تشهد المملكة المغربية في الآونة الأخيرة تغيرات ديموغرافية كبيرة تلعب دورًا محوريًا في إعادة تشكيل سوق العمل وفرض تحديات جديدة على الاقتصاد الوطني. ويبدو أن هذه التغيرات قد أسهمت في تحولات جذرية في التركيبة السكانية، مما يتطلب استجابة سريعة من السلطات لتوجيه هذه التحولات نحو تعزيز النمو الاقتصادي المستدام.
وفقًا للمعطيات الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط في تقريرها الأخير، يشهد المغرب تراجعًا تدريجيًا في معدلات الخصوبة، مما يؤدي إلى انخفاض معدل نمو السكان في بعض المناطق. ويفسر هذا التغير الانتقال الديموغرافي من مرحلة النمو السكاني المرتفع إلى مرحلة النمو السكاني المنخفض، حيث تساهم هذه التغيرات في ارتفاع نسبة كبار السن مقابل الشباب، مما يفرض تحديات على النواحي الاقتصادية والاجتماعية.
من أبرز التأثيرات التي يترتب عليها هذا التحول الديموغرافي هو تغير طبيعة القوى العاملة. فمع تزايد أعداد كبار السن، بات من الضروري أن تتكيف سياسات سوق العمل مع هذا التغيير. من جهة، يشير الخبراء إلى أن المغرب يعاني من نسبة مرتفعة من البطالة بين الشباب، خاصةً في فئة الخريجين الجامعيين، وهو ما يتطلب ابتكار حلول لتشغيل هذه الفئة وتوظيف مهاراتها في القطاعات المتنوعة.
أما من جهة أخرى، فإن ازدياد نسبة كبار السن في المجتمع يتطلب ضرورة مواءمة العمل مع احتياجات هذه الفئة، بما في ذلك تحسين ظروف العمل وتنظيم سوق العمل ليكون أكثر مرونة في مواجهة متطلبات هذا التحول.
يقول الدكتور جون هارفي من المعهد الدولي للدراسات الاقتصادية: “إن التغيرات الديموغرافية لها تأثيرات بعيدة المدى على إنتاجية العمل في أي بلد، ومما لا شك فيه أن تأخير التقاعد وزيادة مستوى العمل اللائق لكبار السن يعد أمرًا بالغ الأهمية”. وتشير التقارير العالمية إلى أن ارتفاع معدل مشاركة كبار السن في سوق العمل يمكن أن يساهم في استقرار الاقتصاد من خلال تعزيز الإنتاجية.
وفي هذا السياق، يتوقع العديد من الاقتصاديين أن تُسهم هذه التحولات في دفع الحكومة المغربية إلى إعادة النظر في سياسات التقاعد والرعاية الصحية الاجتماعية لضمان استدامة سوق العمل في المستقبل.
من الناحية الاقتصادية، يمكن القول إن التغيرات الديموغرافية تفرز تحديات جديدة على مستوى التنمية الاقتصادية. فعلى الرغم من انخفاض معدلات الخصوبة في المغرب، مما يؤدي إلى تراجع عدد المواليد، فإن عبء الحفاظ على التوازن بين الأجيال سيتزايد. ويشير البنك الدولي إلى أن الدول التي تعاني من تزايد أعداد المسنين تحتاج إلى استثمارات في التكنولوجيا الحديثة لتعويض قلة القوة العاملة، وهو ما يتطلب من المغرب توفير بيئة حاضنة للابتكار وتنمية قطاعات اقتصادية جديدة مثل التكنولوجيا الرقمية والطاقة المتجددة.
يبدو أن الرؤية المستقبلية لسوق العمل في المغرب ستعتمد على كيفية استجابة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للتغيرات الديموغرافية. وفي هذا الصدد، يتعين على الحكومة المغربية العمل على تطوير سياسات مرنة تدعم الاندماج الكامل للشباب في سوق العمل، مع التركيز على رفع مهارات الأجيال القادمة لمواكبة التحديات الاقتصادية.
كما يُعتبر تعزيز التعليم المهني والتقني، وتحسين المناخ الاستثماري من أولويات السلطات في المغرب لتحقيق تكامل أكبر بين التعليم وسوق العمل، وهو ما يعزز قدرة الاقتصاد على التعامل مع التغيرات الديموغرافية بفعالية.
إن التغيرات الديموغرافية في المغرب تحمل في طياتها تحديات كبيرة لسوق العمل والاقتصاد بشكل عام، ولكنها أيضًا فرصة لإعادة النظر في السياسات الاجتماعية والاقتصادية. إذا تم التعامل مع هذه التحولات بحذر وذكاء، فإن المغرب قادر على تحويل هذه التحديات إلى فرصة لتحقيق نمو اقتصادي مستدام ومتنوع.
المصدر : فاس نيوز ميديا