من سلسلة : “فاس : ملاحم الروح والدم في سجل الخلود”

في حلقاتنا السابقة، عشنا معاً تفاصيل انتفاضة فاس المجيدة في أبريل 1912، وتتبعنا بطولات أبنائها وتضحياتهم الجسام في مواجهة المستعمر، ورأينا كيف روت دماؤهم الزكية أرض الوطن، وكيف كان كل فاسي، رجلاً وامرأة، عالماً وعاملاً، رمزاً للصمود والإباء.
لكن، ماذا حدث بعد أن أخمدت القوة الغاشمة لهيب الانتفاضة المسلحة؟ هل استسلمت فاس وانطفأت فيها روح المقاومة؟ حلقة اليوم تجيب عن هذا السؤال، لتكشف كيف تحولت جذوة الرفض إلى أشكال أخرى من الصمود والتحدي.
رماد تحت النيران : محاولات إخماد الروح الفاسية

لم يكن المستعمر الفرنسي ليغفر لمدينة فاس انتفاضتها الجريئة. فبعد أحداث أبريل 1912 الدامية، فرضت سلطات الحماية حصاراً حديدياً على المدينة، ونفذت حملة قمع وحشية بهدف كسر شوكة المقاومة وإرهاب الأهالي.
صدرت أحكام الإعدام، وامتلأت السجون بالمناضلين، وجُرد السكان من أي وسيلة للدفاع، وفرضت رقابة صارمة على كل شاردة وواردة، كان الهدف واضحاً: قتل روح الرفض في مهدها، وتحويل فاس إلى مدينة خاضعة صامتة، لضمان عدم تكرار ما حدث، لقد عاشت فاس سنوات عجافاً تحت وطأة القمع، وظن المستعمر أنه نجح في إخماد أنفاسها إلى الأبد.
الجمر تحت الرماد : المقاومة الثقافية والفكرية الحصن المنيع

لكن روح فاس لم تمت، فإذا كانت المقاومة المسلحة قد أُجهضت مؤقتاً بفعل التفوق العسكري للمحتل، فإن المقاومة الحقيقية، تلك التي تسكن العقول والقلوب، ظلت متقدة كالجمر تحت الرماد، لقد أدرك علماء فاس ومثقفوها أن المعركة لم تنته، وأن الحفاظ على الهوية هو السلاح الأمضى في مواجهة سياسات المسخ والتغريب التي انتهجها المستعمر.
و هنا، برز الدور التاريخي لجامعة القرويين العريقة والمساجد والمدارس القرآنية والكتاتيب، تحولت هذه المؤسسات إلى قلاع حصينة للدفاع عن اللغة العربية، ونشر العلوم الشرعية، وتعليم التاريخ الوطني، وترسيخ القيم الإسلامية والوطنية في نفوس الناشئة، كان الدرس في رحاب القرويين، أو في زوايا المدينة العتيقة، لم يعد مجرد تلقين للمعرفة، بل أصبح فعلاً مقاوماً، وتأكيداً على الذات الحضارية في مواجهة محاولات الطمس. إن كل آية قرآنية تُتلى، وكل حديث نبوي يُشرح، وكل بيت شعر عربي يُنشد، وكل حقيقة تاريخية تُروى، كانت بمثابة طلقة في معركة الوعي والهوية.
رفض الأمر الواقع : المقاومة الصامتة والسياسية الناشئة

إلى جانب المقاومة الفكرية، تجلت عبقرية الفاسيين في أشكال أخرى من الرفض الصامت واليومي للاحتلال. فالتشبث بالزي الوطني التقليدي، والمحافظة على العادات والتقاليد الأصيلة، ومقاطعة بعض مظاهر الحياة الأوروبية التي حاول المستعمر فرضها، كلها كانت تعابير رمزية ولكنها عميقة عن رفض الأمر الواقع والتمسك بالذات.
و بدأت تظهر في الخفاء، وبشكل حذر، بذور مقاومة سياسية منظمة. ففي المجالس الخاصة، وبين ثنايا اللقاءات السرية، بدأ الوطنيون الغيورون يتدارسون الوضع، ويخططون للمستقبل، ويبحثون عن سبل جديدة لمقاومة الاحتلال، تتجاوز المواجهة العسكرية المباشرة إلى العمل السياسي والتنظيمي. كانت هذه هي النواة الأولى للحركة الوطنية التي ستلعب دوراً حاسماً في معركة الاستقلال لاحقاً، إن رفض التطبيع مع المستعمر، والسعي الدائم لتقويض مشاريعه، كان ديدن الكثير من أبناء فاس في تلك الفترة الصعبة.
فاس لا تستسلم : المدينة كقلعة صامدة للتحدي

رغم كل محاولات القمع والتضييق، ورغم الجراح الغائرة التي خلفتها أحداث 1912، ظلت فاس رمزاً للصمود والتحدي. إن تاريخها المجيد، ومكانتها الروحية والعلمية، جعلت منها دائماً شوكة في حلق المستعمر، ومصدر إلهام دائم للوطنيين في كل أنحاء المغرب، لقد بقيت ذاكرة الشهداء والتضحيات حية في قلوب أهلها، تنتقل من جيل إلى جيل، لتغذي فيهم روح الوطنية وتدفعهم إلى مواصلة النضال، إن صمود فاس في وجه المحن، وقدرتها على الحفاظ على هويتها وروحها، كان في حد ذاته أعظم أشكال المقاومة.
رسالة الحلقة : الروح الوطنية لا تموت

تُعلمنا هذه المرحلة من تاريخ فاس أن المقاومة ليست فقط بالسلاح والمواجهة المباشرة. فعندما تضيق السبل، يبتكر الأحرار أشكالاً جديدة للنضال. المقاومة بالفكر، والثقافة، والتعليم، والتمسك بالهوية، ورفض الأمر الواقع، كلها أسلحة لا تقل فتكاً بالمستعمر عن الرصاص. لقد أثبت أهل فاس أن الروح الوطنية الحقة لا يمكن أن تموت أو تُقهر، وأنها قادرة على التجدد والانبعاث من تحت الرماد، لتواصل مسيرة الكفاح حتى تحقيق النصر.
في الحلقة القادمة بإذن الله : سنتناول كيف يمكن لأجيال اليوم أن تستلهم من هذا التاريخ المجيد العبر والدروس، وكيف نحافظ على وصية الأجداد في الدفاع عن الوطن وصون كرامته. فكونوا في الموعد مع “فاس نيوز”.
المصدر : فاس نيوز ميديا