة أو مقايضة، أما إذا كان هذا الفارق يفوق البدل فالعقد بيعا.
– الحالة الثانية: تتعلق بالاتفاق الذي بمقتضاه تتم مبادلة شيء أو حق آخر بمقابل يمكن تحويله بسهولة إلى مثل الأوراق المالية والسبائك الذهبية. فهل يكيف هذا الاتفاق مقايضة أو بيعا؟
يرى الرأي الغالب في الفقه بأن الأمر يتعلق بعقد مقايضة احتراما لإرادة الطرفين التي قصدت أن يكون البدل أوراقا مالية أو سبائك ذهبية عند إبرام العقد دون أن تقصد قيمتها النقدية.
ثالثا: البيـــع والوصيـة.
الوصية تصرف من جانب واحد يصدر من الموصي فيؤدي إلى نقل الحق إلى الموصى له.
لكن هذا النقل مؤجل إلى ما بعد وفاة الموصي مصرا على وصيته.
ورغم هذا الفارق بين الوصية والبيع الذي ينتج أثره فور انعقاده، فإنه كثيرا ما اتخذ البيع كستار يخفي وصية. حيث يلجأ كثير من الأشخاص إلى إبرام تبرعات في صورة بيوع. ومن هذا ما يستنتجه القضاء من أن العقد وصية وليس بيعا في حالة احتفاظ البائع لنفسه بحق الانتفاع بالمبيع إلى حين وفاته، أو منع المشتري من التصرف في المبيع طول حياة البائع، أو اشترط عودة الملكية إلى البائع، أو اشترط عودة الملكية إلى البائع إذا توفي المشتري قبله.
ولمعرفة حقيقة التصرف بيعا كان أو وصية أهمية عملية كبيرة. فإذا كان التصرف في حقيقته وصية فلا ينفذ في حق حقيقته وصية فلا ينفذ في حق الورثة إلا في حدود ثلث التركة، إلا إذا أجاز الورثة ما فوق ذلك. وإذا كان بيعا فإنه ينفذ في حق الورثة مهما كانت قيمته.
المبحث الثاني: التمييز بين عقد البيع وبعض التصرفات القانونية غير الناقلة للملكية.
هناك العديد من العقود لا تعتبر ناقلة للملكية ولا لأي من الحقوق المالية الأخرى، ومع ذلك تدق التفرقة بينها وبين عقد البيع كعقد الكراء والوكالة والمقاولة والوديعة.
أولا: البيـــع والكراء.
عرف ق ل ع المغربي الكراء في الفصل 627 بأنه: “عقد بمقتضاه يمنح أحد طرفيه للآخر منفعة منقول أو عقار خلال مدة معينة في مقابل أجرة محددة يلتزم الطرف الآخر بدفعها له”.
بعد قراءة هذا التعريف يبدو أنه لا مجال للخلط بين عقدي البيع والكراء، فالأول ناقل للملكية أو لأي من الحقوق المالية الأخرى، في حين يترتب عن الإيجار التزام المؤجر بتمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة مدة زمنية معينة، كما أن البيع من العقود الفورية يلتزم المشتري بدفع كامل الثمن بمجرد تمام البيع، أما الإيجار فهو من العقود الزمنية.
ورغم هذه الفروق الجوهرية فإن الممارسة العملية أفرزت أنواعا جديدة من العقود تدق فيها التفرقة بين عقدي البيع والإيجار و لتوضيح ذلك نتطرق إلى ما يعرف بالبيع الإيجازي.
فالبيع الايجاري أو الإيجار السائر للبيع أو البيع المملك، ويسميه المشرع المغربي في مدونة التجارة بالتمويل بالكراء. ويقصد به الاتفاق الذي بمقتضاه يؤجر المأجور شيئا ما للمستأجر مقابل أجرة تدفع في مواقيت حلولها، ويتفق على أنه إذا دفع المستأجر عدد من الدفعات فإنه يتملك الشيء المؤجر، ويتحول العقد إلى بيع، واعتبرت الأجرة أقساطا للثمن.
ويلاحظ أن هذا النوع من البيوع الذي يجمع بين عقدين في عقد واحد غالبا ما يطرح أكثر من علامة استفهام بخصوص تكييفه وتفسير مضمونه.
فبالرغم من ستار الإيجار الذي يغطي جوهر البيع الحقيقي في البيع الايجاري، فإن أحكام عقد البيع هي التي تسري على هذا التصرف ما دامت العملية في مجملها لا تفترق كثيرا عن البيع بالتقسيط التي تتم فيه تجزئة الثمن على أقساط متفق عليها بين المتعاقدين.
كل ما هنالك أن هذه الأجزاء من الثمن تدفع في شكل أقساط إيجارية تشكل في مجموعها الثمن الإجمالي للبيع.
وقد اختلف الفقه في تحديد طبيعة هذا النوع من العقود، فهناك من اعتبر أن العملية في أصلها تبدأ بالكراء وقد تنتهي بالبيع إذا اختار المكتري إتمام العملية بالبيع استنادا إلى شرط الوعد بالبيع الذي ينطوي عليه البيع الإيجاري.
في حين لم يتردد البعض الآخر في وصف هذه العملية بالبيع، لأنه لا يرى فيها سوى صورة من صور البيع بالتقسيط الذي تتم فيه تجزئة الثمن على أقساط متفق عليها بين المتعاقدين.
وسواء أكان هذا العقد صورة من صور البيع بالتقسيط الذي تتم فيه تجزئة الثمن، أو كان نوعا من الوعد بالبيع الذي يرتبط بالإيجار، فإن الأحكام الواجبة التطبيق هي أحكام البيع وليس الإيجار بالرغم من التشويش الذي يشكله هذا العقد على مؤسسة قانونية مستقلة كالبيع.
ثانيا: البيـــع والوكالة.
عرف الفصل 879 من ق ل ع الوكالة بأنها: “عقد بمقتضاه يكلف شخص شخصا آخر بإجراء عمل مشروع لحسابه …”. إذن يبدو من الصعب الخلط بين عقدي البيع والوكالة، فالبيع من العقود الناقلة للملكية، أما الوكالة فهي الصورة الاتفاقية للنيابة في إبرام التصرفات القانونية. لكن بالرغم من هذا الاختلاف الجوهري بين العقدين فقد يكون من الصعب التمييز بينهما في بعض الحالات العملية.
ويعتبر الإيداع على سبيل البيع (dépôt-vente) من أهم الحالات التي تدق فيها التفرقة بين عقدي البيع والوكالة.
فالشخص عندما يودع أشياء معينة عند شخص آخر ليتصرف فيها بالبيع، فإن وضعية هذا الوسيط ستختلف باختلاف نوعية الاتفاق الذي حصل بين الطرفين. فهو قد يكون بمثابة وكيل من مالك البضاعة إذا تعهد ببيعها لحساب صاحبها. وقد يكون بمثابة بائع في الأحوال التي يتسلم فيها البضاعة من المورد قصد بيعها بشرط إعادة ما بقي منها بدون بيع لصاحبها.
ثالثا: البيـــع و المقاولة.
عرف المشرع المغربي عقد المقاولة في الفقرة 2 من الفصل 729 ق ل ع بأنه: “عقد بمقتضاه يلتزم أحد طرفيه بصنع شيء معين في مقابل أجر يلتزم الطرف الآخر بدفعه له”.
ورغم الاختلاف الواضح بين عقد البيع وعقد إجارة الصنعة، باعتبار الأول ناقل للملكية أما الثاني ينصب على عمل المقاول الذي يقوم بصنع شيء معين مقابل أجرة يحصل عليها. إلا أنه في بعض الحالات تتداخل عناصر العقدين معا، مما يفرض ضرورة تحديد الطبيعة القانونية لمثل هذه المعاملات.
ونتلمس هذا في التدخل في الحالة التي يقدم فيها المقاول لرب العمل والمواد اللازمة لإنجازه. مما يدفع إلى التساؤل حول مصير هذه المواد. هل تعتبر بيعا، أم تسري عليها أحكام المقاولة التي تعتبر الإطار العام الذي يتحكم طبيعة العلاقة بين المقاول ورب العمل؟
لقد توصل الفقه إلى خلق معيار اقتصادي يعتمد على الموازنة بين قيمة العمل وقيمة المواد اللتين قدمهما المقاول وساهم بهما في إنجاز المشروع، فإذا كانت قيمة المواد المقدمة لإنجازه المشروع فالعقد بيعا، أما إذا كانت قيمة العمل أكثر فالعقد مقاولة.
وبالإضافة إلى هذا المعيار الاقتصادي ثم اللجوء إلى قاعدة تبعية الفرع للأصل للحسم في مثل هذه الحالات. وذلك عندما تتساوى قيمة العمل مع قيمة المواد المقدمة لإنجازه. حيث يصعب ترجيح إحدى العقدين على الآخر.
وباعتبار أن الأرض دائما هي الأصل فإن المواد المقدمة حتى ولو كانت قيمتها تفوق قيمة العمل فإن العقد يعتبر مقاولة وليس بيعا.
وأمام صعوبة هذه التكييفات يتعين عدم إغفال إرادة الأطراف المتعاقدة التي يبقى لها كامل الصلاحية في تحديد القواعد الواجبة التطبيق مادام تعاملهم لا يخرج عن نطاق القانون والنظام العام.
رابعا: البيـــع والوديعـة.
الوديعة وفقا للفصل 781 ق ل ع هي:”عقد بمقتضاه يسلم شخص شيئا منقولا إلى شخص آخر يلتزم بحفظه وبرده بعينه”.
فالوديعة تتم دون أن يتحقق نقل لملكية الشيء المودع لديه بخلاف البيع.
وفي هذه النقطة تختلف الوديعة عن البيع، فالبيع يترتب عليه نقل الملكية من البائع إلى المشتري، في حين أن الوديعة لا تنقل إلى المودع لديه سوى الحيازة المادية للشيء.
ورغم هذا الفارق فقد يحدث التباس بين العقدين كما هو الحال عندما يودع المؤلف عددا من الكتب لدى إحدى المكتبات لكي تتولى بيعها بثمن محدد تأخذ منه نصيبا……. . فهذا العقد يشبه الوديعة في أنه يتضمن إيداع الكتب على ذمة المؤلف. لكنه يختلف عنها في أن الوديع يرد الشيء عينه، أما المكتبة فترد النسخ أو ثمنها بعد استنزال نصيبها من ذلك الثمن.
ويذهب الرأي الراجح في الفقه إلى أن العقد في هذه الحالة لا يعتبر وديعة، لأن المودع لديه (الوديع) لا يلتزم برد الشيء ذاته، ولكنه يعتبر بيعا تحت شرط فاسخ.
وهكذا بعد ما تطرقنا في الفصل الأول من هذه الدراسة إلى المقتضيات العامة الخاصة بالعقد الناقل للملكية، وذلك من حيث تعريفه وبيان خصائصه، وتمييزه عن غيره من العقود التي قد تشتبه به، نتطرق في الفصل الثاني إلى إبرام عقد البيع وتبيان الأركان والشروط اللازمة لقيامه.